دردشات حول وباء التملق
زكريا كردي | امستردام
هناك قولٌ قديمٌ يقول أنه إذا ما أردتَ أن تقولَ لأحد ما شيئاً من الحقيقة فاجعله يضحك ،
لأن المرء عندما يضحك ، أو يشعر بالغبطة ، تنفرج سرائره و يصبح مستعداً نفسياً اكثر ، كي يستقبل أشد الحقائق مخالفة له ، و أخطرها..
ولعل اسهل طريقة لجعل السامع يطرب لما تقول ويتقبل ما لا يعتقد أو يؤمن ،هي إجادة حسن التملق له.. والتملق لغوياً في لسان العرب :
تملَّق الشَّخصَ ، مَلِقَه ؛ تودّد إليه وليَّن كلامَه وتذلّل، وأبدى له من الودّ ما ليس في قلبه، أي تضرّع له فوق ما ينبغي، داهنه “.
والملق: هو الود واللطف الشديد، وقيل: هو الترفق والمداراة ، والمعنيان متقاربان ، ملق ملقا وتملق وتملقه وتملق له تملقا وتملاقا أي تودد إليه وتلطف له ،
قال الشاعر : ثلاثة أحباب :
فحب علاقة ، وحب تملاق ، وحب هو القتل ..
ورجل ملق : أي يعطي بلسانه ما ليس في قلبه، والملقة : الحصاة الملساء ، والإملاق : الفقر الشديد. ويقال أملقته الخطوب أي أفقرته . وملقه بالسوط والعصا يملقه ملقا : ضربه .
ليس مستغربا عندي الأن، أن معظم من دخلت معهم بحوارات فلسفية قوية، وهزموا بالحُجّة كانوا يمفتونني ، بينما معظم من استعملت معهم التملّق ، ووافقت هواهم وضلال أفهامهم، كسبت مياشرة في قلوبهم المكان الأرحب..
بل و كثيراً ما كان يخف ودهم بقلة تملقي لهم …
ومن المعلوم أن الإنسان لا يستطيع حكيما باستمرار او أن يتحكم بمزاجه دائما ، و جعله على وتيرة واحدة طوال الوقت ، خصوصاً عندما يتصل الأمر بالمناقشات المنطقية والعقلية الجادة ،..
فيكون من الصعب أن تقرر متى يكون وقت الهدوء صائباً..
لكن من المؤكد أنه مادام التملق غير ظاهر الزيف فأنت بأمان . وإلا وقع فيك الشك ، وعندها قد لا تجني سوى الفهم الأفضل لذكاء الآخرين..
و ربما يكون من الفجاجة إعطاء الناس إحساساً بالأهمية ، وبتعبير آخر تملقهم ، لكن تبيَن لي مؤخراً أنه الاسلوب الفعال في كسب القلوب لفترة طويلة..
وهنا لا بد من القول ان التملق فيه منافع كثيرة.. وهو ليس مقصورا على جنس دون آخر ، أي ليس صحيحاً أن الغانيات يطربهن الثناء فقط ، بل اتضح لي أيضا الرجال يطربهم وأكثر..
وبالمناسبة ، التملق ليس مقصوراً على أصحاب الثقافة المتدنّية ، بل يمتد ليشمل حتى أولئك حازوا على العلم الوفير ، والذين يدعون انهم مثقفون ،
وهنا أقول كلمة ( يدّعون ) لأن الفعل الثقافي كما أزعم ، فعل كشف وجرأة و موضوعية ، وليس تملقاً أو مداهنة بأيّ حال من الأحوال..
وقد بدا لي ان التملّق يساعد على كشف حقيقة شخصيات الآخرين ، وتهافت خطابهم ، وكذلك يساعد على معرفة قدرات المتملق نفسه في التمثيل والايحاء وحسن التواصل..
ولكن وللحق ، تبقى المشكلة الأسوأ في فعل التملق ، انه اذا ما فقد المرء التحكم بمقداره ، أو أساء استعماله، بالوقت والمكان المناسبين ، قد يعطي نتيجة عكسية ، تجعل الاخر يشك في نواياك في سهولة ..
لكن في المقابل، هناك من يظن ، انه لا داع للتملق على الاطلاق ، لطالما انك تتحدث مع إنسان عقلاني وليس تافهاً أو هبنقة في المعرفة ، فقط ” قل ما تقصد ، واقصد ما تقول “، بعيداً عن الكياسة والسياسة وتنميق العبارات في الطلب أو الفكرة المقصودة …
أو على حد تعبير احدهم :
ليس بالضرورة ان تكون مهذباً في كل ما تقول أو تفعل ..يكفي أن تكون على حق ..
على أيّة حال ، يبقى التملّق – في ظني- حيلة رخيصة مؤسفة ولكنها للأسف الشديد تنجح غالباً.وبخاصة في زمن التدهور العقلي المريع الذي نعيشه ..
رحم الله رهين المحبسين حين قال :
ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناس فاشيا تجـاهلتُ حتى قيـل أني جـاهـلُ
فَوا عجباً كم يدّعي الفضلَ ناقـصُ ووا أسفاً كم يُظهر النقصَ فاضلُ
للحديث بقية ..