اللغة العربية من الثقافة والتثاقف حتى العولمة
هدى مصطفى محمد| أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية بسوهاج
تعد اللغة العربية لغة عالمية بكل معني الكلمة. وكيف لا تكون لغة القرآن لغة عالمية! وهو وعاء الإسلام الذي يزداد انتشاره يوماً بعد يوم، وهي اللغة المحفوظة من خالق الكون ومدبره قال تعالى “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” الحجر/ 9. ففي حفظ القرآن حفظاً للغته المميزة التي دُوِّن بها، ولايجوز تدوينه بسواها، وبها تقام الصلاة والعبادات الإسلامية، وهي لغة شعائرية لكثير من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما دونت بها كتب دينية وفكرية يهودية في العصور الوسطى.
وتأتي اللغة العربية في المرتبة الرابعة من حيث الانتشار، والأهمية، بعد اللغة الانجليزية واللغة الصينية والهندية. وتأتي كذلك في المرتبة الرابعة من حيث صعوبتها ويزيد عنها صعوبة الصينية فالكورية ثم اليابانية.
وتأتي اللغة إلى جانب الدين كمقومين أساسيين لأي هوية وثقافة إنسانية، والثقافة العربية قوامها اللغة العربية والدين الإسلامي.
واللغة العربية التي تمثل الأداة الرئيسة للثقافة العربية، وخطابها قد أثبتت ذاتها ودورها الرئيس في الحفاظ على ثقافة العرب وحضارتهم، كما نجحت عبر التاريخ في التواصل مع الآخر والتثاقف مع اللغات الأخرى والإفادة منها، لاسيما عن طريق الترجمة، حيث كان لها دور بارز ومؤثر في الثقافة الإنسانية عامة. فقد قدمت إنجازات وإسهامات أبنائها من العلماء والأطباء والمفكرين والتي تُرجمت أعمالهم إلى اللغات الأخرى.
وكما أن الترجمة نقلت الثقافة العربية إلى الثقافات الأخرى فقد نقلت العلوم المختلفة من لغات أخرى غير العربية إلى اللغة العربية مما أثر بشكل واضح في نمو الحضارة العربية. وقد نجح المترجم العربي في نقل نصوص مختلفة بلغة أجنبية وأضفى عليها أسلوب وخصائص اللغة العربية حتى ذابت هذه النصوص وأصبحت وكأنها جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، ورباعيات الخيام خير مثال على ذلك.
وما إن حلت العولمة حتى كادت اللغة العربية أن تتهاوى أمام اللغات الأخرى بصنع أهلها، فقد تم الترويج لبعض المقولات التي تسهم بشكل واضح في هدم اللغة العربية، كالقول بأن اللغة الانجليزية هي لغة عالمية. وهذا ما نفاه هنتجون في كتابه “صدام الحضارات ” عام 1997 بإثباته أن القول بعالمية اللغة الانجليزية ما هو إلا وهم كبير، بل إن المعلومات المتوفرة تظهر عكس ذلك، فقد كان الذين يتحدثون الانجليزية في العالم لايزيد عن 7% .
وإن كان هذا هو الحال عام 1997، فالحال قد تغير عام 2020، حيث مثلت نسبة المتحدثين بالانجليزية حوالي 25 % ، وهذه الزيادة الكبيرة لصالح اللغة الإنجليزية يجب أن نتأملها لنقدر الجهود التي يبذلها أهل هذه اللغة في نشرها؛ فقوة اللغة من قوة أهلها، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك من يستخدمها لتحقيق بعض المصالح ول اتمثل لغتهم في الاستعمال. والاستعمال اللغوي هو المؤشر الأقوى لانتشار اللغة، والحكم على عالميتها من عدمه وللأسف أننا في مجتمعاتنا العربية ودون ضرورة تذكر نسعى لتحقيق الاستعمال للغة الانجليزية على مستويين الأول: العام الشعبي والثاني الرسمي المؤسسي.
فعلى المستوى العام تأتي بعض المظاهر، والتي منها محاولات الظهور من قبل بعض الفئات بامتلاك مقومات التمدين؛ فيحاولون صبغ لغتهم وتطعيمها بألفاظ أجنبية، ويترفعون دون تعليم أبنائهم لغتهم العربية وكأنها وصمة عار ويتباهون بامتلاك اللغات الأجنبية؛ بما يشير وكأنه ولع بهذه اللغات! وفي ذلك تصديق لقول ابن خلدون بأن” الشعوب المغلوبة تولع بالغالب، بما في ذلك لغته وثقافته وعلومه”. ولا شك أن المجتمعات العربية في هذه الآونة تعاني من هزائم نفسية تجعل منهم مغلوبين أمام المتحدثين باللغات الأجنبية، وهذا لا يقتصر على المستوى المحلي، بل تعداه إلى المستوى العالمي؛ مما جعل بعض الدبلوماسيين يشير إلى أن العرب في الاجتماعات والندوات يقصرون استخدام لغتهم في بياناتهم وتقاريرهم الرسمية، أما في الاجتماعات التمهيدية أو غير الرسمية فهم يستخدمون اللغة الانجليزية أو الفرنسية، فهم يتخلون بوضوح عن لغتهم الأصلية. ومن المظاهرالتي على المستوى العام أيضاً شيوع اللغة الانجليزية في لافتات المحلات التجارية وبين العاملين ببعض الشركات والمصانع والبنوك التي لا تتطلب طبيعة عملها استعمال اللغة الإنجليزية.
أما على المستوى الرسمي فيأتي من خلال ما تتبناه الدولة من قرارات ولاسيما ما يخص التعليم؛ فعندما يتم التوسع في افتتاح المدارس الأجنبية (إنجليزية – فرنسية – ألمانية ) بالتوازي مع المدارس التي تتخذ من اللغة العربية أساساً لها ، ومع التمايز الملحوظ للمدارس الأجنبية. وعندما تكون اللغة الإنجليزية مقررة كمادة أساسية من الصف الأول الابتدائي وقبله في سني الروضة مع تجاهل كل نتائج البحوث التي أشارت إلى عدم جواز تعرض الطفل في سنوات تعلمه الأولى للغة أخرى غير لغته الأم وأن الصف الرابع هو الصف المناسب لإدخال اللغة الأجنبية.
هنا يجب أن تكون وقفة التأمل والمراجعة.
ومن هنا يمكن القول: إن لغتنا العربية نجحت في أن تكون لغة ثقافة وتثاقف لكن أهلها فشلوا في مواجهة العولمة؛ فالعولمة تضرب عناصر الهوية الأساسية المتمثلة في اللغة والدين والتاريخ وللأسف أن تغييب الوعي اللغوي العربي المتعمد يعمل كمعول هدم للغة العربية التي دافع عنها أجدادنا. فنحن بأيدينا نهدم هويتنا وننساق وراء صيحات العولمة التي تتحدى لغتنا، وتحاول إفشالها. ولكن الأمل معقود على أن ينجح العرب في إنجاح اللغة العربية كلغة عالمية تقهر العولمة كما نجحت من قبل كلغة ثقافة وتثاقف.