شاوشانك الثقافة المصرية والمساحة الخضراء

فرحات جنيدي | كاتب مصري

شهد التاريخ حالات نادرة فقدت فيها الحقائق قيمتها ولم تهتم بها البشرية. وأظن من وجهة نظري أن الضمير الإنساني والعقل المدرك لقيمة الأشياء يشترك معنا في وضع قانون إنساني مفاده “ما لا يفيد يضر وما يضر لا قيمة له.” ومن هنا جاء الرفض لتلك الحقائق، فتارة نراه يتجاهلها ويحط من قيمتها أو يحتقرها ويلقي بها في مزبلة التاريخ تارة أخرى، لكنه لم يحاول نفي تلك الحقائق . وعلى سبيل المثال لم تهتم البشرية بالكثير من الحقائق حول حياة عملاق الأدب الروسي والعالمي دوستويفسكي من معتقل في معسكر سجن سيبيريا إلى مقامر في قاعات أوروبا وصالونات سان بطرسبرج الراقية أو دوستويفسكي المصاب بالصرع والذي واجه الموت عشرات المرات بل اهتم بدوستويفسكي الإنسان المفكر الذي أنتج إبداعاً أدبياً وفكرياً تمكن من خلاله من اختراق أعماق النفس البشرية. ونقرأ عن بنيتو موسوليني الذي وصل للحكم بانتخابات حرة نزيهة في إيطاليا ورغم ذلك ألقى به الضمير الإنساني إلى مزبلة التاريخ ولم يبقيله في ذاكرة البشرية والتاريخ إلا أنه هو الذي تأسس في عهده أول مهرجان سينمائي وهو مهرجان “البندقية” وأستوديوهات تشينيتشيتا، أو أنه هو الذي قتل القائد العربي عمر المختار الذي عاش أسداً ومات بطلاً واقفاً على رجليه بينما قاتله قتله العامّة مُعلّقا من رجليه ورأسه للأسفل في ميدان عام . ولقد رصد لنا التاريخ أيضا حقائق غريبة فقبل خمسمائة عام قبل الميلاد دعا بيثاغوراس أتباعه إلى عدم أكل الفاصوليا وبعد حوالي ألف عام من الميلاد أصدر بعض آباء الكنيسة الأوائل غير المعروفين المرسوم التالي: “لا تتزوجوا بنات عمكم.”! لماذا أصدروا هذا القرار و لماذا أصدر بيثاغوراس قراره؟ لا أحد يعرف وحتى الآن لم يذكر أساتذة التاريخ والفلسفة تفسيراً لهذه القرارات ولماذا تم إصدارها.

إن كل ما ذكر من حقائق يدعونا للبحث عن حقائق أكبر كثقافات العالم المستمدة من الحضارات الأولى ” السومرية و المصرية و الإغريقية و الصينية” وكلها تعرضت للإضعاف والتهميش والتجاهل تارة من الآخر وتارة من أبناء تلك الثقافات. ولنبدأ بالحقائق التي ذكرها العملاق الراحل سليم حسن عن مصرنا الحبيبة في مقدمته، إن كتاب “فجر الضمير” الذي وضعه جيمس هنري برستيد عام 1934 يدلل على أن “مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول، بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير. وهذه الحقائق التي ذكرها سليم وبرستيد والعشرات من علماء التاريخ من أوربا والعالم كله هي الحقائق الوحيدة التي مرت بكل المراحل عبر العصور فتارة تجدها في قمة سلم الاهتمام وتارة في أسفله ويعود ذلك إلى السلطة الحاكمة الأجنبية عن مصر والتي تغيرت وتباينت من رومان وفرس ومماليك وفرنسيين وأتراك وإنجليز، ومحاولة فرض ثقافتهم على مصر وجعلها تعيش مئات السنين من التجاهل والتهميش والإضعاف للحقائق، حتى جاءت ثورة يوليو وبدأت الدولة المصرية تستعيد وجهها الحقيقي فعاودت الحقائق في الصعود مرة أخرى بعدما دعا النظام الجمهوري إلى الاهتمام بالثقافة والفنون ووفر لها كل الوسائل لتصل إلي كل مكان في مصر، وكان اختيار أبناء يوليو للدكتور ثروت عكاشة اختياراً جيداً حيث نجح في الحفاظ على الهوية المصرية ورفع راية ثقافتها وفتح المجال أمام البعثات الغربية والتي بدورها عثرت على الكثير من الكنوز وكشفت عن الكثير من الأسرار .

وبعد النجاح الكبير للثقافة المصرية في التأثير في محيطها العربي والإسلامي والافريقي عاودت الانكماش مرة أخرى، فلحقت بركب الثقافة السومرية في بلاد الرافدين التي انهارت أمام مخططات الفتنة والمذهبية والحروب ووسط كل هذه الأمور أصبح تجاهل الحقائق أمراً واقعاً وكذلك الأمر في الثقافة الإغريقية والتي ضعفت بسبب الانهيار الذي حدث في اليونان والتطور العلمي والثقافي في أوروبا وبينما قاومت الثقافة الصينية واستطاعت النجاة بل وفرض نفسها في المحافل الدولية بالتشابك والالتحام مع التطور والثقافات الأخرى. أما نحن في مصرنا الحبيبة فمازلنا نعاني السقوط والانكماش فلقد فقدنا وجودنا في أفريقيا وفي محيطنا العربي والإسلامي بسبب مخططات العدو التي تسعى إلى تدمير الحقائق وتجهيل الشعب المصري وتدمير ثقافته. ولهذا انتشر الفساد والمحسوبية فسقطت وزارة الثقافة وهي التي كانت حائط الصد الأول لمخططات العدو فشهدنا قيادات غير مؤهلة في مواقع صناعة الوعي وبناء الإنسان وأصبح المبدع مدعياً والمدعي مبدعاً وتاهت الحقائق في أروقة هيئات وزارة الثقافة وانهارت في القري والنجوع والمدن البعيدة عن العاصمة بعدما أغلقت أبواب الثقافة الجماهيرية في وجه أبناء الشعب وتحولت إلي شاوشانك سجن كبير لا يعيش فيها إلا المحطمون من الموظفين ومدَّعي الإبداع. وباستمرار هؤلاء أصبحت الثقافة والمثقفون سجناء داخل سجن شاوشانك الثقافي لا يُسمح لهم بالخروج من زنزاناتهم ومن يخرج منهم لابد أن يكون مسلوب الإرادة محطم الفكر. أما خارج نطاق شاوشانك فمهما كان المكان تراه دائماً أخضراً حيث شاهدنا أبناء الريف المصري المحافظين على التقاليد يختارون المخرج خالد يوسف نائباً لهم ولم يفتشوا في حياته الخاصة، إنما فصلوا بين الاثنتين واختاروه ومع ذلك أضطر بعد مواقفه المعارضة أن يطوى صفحة السياسة والبرلمان، ويسافر خارج البلاد بعدما حاولوا إدخاله شاوشانك الثقافة لكنه اختار أن يكون في المساحة الخضراء فتم تسليط الضوء على حياته الخاصة وأهملوا الحقائق الأهم وهي دوره كمبدع قدم الكثير من الأعمال السينمائية التي شكلت الوعي عند أبناء الشعب وكذلك الدور الاستثنائي الذى لعبه أثناء الانتفاضة الشعبية فى 30 يونيو. والبعد السياسي لانتخابه في الدورة الأولى في انتخابات 2015 كان له رسالة مفيدة فى الداخل والخارج بأن هناك مخرجاً كبيراً، يعيش فى بيئة فنية متحررة، ويتم انتخابه وعلى جانب آخر نقرأ للكاتب الكبير السيد حافظ تصريحاً على صفحته الشخصية يقول فيه: قال لى فلاديميير شاجال المستشرق السوفيتى فى 1983 فى الكويت “يجب أن تبحث عن وظيفة حكومية كبيرة فى مصر لتكون مشهوراً جدا قلت له أدباء الحكومة دائما هم أضعف الأدباء أو أشباه الأدباء والذين يتم اختيارهم ليكونوا خدماً وعبيداً في وظائف كبرى ولا يهم أن يكونوا أدباءً كبار الموهبة” ثم ضحك….وقال اسمع كلامى….ولكنى لم أسمع وخسرت كل شيء إلا نفسى.

ومن هنا نكتشف أن ما بداخل الوزارة هو جحيم ولا يوجد حتى مكان لينمو فيه العشب وأما خارجها فهو الأمل، لذلك فهو دائماً أخضر. ومن هنا يأتي السؤال الأهم: هل نحن في حاجة لتغيير بعض القيادات أو كل القيادات في وزارة الثقافة المصرية؟ أم نحن في حاجة إلي تغيير ثقافة وسياسة القيادات بها؟ أم نحن بالفعل في حاجة ضرورية لتطوير وتنمية قدرات وثقافة الشخصيات المؤهلة لحمل الراية لتحل محل القيادات السابقة بالوزارة ؟ أم نحن في حاجة إلي عودة من هربوا إلى المساحة الخضراء بعدما رفضوا التهميش والتجاهل وابتعدوا عن الصراعات على المقاعد وسلاسل النشر دخل شاوشانك الثقافة المصرية؟ تساؤلات كثيرة والإجابات متروكة لكم والأخذ بها وتنفيذها متروك للجهات العليا أصحاب القرار؟ أما أنا فسوف أستعرض لكم في الحلقات القادمة التاريخ الرسمي لبعض قيادات وزارة الثقافة المصرية ودورها الإيجابي والسلبي حتي تكتمل أمامكم وأمام التاريخ الصورة الكاملة. ومهما كانت النتائج فنحن لا هدف لنا إلا أن نعيد الحقائق التاريخية لثقافتنا وأن نهدم أسوار الشاوشانك التي بناها الفشلة من الموظفين ومدعي الإبداع لتصبح المساحة كلها خضراء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى