مانفيستو المرأة ، في يومها

المتوكل طه | فلسطين

أنا روحٌ تّتسع وتنبض، تَدْفق سابحةً، وتتكوّر ضوءاً في عتماتٍ ثلاث، وتخرجُ شجرةً من شغفٍ وأحلام ، وتمضي، لتعودَ إلى رَحْمٍ ورديّ آخر، لأكون شاهدةً على ما كان، بمشيئةٍ كونيّة، هي بيد الأعلى الذي يقبض الخير ويبسِطه ، فلا ترسمني، ولا تحددّْني بكلماتٍ بشريّةٍ سائحةٍ بدلالاتها، ولا تقدّمني امرأةً من لحمٍ ودَم .

أنا الآلهةُ المعُذَّبةُ، العالية، التي حطّوها ليصلوا إلى ذروة الصفصاف، فتشرب ما نزّ من وجع أو فرح، وتبقى الراسخة التي تحيل الماء المكدّر إلى هتاف يعلو في الشواشي الخافقة.

وأنا صحن العسل المالح، والحامض الحلو، المرغوبة المتروكة، المُطْفَأة المشتعلة، واجبة الوجود في كل العصور، التي وأدوها، فقامت كالنبيّ الشاب من موته، والتي جزّوا بشفرات الغلظة ضفائرَ لذّتها، وطالبوها بمدّ بساطها المدبوغ ليتمّرغوا في مسْكب الورد.

تجاوزتُ مقولات الإحلال ومفردات التقمّص وكل ما اجترحه المتأمّلون والمتوهّمون، فثمة ما لم يدركه البشر. فأنا العائدة من حياة إلى حياة، بشحمي وعينَيّ وقامتي. يبذلني أبٌ وأتزوّج رجلاً، وأضع صغاراً، وأفنى إلى حين، ليستلّني البارئ ويبعثني، مرةً أُخرى، فأرجع ممتلئة بحيواتي السابقة، ليكون لي غير ذاكرة من بهجة وشجن.

ربما أدرك كل تفاصيل حيواتي، غير أني أعي أموراً بعينها، قد تكون أغنية ضارية تلتصق مثل النار بوجداني، أو رجلاً من جمرٍ ريّان وتَمْر، أو دمعة سالت فتركت أخدوداً لا تَمّحي ندوبه، أو مشهداً، كأنه بسخونته يرسم قشعريرته على حديد لحمي.

تورّطت في الحبّ، وانغمستُ في ملح الشهوة، وحملتُ قلبي راكعةً للجليل الواسع، ليحمل عنّي أوزاري البريئة. ولحقني ظُلم فادح، وانفتحتْ لي كوّة صغيرة، كسرتْ الظلمة الغاشمة والويل المحيط.

ولي اسمٌ واحد، بشفاهٍ عدة، ومخارج بدّلت إيقاعاته، لكني أنا أنا، المُتّهمة بالجنون، وصاحبة الخيال المسحور، أو أن التهيؤات هي التي تخلق العوالم والحيوات التي أقرّرها أمامهم ويسمعونها ! فيفغرون أفواههم، بين مصدّق ومكذّب، ولا يجدون تفسيراً سوى رجْمي بما تيسّر من مسّ أو هوس أو غرابة.

فَصَدِّق أو لا تصدّق !

قد تقول إن نظريات علم النَفْس أكثر بُعداً وغوراً من أن تُدرِك أعماق الآدميين! وقد تقول إنّ الّلاوعي، الذي يسيطر على أكثر من تسعين بالمئة من تصرّفاتنا، هو المسؤول عمّا أقول، وماهي إلاّ تراكيب معقّدة ينفثها عالمي الجوّاني الملتبس. وقد تدّعي أنّ خيالي رَكّب وأعاد تشكيل كل ما سمعته من حكايا، وعَمِلتُ على تشذيبها وصقلها وتقديمها كما تُسمع!

لا!

لقد توالدتُ في معظم العصور، وكنتُ أدرج على براري الزمن، وأكْبُر في فضاءات الحقب المتوالية. وها أنذا بكامل الأهلية الشرعية والقانونية وبكامل قواي العقلية وبكامل رغبتي واختياري، وأنا حائزة كافة الشروط القانونية والشرعية، أعرف ما يصدر عنّي، وأفهم كل حرف يطفر من مخارجي، وكل كلمة تندّ عنّي، فارْقُبْ مسلكي وتصرفي ولغة جسدي وجُملي، ستعرف أنني طاهرة معافاة صادقة ، لم تبلغني اللعنةُ، ولم تشملني الأشباح بعباءاتها السوداء الموّارة في هُوّ الغموض، ولم يركبني مخلوق من نارٍ أو رعد أسطوري، ولم يحلّ بي نسغ يحمله الريح أو الماء، ولم ينفث في صدري كاهن، أو يتمتم على رأسي مَنْ آخى الكائنات المطموسة المخيفة.

أنا امرأة عاديّة إلى حدّ الإغراء والانكسار. أسيلُ كلّما أطلق الرجلُ أحصنتَه الألف في ضلوعي، أو أخْرَجَ أفراسَه من النهر مبللّة بالضوء، أو فحّت الأفاعي في ذراعيّ الباردتين. وأغضبُ من مرآتي إذا لم تخاتلني بزئبقها وتعطيني التفاحَة كاملة لآكلها تحت ظلالِ كُحلي العميق. وأرضى بعد أن أدلح حليبي في لهاة الرضيع الغضّ، أو يسحبه حبيبي من جنبات نهدي بأضراسه الرحيمة. وأرقص كالياسمينة ليلة أخْذ ابنتي إلى شفق الشروق. وأضحك حتى يُبرق الرمّان في رئتي، وأنا على ساحل الرضا والاكتمال، قبل أن تجرحه الأيام وتلوّثه النزعات الغيورة. وأبكي كلّما أخذتِ الليالي خلخالاً من سماوات سيقاني، التي إن وطِئت البحر أفقدته ملوحته.

لا أعلم الغيب، أو ما سيكون، غير أنّ ثمة مَنْ استرق السمع يأتيني، وينفث في أذني، وأعرف ما جرى، لأنني عشته وشهدته، ووقع بين يديّ وأمام ناظري.

ولطالما رأيتُ السبع المنحوت على جدار الكهف وهو يقبض بأنيابه على عنق الغزال، يخرج من رسْمته إلى الأرض، فيسير بجانبي، وأُحسّ بفرائه وهو يهفّ مسرعاً إلى الخارج، أو وهو يعود لاهثاً، يربض على مقربة منّي.

وتكاد أنفاس الفحل تلفح فخذي وهو يعبد طوْطمي الصغير، ويقبّله وينحني تحت إشارته النافرة، باعتباره بوابةَ الحياة واللذّة والخلود.

وكنت على مدار القرون صورةً مكرورة تحمل سلالها وصغارها ومنجلها، وتوقد نارها، وتغسل على الضفاف غلالات الستْر، وتنفرد ناضحةً بالزهور لقرن الغزال، وتصحو لتبعث بخار الصباح الفوّاح للماضين إلى الحقول والأبجديات.

ولم أتبدّل، بقدر ما أكرهتني الدنيا على ممرّات إجبارية، أو قادتني إلى مسارب أكثر رحابة وإنسانية، وظللتُ الرؤومَ التي يرمي الصغير والكبير رأسه على صدرها ناشداً الراحة، فأُمسِّد جدائلهم المُتعبة، وأنا المُستَنْفَدَة المهلوكة، فأُعلي غُصوني وأُحيطهم بظلال الرجوع إلى الرحم الأصل، حنيناً إلى الطبيعة الأولى.

كم أنتم مظلومون وظالمون أيها الرجال! تبدون كالأطفال في لحظات التماس أفياء الجسد، لتظهروا وحوشاً عند ظهيرة العَلن والتشاوف الأجوف المذموم.

إن وَهْمي ندى وظلال، وَوَهْمَ الرجل صلبٌ كالصوان، الذي يفغش رأس حامله! فهل أكرّر لعنتي وأسقطها عليكم، أم أبكي من أجلكم أيها المساكين؟!

وأنا المُدرِكةُ بأن الانتقام عاطفةٌ قد تسبب بمقتل صاحبها.

ولماّ يغلي دمي، ويخرّ الصهيل في عظامي، وينبعث النمل من بين الزغب والمسامات، أجد زوجي على شرفة البديلة، يتملّى تضاريس جارتي أو جاريتي، وأكاد أسمع نداءه لها.

وحين أرى في منامي أن حيواناً قاهراً يسعى ليأتيني، أمتلئ بلزوجة الوحش، الذي يسافد أنثى غيري، وعند الصباح أكشف عن لحمي فأجده متورّماً وعليه آثار المخالب وريح الوحش وبقايا مائِه الكريه.

لقد رمى السمَّ في بئري، ومياهي أحالتُه إلى زمزمٍ وسلسبيل.

لم يعترف لي رجل واحد من أزواجي بحق البلوغ إلى الرعدة. كانوا ينهزون بآلية الأرانب، ويتركون الخِرقة الآدمية معلّقة بين المقصلة والحامض الخانق. ولم يفتح واحد منهم أُذنيه لمطالبي، التي كتَمْتُها احتراماً لثلجي وناري وكثافتي الآدمية.

وأعرف أنّ الزواج ليس رومانسياً بالضرورة، لهذا خُلق الشِعر.

وأنا المهروسة تحت سنابك الليل والنهار، يريدونني أُمّاً كاملة الرحمة والخصب والامتلاء الساخن، وابنةً تطيع الذئب في إخوتها وإلهها القادم، وخليلةً تذيب جسدها قطراتٍ كثيفة في قبر كل فَمٍ متوثّب، وجاريةً تزيح الليل عن النجوم، وتهدّ البدر على الأطلال، وتمشي كالنبيذ المعتق في غبش العروق.

وإن قوة المرأة تكمن في شيء أعمق من الجَمال، وعلى المرأة أن تملك الرغبة وتعرفها.. لكي تمنحها، على رغم أن الرغبة أو المتعة هي التي ضيّعت الجنّة. والجَمالُ هو العقل.

وليس لي إلاّ أشكال الطاعة والسَمْع والخنوع، وأنا آية الجَمَال الذهبية، التي تعطي كل كتاب نهايته وقداسته وجدواه، وتجعل لمعانيه هالات وتيجاناً.

أنا ربّة الوشق. من دمي عندم المجنونة والجوريّ، ومن لبني وطأة المسك والقرنفل، التي تجعل الأيام لطيفة معقولة.

لا بأس! فأنا الواثقة مثل طوبى الممرعة، لأني برأتُ من الكراهية، وأرجو لك أن تشفى من إبرها المسمومة، المنقوعة بِسمّ أفاعيها الجرسيّة.

سأكون شهرزادك، وأنت العاجز عن قتلي، ولستَ بشهريار المريض. لكني سأنتصر لتراثي، وأنا أرى حياتي، التي لم تبدأ، أمام عينيّ، كما رأيت كل حيواتي الماضية، ولن أتحامل أو أحوّر أو أزيّف أو أجتزئ، بل سأفرد الحكاية كما هي، دون أن أدسّ هواي وأجعله ينسرب في تلافيف القصّة. وأظنّ أنه لا يوجد شيء اسمه تاريخ! فهناك وجهة نظر في التاريخ، أو ما وقع من أحداث في زمان ومكان ما، والتاريخ لا يتكرّر، لكنّ المؤرخين يكرّرون أنفسهم، لهذا سأكون عين الكاميرا المحايدة، التي تنقل ما جرى دون أن آخذ زاوية تُظهر وتُخفي، بل تضيء المشهد من كل جوانبه. و”النصر حليف المتحضّرين”.

أنا قطرة الماء السوّاحة بين الوهاد وأهداب الغزالة الناغرة، ألوذ ريقاً في جنبات الصخرة، فتأخذني أحزمة الشمس، وأبدو رذاذاً منتشراً مثل شَعر البنات، في حمولة الماء العلويّ، وتدفعني الريح فأسّاقط رهاماً، أو مطراً يئزّ، أو ثلجاً يندف بهشاشته الهرمة على البسيطة، لأصعد في لحاء لوزة أو شقيقة من وهج، أو أسيل مع جدول لتشربني فلاّحة تغوص بالطمي، وهي تحشّ أو تودع الفسائل أو تكفّر التراب على النوى، وأمشي في عروقها، وأرتقي مآقيها لأخرج دمعةً مالحةً أو حلوة، فتمسحني بكمّها الكتّان، وأتلاشى! لأرجع إلى عين الظهيرة الظمأى في مزْن تُغطّي النهار بأسداف داكنة، وأنزل إلى بحر أُجاج، وأعبر بطن سمكة تلتهمها سمكة أكبر.. وأدور.. وأتحوّل وأدور من مكان إلى زمان.. ولا أفنى.

كثيراً ما رأيت الجبالَ عويلاً يكدّر انبساط الطبيعة، والأنهارَ ذوْبَ فرح راسخ، والشجرَ حكايات تتبادلها السنوات بين حريق وربيع. وكنت ممتلئة بخالقي، الذي أراه في كل برعمٍ وغمّازةِ طفلٍ وفرسٍ من إثْمدٍ مصبوب. أُناجيه بقلبي، فأُحسّ بيده الفُلّ على كتفي، أو أحسّ بروحه تتفتّح طمأنينةً وهناءةً، فأتنفّس الصعداء دون شهيق أو زفير. لقد سترني وأنا في لفحة الانكشاف، وعلى حافّة الغيْبة، وأنا أترنّم حول النخلة الزاخرة بالأعذاق، ولطالما طوّفتُ مغمضةً جفوني، وبصيرة مُتعتي تقودني، في طرقات مُبهمة إلى خدْري.. لأنام، فأجد بارئي يلفّني بوَسَنٍ ماسيٍّ يغطّي أحلامي المتراكمة في حقول لا نهائية الزّهر والظلال.

ابنةُ الطين المُشرّب بالناي والنداء .. أنا . وصلصالي جَرَسُ الأيل، الذي شربتُ أنفاسَه، فاكتسبتُ حَذَرَهُ وسِعة عينيه وفتوّته، وجسدي نارٌ أبديّة تحوّلت إلى لحمٍ يكسوني، وجسدي برقٌ مسّ الرّاح فأحاله إلى قوام امرأة، هي أنا. وأنا العاشقة التي تمشي فوق الغيوم، والعاشقُ حسّاس!

يهيّأ لهم، مع كل نهاية لي، أنني أموت، فأراني في فسقيّة مغلقة على هياكل ذائبة حولي، فيأتيني هاتف أنْ نامي قليلاً، ستخرجين مع الشروق الآتي! وأولد من جديد في امرأة أخرى، هي أنا، وإنْ كان لها وجه آخر ولسان غريب.

ومع كل يوم يمرّ، أقترب أكثر من نهايتي، لكنني أتجرّأ على الأيام، التي لم تتجرّأ عليّ يوماً، كأن لي صورةً تهرم نيابةً عنّي، أو أنني طير الفينيق الساحليّ الذي يضطرم بالأوار، لينهض من جديد، بقوادمه وخوافيه.

أتوقّف وأنا المتقدّمة، وأُجلي صفحتي حتى لا تكون سوداء في كتاب عائلتي البشرية.

أُحبّ الحبَّ أكثر مما أُحبّ الرجلَ، لأني أمّ الحريّة، التي لا شرط عليها سوى المزيد منها! ولأني ابنةُ الشّرف، وملكة البرّ والبحر، والعذراء التي لم يغزُها أحد.

أنا الحيّة، التي تتلّهى بالسُّبات، بين حياة وحياة، كأنني أغفو، وأترك جثتي تتحللّ فتنبت الأعشاب من جسمي المذرور، وتطير روحي ثانيةً وثالثةً وسابعةً في بويضة رَحم، لأشهد أصابع القابلة وهي تستعد لسحبي إلى صرخة الحياة.

كلُّ النساءِ أنا، بدءاً من حوّاء المقدودة من كتف الضعيف، مروراً بصاحبة الخطيئة وغاوية النبيّ، وصولاً إلى التي يقطعون حبلها السريّ الآن. وأنا المتبتلّة الأولى والرّسولة القدّيسة، التي ابتنى لها ربّها بيتاً في الجنّة، وصولاً إلى مَنْ غرّقها دم ابنها الجليل ودمع حرمانها المُرّ، أو تلك التي غسلت الفيء الحرام عن بطنها، وجأرت في الليل تائبةً لمَنْ يسمعها.

ولعلي مثل التلميذ الذي أيقظه النبيّ حتى لا أدخل في تجربة الروح والجسد، فربّما أردتُ فعل الصواب، لكني قد لا أجد القوةّ. وأرجو أن أكون مِمَّن اختارهم الرّبُّ ليتممّوا العمل في الأرض.

وأنا القادرة الجديرة بقراءة التراب، الذي أراه أبيض كنوايا الأتقياء. فكل حفنة من رمل أو طين هي أنا التي مَضَت، فأحملها في يدي، وأرفعها، ثم أفتح أصابعي، فينثال التراب منسرباً، كأنه شلال صغير جاف يسّاقط على الأرض سريعاً. لكنّي أنظر إلى تلك الذرّات الواقعة تباعاً، فأرى حياة صاحبة تلك الحفنة من التراب، التي هي، أصلاً، لحم وروح ودم وحياة كاملة. والترابُ خادم الموتى .

تماماً مثل تلك التي تتملّى قعر الفنجان فتقرأ الطالع، لكني أقرأ الواقع الماضي. فأنا العائفةُ التي تعود إلى الزمن السحيق الفائت لتتعرّف على حيوات أخواتها.

وربّما كانت إحداهن قد ولدت ودُفنت في أرض بعيدة، لكن الرياح أو السيول حملت شيئاً من لحمها المذرور الناشف، الذي صار رملاً أو طيناً أو تراباً.. إلى هذه الأرض التي أقف عليها، أو أجلس معكَ على بساطها.

كلانا طائر يغرّد ليحصل على طعامه. وكلّنا يتخلّى عن شيء ما من أجل غدٍ أفضل. لكنّي لن أكون سجينةَ جسد الأنثى، التي هي أنا.وليس من السّهل إخفاء الرغبة .

يريدون لجسدي أن يكون حانةً مفتوحة، وأريد له أن يكون معبداً يعجُّ بالدُخان الطيّب والراكعين، لأواصل بناء بيتي من خشب الأحلام على مدرج الحليب والعسل. فاطْلِقْ العنانَ للدواة، فَكلمتُك هي قوّتك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى