الحب الإلهي
د. عبد التواب أبو زيد | مصر
إن مقام المحبه في الدين الإسلامي هو من اعمق وأعظم المقامات؛ بل هو روح الدين لذلك” قَالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: كانَ مِن دُعاءِ دَاوُدَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “اللَّهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعمَل الَّذِي يُبَلِّغُني حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعل حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِن نَفسي، وأَهْلي، ومِن الماءِ البارِدِ روَاهُ الترمذيُّ وَقَالَ: حديثٌ حسنٌ. “
وفي حديث نبوي آخر ” عن ابن عباس ( قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (أحبوا الله لما يغذوكم)، أي : به كما في نسخة وهو بفتح الياء وضم الذال المعجمة أي يرزقكم (من نعمة)، أي من أي نعمة لقوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله وفي نسخة صحيحة: من نعمه بكسر النون وفتح العين فميم ، مضاف إلى هاء الضمير، أو المعنى إن كنتم لا تحبون الله إلا لما يغذوكم به من نعمة فأحبوه ، وإلا فلا ، فهو سبحانه محبوب لذاته وصفاته عند العارفين من المحبين سواء أنعم أم لا، فهو على منوال قوله سبحانه : فليعبدوا رب هذا البيت: (فأحبوني)، أي: إذا ثبت سبب محبة الله فأحبوني (لحب الله)؛ لأن محبوب المحبوب محبوب ، ولقوله تعالى: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وفي نسخة: وأحبوني بالواو عطفا على ما قبله (وأحبوا أهل بيتي لحبي) ، أي : إياهم أو لحبكم إياي . (رواه الترمذي) . وكذا الحاكم في مستدركه وقال الترمذي : حسن غريب . ” صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم
ونعم الله للإنسان كثيره جدا؛ نعم ظاهرة، ونعم باطنة، نعم في جسده، ونعم من حوله. قال الله تعالي {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}
خلقنا الله وخلق لنا السمع عن طريق الأذنين، والبصر عن طريق العينين، ونعمة الشم من خلال الأنف، ونعمة التذوق عن طريق الفم، وأجهزة الجسم الداخلية من جهاز هضمي، وجهاز دوري، وجهاز عصبي، إنه الله الخالق العظيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين.
ومن النعم العظيمة المحيطة بنا الشمس والقمر والماء والهواء التي بدون وجود أيٍّ منها لا يستطيع الإنسان العيش والحياة علي سطح الكرة الارضية؛ كل هذه النعم تستلزم منا الشكر لله المنعم وحبه وطاعته والتقرب منه فنكثر من ذكره تعالى ليلا ونهارا. قال الله تعالي { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ^ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، وأيضا نحافظ علي أداء الصلوات الخمس في جماعة وفي وقتها بخشوع لله تعالى وتضرع وخوف ووجل من الله تعالى
وكان حضرة النبي المصطفي سيدنا محمد – عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم – هو أكثر الخلق معرفة لله تعالى وأكثرهم له حبا وتعلقا وعباده وذكر؛ كان يصلي بالليل حتي تتفطر قدماه فلما سئل عن ذلك قال أفلا أكون عبدا شكورا، وكان من أشد الناس حبا لله أيضا الأنبياء والمرسلون وصحابة حضرة النبي وآل بيته الكرام.
ثم يجيء عصر التابعين فنجد مثالا قويا جدا للحب الإلهي يتمثل في سيدة عظيمة هي السيدة رابعة العدوية التي ولدت في البصرة وكانت يتيمة الأبوين ورابعة أخواتها ونشأت زاهدة وعابدة لله ومحبة لهو كانت تقول في مناجاة الله تعالى شعرا:
أحبك حبين حب الهوي وحب لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوي فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت اهل له فكشفك للحجب حتي أراكا
كانت السيدة رابعة محبة متيمة بحب الله تعالى جعلت الله تعالى هو أنيسها تفكر فيه وتذكره كثيرا كانت كلما مشت في قريتها للذهاب إلى قارب الصيد الذي كانت تعمل به بعد وفاة والدها تبكي شاردة الفكر وتسبح في بحر النور الذي كشفه الله لها في كل مكان تذهب إليه النور الإلهي الذي لا يراه إلا المتقون المخلصون من عباد الله الذين اختارهم واصطفاهم رب العالمين ومنهم السيدة رابعة العدوية
وبعد وفاتها رأتها خادمتها عبدة منامها في صورة ملائكية جميلة جدا تلبس لباسا من السندس والاستبرق وقالت لخادمتها أوصيك بكثرة ذكر الله ليلا ونهارا، اجعلي ذكر الله تعالى مثل النفس تتنفسيه فإن ذلك هو سبب السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة – رضي الله عنها وأرضاها –
من أمثلة المحبين لله الوالهين بجمال الله سيدي الحسين بن منصور الحلاج – رضي الله عنه – الذي كان من فرط حبه لله تعالى يقول: (ما رأيت شيئا إلا وجدت الله فيه)، وكشف الله له الحجب فرأى عظمة الله وجماله وأنواره فصار متيما بحبه تعالى، ولكنه باح بذلك للعامة من الناس في عصره فاتهم بالزندقه وقتل مصلوبا – رضي الله عنه وأرضاه -، ومن أمثلة المحبين لله أبوبكر الشبلي وأبو القاسم الجنيد وسمنون المجنون وهم من أئمة الصوفية وأعلامها البارزين
إن محبة الله هي النعيم هي السعادة هي حياة الروح للمؤمن يصلي فيجد لذة الصلاة، يقرأ القرآن فيجد لذة القراءة لأنه أحب الله تعالى لم يعبده طمعا في جنة ولا خوف من نار؛ بل حبا لذاته المقدسة – سبحانه وتعالى –
المحبون هم الواصلون هم المنعمون هم الفائزون؛ زهدوا في الدنيا ونعيمها الفاني؛ أحبوا الله لأنه وحده الباقي معتبرين بقوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه.
أخلصوا قلوبهم لله وطهروها من الذنوب والمعاصي والأغيار فتستنير بنور الله وتتنعم بالقرب والأنس به – سبحانه وتعالى – فاللهم اجعلنا يارب من المنعمين بحبك والقرب منك يا أكرم الأكرمين.