تاريخ العراق بالحبر الأبيض

ناصر أبو عون
أعترف هنا.. أنني لبثت في خيمة “العمايرچية العراقيين” عشرين ربيعًا، أتأبطُّ في أفيائها البيان خيرًا، وأحسو في عرصاتها الشعر خمرا، وأقتطف من دوحتها تفاحة الحياة شهدا، حتى إذا ما مال فننُ الأدب على طاولتي طربا ذات جلسة مسائية في مقهى “مسقطيّ” -جمع ثلة الأقلام الذين وردوا ماء الكتابة من مشارب شتى-، تعلّقت بعناقيد كرمته التي تمتح من حدائق عراقية ذات بهجة، لأصعد على حين قصيدة إلى سدرة المشتهى، وكان ساعتها “عبد الرزاق الربيعي” يتربّع في فراديسها، ويُصلي ركعتين في روضة العشق تحت قبّة مرصعة بلآليء من موسيقى، ويضوع عطر البلاغة من أردانه، وتترضّب الثغور من شهد ثماره.


هنا في “مسقط العامرة”، وتحت شجرة الربيعي وارفة الظلال، صادقتُ الكثير من الكتّاب والأدباء من سائر البسيطة، وقرأتُ عشرات الأمهات من عيون الإبداع العربيّ، حتى إذا ما اقتربت أكثر من فيحائه تصالحت مع العالم، وعرفتُ عن قرب الكاتب الصحافيّ “علي جبار عطية”؛ شقيقه في الروح والدم، وبينهما شجنة رحم فقد نزلا من معين واحد، وجمعتهما شوبة نسب في القلم.
غير أنّ علي جبار بقلمه يُوخز القلب بأنين مفرداته، ويرصف الكلمات بشعوره الصادق أهراما، ويشيّد أعمدة من الأفكار في موضوعاته التي ُتخْرِج المخبوء من تحت الألسنة، وتُؤرخ للتفاصيل الصغيرة المتخفيّة وراء أصداء الأحداث الكبرى، وتُعيد اكتشاف الناس الطالعين كأقمار في ليل بهيم يجثم على صدر الأمة في زمن فقد الشرفاء فيه بوصلة الطهر والبراءة.
“بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية” كتاب “علي جبار عطية” دوّن فيه التاريخ الذي غضّ الأكاديميون الطرف عنه داخل قاعات الدرس، وأسقطه المشتغلون بصنعة التدوين عمدا من أراشيفهم المؤدلجة والمدهونة بزبدة فرعون وهامان وجنودهما، وأصمّ الآذان عنها المرجفون في المدينة، وما تبخّر من ذاكرة العوام المثقوبة بفعل الدوران اليوميّ في ساقية لقمة العيش المرّ.


في هذا الكتاب يؤكد “علي جبار عطيّة” على أنّ تاريخ الصحافة العربيّة المدوّن -وفي القلب منه الصحافة العراقية-، ليس إلا شذرات سجّلها أرباب القلم المصنوعون على أعين السُلطة –خجلا- في هوامش سيرتهم الذاتية؛ مخافةَ سياط الطواغيت المعلّقة في صالات التحرير، وخطُّوها بأقلامهم في حواشي الكتب الجامعة لمقالاتهم التي لا تُسمن عقل الباحث عن المعرفة، ولا تغني المشغوف بحرفة الإبداع من جوع الفكر، أو أشاروا إليها لِمَامًا في طوايا عُروض الكتب على صفحات جرائدهم اقتضتها تدابير المهنة من ضرورة تسويد المساحات البيضاء بنذر يسير من الفكر يزيد القراء حيرة، ولا يطفيء داخلهم ثورة الأسئلة.
من هذه الزاوية أدعو القراء إلى مطالعة هذا الكتاب؛ حيث إنه شِطْر من التاريخ الواقعيّ للصحافة العراقيّة المنزوع منه دسم الزيف والبهرجة والتطبيل، والذي سقط عمدا من ذاكرتنا مع سبق الإصرار على التجاهل، والترصّد لمخرز الحقيقة المرشوق في بؤبؤ العيون الحاسدة، وإلى جانب ذلك يجمع الكتاب ما بين متعة السرد الروائيّ، واستراتيجية القصة القصيرة المكثفة، وجماليات السيرة الذاتية، التي تنفض غُبار النسيان عن وجه الحقائق، وتبعث الحياة من جديد لأعلام عراقية غذّت بدماء إبداعها أجيالا، وضخت دماءها في شرايين الفكر والأدب والفنون، ورغم ذلك طوى سيرتها التنكّر والجحود.
ولا أكون مبالغا إذا ما قلتُ إنّ هذا الكتاب يحوي مكانز من الخبرات غير المباشرة في ميدان الصحافة التطبيقي، والتي يمكنها أن تُذلل الكثير من العقبات أمام دارسي فن الصحافة وعلم الإعلام.
ومن منبر جريدة الدستور أدعو كليات الإعلام العراقيّة بتقريره في المنهاج الدراسيّ، ليقتدي به طلابها قيميا وأسلوبيا إذا ما خطّت لهم يد القدر في شارع الصحافة سبيلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى