حبًّا وكرامة

منى مصطفى | روائية وكاتبة وتربوية مصرية

كثُر الحديث حول الأم في هذا الشهرِ تحديدًا، بغضِّ النظر عن مشروعية ما يسمى بيوم الأم أو عدم مشروعيته، وهو الأرجح عندي؛ فإن الأم عالم واسع جدًّا عما يتخيله العقل، الأم انعكاس لرحمة الله في هذه الأرض.

فكل معنى مجرد قد لا يستوعبه العقلُ البشري كالرحمة مثلًا، جعل الله عليه دليلًا في الحياة، ثم ألهَمَنا خيطًا عقليًّا لتدبُّر هذا المعنى من خلال ذلك الدليل، وامتدح أهلَ التدبر والتفكر في كثير من الآيات والأحاديث؛ لأنهم يرون هذه المعاني المجردة وهي متجسدة في مخلوقات الله، ثم يستنتجون العِبرةَ من كل قضاء ببصائرهم وألبابهم اليقظة، فقد قال عز وعلا: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((تفكُّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة))، فمن تفكَّر في طبيعة قلب الأم، علم أنه انعكاس لرحمة الله الواسعة على أرضنا هذه.

وردًّا على مَن ينكر على الأمهات بعض القسوة التي ربما يُجبَرن عليها، فهي قسوة المحبِّ الحنون، قسوة مَن يؤذيك ليصلحك، مَن يجرحك ليشفيك، ومثل هذا نرى في سنن الله عز وجل، فقد كتب الابتلاء على بعض عباده، وما من عاقل صاحبِ تدبُّر إلا وأقرَّ أن هذا البلاء في كل حالاته مغلَّفٌ بالرحمة بلا شك، ربما لا تتكشف لنا الحكمة سريعًا، لكننا غالبًا نصل لها، وذلك من مواساة الله للقلوب ورحمته بالعباد، وكذلك قسوة الأم إن وُجدت، ولله المثل الأعلى.

ومن عظيم ما وهب الله للأم بركةُ الدعاء، حتى إنني أشعر أنه أوكل إليها شأن أولادها في حدود معينة، وذلك من خلال حفاوته بدعائها؛ لأنه هو الخالق الذي يعلم كيف صاغ قلبها، جلَّ من صنَع وعظُم من وهب!

سأذكر موقفين دعت لي فيهما أمي دعاءً عفويًّا، وحتى الآن لا ينقضي عجبي من قَبول الله عز وجل، والعجب كل العجب أن قبوله الدعاء يكون متناسبًا مع كرمه وملكه، وليس مع خيالنا أو معطياتنا القاصرة.

الموقف الأول:
كنت طفلة صغيرة لم أصل للعاشرة من عمري، وكنت كثيرة الحركة، واهنة القوة، وكانت جدتي رحمها الله امرأةً ريفية حازمة، وتصر أن تحمِّلني ما يفوق طاقتي أحيانًا في هذا العمر، وعندما أَعجِزُ ولا أفعل، تشكوني لأمي؛ معللة ذلك بأنني يومًا ما سأحمل مسؤوليةَ بيت كاملة وحدي، وذات مرة وجدت أمي تردُّ على جدتي بأن تترك ما في يدها وترفعها للسماء داعيةً اللهَ أن يجعل لي خادمة متى تزوجت، ولا يحملني فوق طاقتي، ضحكتُ وتركتُ أمي وجدتي، وعُدْت للَهْوي مستنكرةً دعوةَ أمي، وكأنني سمعت شيئًا من الخيال؛ فثقافة الخادمة ليست موجودة في مجتمعنا! ومرت السنوات ونسيت الموقف، ثم يشاء الله أن أُرزق خادمة بعد زواجي بستة أشهر، وتستمر معي قرابة عشرين عامًا وأكثر! كلما نظرت لهذه الخادمة تراءت لعيني صورة أمي وهي تقذف بما في يدها وترفعها للسماء داعية لي بهذه الدعوة، وكيف استجاب الذي يعلم الغيب، وعلى هذا الوجه من الكرم سبحانه سبحانه!

الموقف الثاني:
بعد رحلة غربة ليست بالقصيرة، تراءى لي أن يكون لي بيت بدلًا من شقة؛ حتى يكون أولادي حولي، وقد بقيت عامين أو أكثر أبحث عن موقع أشتريه لأبنيَ عليه بيتًا، سبحان الله نجد الموقع ونتحمس له ثم لا يتم الأمر، ويحدث هذا مرات متعددةً، حتى وفَّقنا الله لموقع اختاره لنا حيث كانت دعوتي آنذاك بعد الملل من عدم التوفيق: (اللهم ارزقنا بيتًا نرى منه السماء، ويعيننا المقام فيه على حسن عبادتك)، ثم أوكلت أمري لله حتى يسر لنا برحمته شراء الأرض.

وقبيل سفري أخذتُ أمي لترى قطعة الأرض التي رزقني الله إياها بعد عناء من البحث ومن الغربة!
فما كان منها عندما وقفتْ عليها إلا أن أخذت تبكي!
أثارني الموقف، توقعتُ أنها لا تعجبها، أو أنها تشفق عليَّ من أمر ما، فسألتها: فيمَ البكاء يا أمي؟
قالت: في الشتاء الماضي جئت للطبيب هنا في هذه العمارة المقابلة، ثم أعجبتني المنطقة فوقفت تحت هذه المظلة اتقاءً للمطر، ودعوت الله أن يجعل لك بيتًا في هذه المنطقة.
• إذًا ماذا يبكيك يا أمي؟
• أبكي من كرم الله، أيجعل المكان الذي كنت أقف فيه تحديدًا هو جواب دعوتي، وهو فوق ما تمنيت لك؟!
الله يا أمي، كيف لعاقل أن يجعل لك يومًا، والعمر لا يكفيك برًّا وتحنانًا؟! إن لم يكن ولاءً للتربية، فحبًّا وكرامةً لقلبك الذي لا يعرف عمقَ رحمته إلا خالقُه، ولا أراه صنع إلا من نور!
استمطروا دعوات أمهاتكم، خسِر مَن لا يفعل، حياة الأم فرصة فاغتنمها!
ربِّ اجعل ميراث كل أمٍّ الجنةَ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى