ثعلبة.. وجوه في طريقي (2)
منى مصطفى | روائية وكاتبة تربوية مصرية
رفعت نظري لأَرد على سؤالها عن رأيي في الشاي، وإذا بي أَشهِق شهقةً خرَجت من بين أضلُعي يكاد يسمعها الأموات، يا إلهي، كيف يستحيل الجمال قبحًا في لمح البصر؟! كيف تشيب الرؤوس في مقدار خَفقة قلبٍ من الزمن؟! كيف تُرفَع الحُجب والأستار بقدَرٍ لو علمناه لجعلنا بيننا وبينه أمدًا بعيدًا؟!
نظرتُ إليها وإذا بي أمام كائن آخر لا علاقة له بالفتاة التي كانت تُدثرني منذ دقائق، أُدقق النظر لأجد عينيها وفمها يُشبهان تلك التي كانت منذ لحظات، ولكن رأسها نصفه أصلع تمامًا كجلد الوجه والنصف الآخر شعره أشهب كالثلج، رابَني الأمر، خِلتُ جِنيًّا تَلبَّسها، فانتبهتْ لي، وفي سرعة وضَعت كوب الشاي، ثم احتضنتْ رأسها بيديها، وأخفتْ وجهها بين ذراعيها، وبقِيت صامتة تَوَد لو أن الأرض ابتلعتْها قبل هذا الموقف!
جفَّفتْ دموعها، وانتهتْ مِن تعنيف نفسها، ومِن هول الصدمة؛ حيث خلعتْ غطاء الرأس أمامي، وهي ساهية ناسية أن الثعلبة أكلتْ شعرها، فأصبح غالب رأسها كرأس عجوز أصلعَ، وخُصلات الشعر الباقية ابْيضَّت من جلسات الإشعاع التي تواظب عليها أملًا في الشفاء!
فهِمتُ الآن شكوى زميلتها في السكن من أنها ليست اجتماعية، حتمًا يكون ذلك لتُخفي سرها عن الأُخريات!
صرفتُ نظري عنها، شعرتُ بالارتباك، لا أدري ماذا أقول لها، اعتدلت من جلستي، قمتُ لأَحتضنها، أُربِّت على كتفها، استسلمتْ لي، ووضعتْ رأسها على صدري، ولم تستطع إحدانا منع دموعها، هي تبكي أسًى وأنا أبكي خجلًا ومواساةً، بعد فترة من الصمت – كأنها كانت تصارع فيها عمرَها الفائت؛ حتى تتماسك أمامي – واسيتُها بقولي: لكل داء دواء، لا تَحزني!
قالت لي:
نعم لكل داء دواء إلا دائي فلا دواء له، لقد أنفقت مالًا كثيرًا لعلاج هذه الثعلبة اللعينة، إلا أن كل الأطباء أجمعوا على أنها حالة نفسية؛ حيث إن الفحوصات والتحليلات لم تُسفر عن سبب عضوي، اعتدلت في جلستها، ثم قالت: وأنا أعرف عِلتي جيدًا، علتي لا بُرء منها، هل يَبرأ الإنسان من دمه؟! وإن فرضنا جدلًا أنه غيَّر دمه، فهل تصلح له فصيلة أخرى؟! أنا بلائي في دمي، بلائي في أبي!
نظرت إليها مندهشة متعجبة وقبل أن أنطق قالت:
لا تظني أنني عاقَّة، أو لا أعرِف حقَّه علي، أو أنني أُفضل غيره عليه، أنا فقط أكره الظلم واحتكار العقول في عقله، والآراء في رأيه، أنا أكره صورته الجديدة وأعشَق صورته القديمة التي كنت أُجِلُّها إجلالي شمسَ السماء!
ثم أَردفت قائلةً: سأشرح لك الأمر: أنا من أسرة بسيطة تعيش في جنوب مصر، مكوَّنة من ثلاث بنات وولد، اجتهد أبي في تربيتنا، كان يردد دومًا: لا بد أن تتعلموا تعليمًا جيدًا؛ لأموت وأنا مطمئن عليكم، تخرجت أنا من كلية التربية، وبدأت العمل لأُعد نفسي للزواج، وكنت أساعد إخوتي بما أستطيع لأنني الكبرى، كنا نقتسم جميعًا السعادة ونفوز بنظرات الرضا من أمي وأبي، وفي عطلة الصيف، وفي إحدى الليالي ونحن سهارى حول موقد الفحم نَشوي عليه عرانيس الذرة الغضَّة غير مكتملة النمو، لكن مذاقها مذاق الطفولة بجمالها وحلاوة أيامها، ونحرِص على أن نتخطَّفه من بعضنا كما كنا نفعل صغارًا، بل نكرر العبارات نفسها، ثم يَضج مجلسنا بالضحك، وأبي يستعد لحصاد الأرز، ويُمني كلًّا منا بمكافأة؛ لأنه يتوسم الربح الزائد هذا العام، ثم ينظر إلي قائلًا: أما الأستاذة فهي صاحبة نصيب الأسد؛ لأنها تساعد أُمكم في المصاريف، وتظن أني لا أعلم، أقفز إليه ألتصق به، وأتمسح في ثوبه كقطة وجدت مأمنها، وأقول: يا أبي أنا منك وإليك، لا تردد هذا الكلام، يرد قائلًا: نعم، ولكن أوشك هذا الحال أن يتغير، فقد جاءك خاطب وينتظر ردي عليه، أسارع قائلة: لو جاءني زوج وألف ابنٍ، فستبقى أنت أمني ومأمني، يضحك ويقول: فعلًا هناك خاطب وقد سألت عنه ووجدته مناسبًا، ولم يبقَ إلا موافقتك أنتِ أو رفْضك، أخجل من السؤال عن الخاطب، فيَفهمني بسرعة، ويقول: التفاصيل عند أمك هي ستُخبرك، ويفتعل النومَ ليقوم؛ كي تُحدثني أمي عن الخاطب بحريةٍ!
تمر الأيام سريعًا، تتم الخِطبة، توسمت في خطيبي الخير، اختبرتُ أخلاقه، كرَمه، دينه، برَّه بأهله، احترامه لي امرأةً … ما خذَلني في خُلق تمنَّيتُه في زوج المستقبل؛ فكلُّ خُلقٍ تمنَّيتُه له منه نصيبٌ، حمَدت ربي على هذه النعمة، ومرت الأمور بتيسير غير متوقع، واعتبرت هذا دليلًا على أن الله يريد لي هذا الرجل زوجًا، فاستبشرتُ كثيرًا، وأصبحت أرى الحياة بعين أخرى، عين المحب الراضي القانع الباذل، لم أُكلف أهلي فوق طاقتهم، ولم أُرهق خطيبي برغبات تتعدى العُرف في بلدنا، بل كنت قانعةً راضية!
وفي يوم دخل علينا والدي متهلل الوجه يكاد يرقص من الفرح، توقَّعنا أنه باع المحصول بسعر مضاعف، أو أن سماءه أمطرت ذهبًا، ألجمتنا فرحتُه عن الكلام، الكل ينظر إلى أبي الوقور الذي يبتسم أمامنا بحساب وهو يُمسك الجريدةَ في يده، يتمايل طربًا، ويترنَّم بصوت عال مصفقًا بارتطام كفَّيه معًا فرحًا متغنيًا بعبارة: (كل الشروط مناسبة، كل الشروط مناسبة يا سعيدة، كل الشروط مناسبة يا لطيفة، كل الشروط مناسبة يا فرج، ويعيد ويكرِّر بلا وعي)!
أخذت منه الجريدة، لكني لم أصِل إلى شيء محدد، فأخذني بلهفة ووضع يده على كتفي مرددًا: (والله اسم على مسمى، سعيدة وستكونين سعيدة)، ثم أردف: باركي لابنتك يا لطيفة كل الشروط منطبقة عليها!
شعَرت بحيرة وفي لمح البصر ذهب عقلي إلى الجامعة؛ حيث كنت قد قدَّمت طلبًا للالتحاق بالدراسات العليا المجانية، ثم قفَز ذهني إلى طلب النقل الذي قدَّمه رضا خطيبي للنقل إلى مدرسة بجوار بيتهم!
ارتبكت، سألت أبي: ما الأمر؟!