أدب

الإعجاز البلاغي في الضمائر في سورة الكهف

أ. سعيد مالك |معلم لغة عربية
تمثل سورة الكهف لوحة بلاغية متكاملة تتجلى فيها دقة الأسلوب القرآني في اختيار الألفاظ والضمائر، بحيث تأتي الضمائر – سواء المنفصلة أو المتصلة أو ضمائر الغائب – في مواقعها بدقة بالغة تؤدي غايات تعبيرية عميقة. وهذه الظاهرة تعدّ من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الكريم، حيث لا يأتي الضمير إلا وفق مقتضى الحال.
أولاً: الضمائر المنفصلة
الضمائر المنفصلة في سورة الكهف جاءت لتؤكد المعنى وتبرزه استقلالاً،
ومن أبرز أمثلتها: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ [الكهف: 35، الزمخشري، الكشاف].الضمير المنفصل “هو” جاء للتوكيد على انفراد صاحب الجنتين بظلمه، ولإبراز حالة التكبر والغفلة التي تخصه دون غيره. فلو لم يُذكر الضمير لاختلط الفعل بالحال، لكن إبرازه بالضمير جعل المعنى أشدّ وضوحاً.
وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110، ابن عاشور، التحرير والتنوير].
الضمير “أنا” هنا يفيد التوكيد، إذ أراد النص أن يرسخ حقيقة بشرية الرسول ﷺ أمام الناس، رغم اصطفائه بالوحي. فجاء الضمير المنفصل ليُلفت السامع إلى خصوصية المخاطب (النبي) مقابل ضمير الجمع “كم”.
ثانياً: الضمائر المتصلة
الضمائر المتصلة في السورة جاءت لتعبر عن الارتباط الوثيق بين الفعل وصاحبه أو المفعول به، مما يحقق إيجازاً بليغاً.قال تعالى على لسان الفتية: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 10، الطبري، جامع البيان].
الضمائر المتصلة “نا” في “ربنا” و”آتنا” و”لنا” أبرزت روح الجماعة والتآزر في الدعاء، وجعلت المشهد متماسكاً يوحي بالثبات الجماعي على الإيمان.
وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: 18، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن].
جاء الضمير “هم” متصلاً بلفظ “كلب”، وهو ما يفيد إضافة الكلب إليهم وإلحاقه بجماعتهم، ليظهر وفاءه واندماجه معهم، حتى كأنه فرد من جماعتهم.
وكذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم].
الضمير “هـ” في “عليه” أعاد المعنى إلى الأفعال السابقة التي عجز موسى عن الصبر عليها، فجاء الضمير موصولاً بالسياق ليحقق الاتساق والربط بين الأحداث..
ثالثاً: ضمائر الغائب
من أبرز مظاهر البلاغة في سورة الكهف كثرة استعمال ضمائر الغائب، إذ أنها توحي بالبعد والتعظيم أحياناً، وبالإخفاء والغموض أحياناً أخرى، وتدل على الشمول أحياناً ثالثة.
في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ﴾ [الكهف: 17، القرطبي].
الضمير “هم” في “كهفهم” أضاف المكان إليهم خاصة، مما يوحي بحماية إلهية خصهم الله بها.
وقوله: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: 11، الطبري].
جاء الضمير “هم” للغائبين، ليصور حالة الرقدة الطويلة التي غابوا بها عن عالم الأحياء، وكأنما انقطع ذكرهم عن الوجود إلا بما أراد الله أن يُبقيه.
وفي قصة يأجوج ومأجوج، قال تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97، الزمخشري].
جاءت ضمائر الغائب للجمع “واو الجماعة”، فأفادت الكثرة، لكن الكثرة مع ذلك لم تنفعهم أمام قوة السد، مما يبرز عظمة قدرة الله وضعف الخلق.

رابعاً: التوازن البلاغي بين الأنواع الثلاثة
نلحظ في السورة توازناً محكماً بين استعمال الضمائر المنفصلة والمتصلة وضمائر الغائب:
– المنفصلة استُعملت للتوكيد والتخصيص (كما في “أنا بشر مثلكم“)
– المتصلة أدت غرض الاختصار والإيجاز وربط الأفعال بأصحابها (كما في “هيّئ لنا“).
ضمائر الغائب جاءت لتوحي بالبعد والتكثير والإحاطة (كما في “كهفهم” و”ما استطاعوا“)
هذا التوازن يعكس إعجاز الأسلوب القرآني، إذ لم يأت ضمير إلا لتحقيق معنى لا يؤديه غيره. صدق الله العظيم الذي جعل في القرآن الكريم جمال اللفظ وعميق المعنى وجمع بين العبرة والعظة والبيان الخالد ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى