النسق القرآني في صناعة التاريخ
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
ربما تنتج الحضارات ثقافات وقيما بعد اعتلاء بعض البشر سدتها وامتطاء صهوتها، وبعد الأخذ بأسباب الحضارة المادية التي تقود إليها، والتي منها العصبة والهدف والقوة المادية، مع قوة الفكرة؛ فكرة التغلب والتوسع والهيمنة التي لا تتوفر لكثير من الشعوب وإن ميزوا ببعض طرائق الذكاء والمال؛ إلا أن العامل الشخصي أو الدافع النفسي هو المحرض الأول لبناء الحضارة. وقد عول بعض الفلاسفة على البعد الديني بحجة أنه حامل الفكرة وموقد الشرارة الأولى وصانع النفوس وموقظها من رقدة العدم وغياهب التخلف والرجعية.
هذه الثقافة الناتجة تتأتى من خلال الممارسة العلمية والعملية لمنتجات الحضارة، يتجلى هذا في السلوك البشري من العمل الاجتماعي والنتاج الأدبي والأخلاق والقيم المجتمعية ووسائل التربية والفنون والعلوم، وطريقة التعاطي مع العلوم ومناحي توجيهها وتوظيفها (الأخلاق العلمية)، والأخلاق المهنية، والعدل الاجتماعي وإدارة الأزمات الاقتصادية من خلال الأخلاق الاقتصادية، والاستراتيجيات العسكرية وسلوكيات الجوار والعلاقات في وقت السلم والحرب. كل هذا من ألوان الثقافة التي تنتجها الحضارة.
أما الثقافة الإسلامية فالحال بالنسبة لها معكوس، إذ الثقافة الإسلامية هي العامل السابق والرئيس في إنتاج الحضارة الإسلامية، وإذ لم تقم حضارة الإسلام حتى شيدت أصولها على دعائم من الأخلاق والقيم والأدبيات الدينية الراسخة في النفوس حتى صارت جزءا لا يتجزأ من طبائع هذه النفوس ثم تجلت هذه الطبائع في السلوك حتى صارت مضرب الأمثال في التاريخ في أخلاقيات الحضارة.“هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)”[الجمعة]، ” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)” [آل عمران].
((ويزكيهم)).. هذه التزكية أو التطهير هي صميم الإعداد النفسي للنماذج التي أنيط بها حمل شعلة الحضارة لتجوب بها آفاق الكون من شرقه لغربه ، دون أن يختل بيدها أو بداخلها ميزان العدل، مما قد يدفعها إلى الانكباب على زخرف الدنيا من موروثات الحضارات السالفة، أو السطو على مقدرات البشر مما هم على خلاف العقيدة أو العرق أو الدم، أو الالتفات بشيء من الحيف أو البغي إلى ما أعطت الحياة من زهرة الكسب للغير ممن اجتاحتهم عوامل الحضارة الإسلامية الصاعدة، حيث صارت لها الغلبة وشاءت الأقدار على غيرها الصغار.
ربما يدفع الطابع البشري إلى ازدراء أو هضم شيئا من حق المغلوب؛ لذا فقد كان لزاما كما ارتأت الشريعة أن تتزكى هذه النفوس أولا، ثم تعد إعدادا تربويا نفسيا راسخا لتكون لديها المقدرة على تجاوز كل ما يعترض طريقها النفسي والعملي من مشقة الاختبارات الدنيوية التي جبلت النفوس على الولوع بها، وإمكانية الركون إلى جوارها، وما قد يودي بها مؤخرا إلى ما أودت به فيما نراه في أخلاف الحضارة الإسلامية، مما ينبي عنه الحال فضلا عن المقال.. لذا نجد عمر رضي الله يقتص للقبطي من واليه (عمرو بن العاص) وابنه، حتى يرسخ لمفهوم العدل كقيمة منهجية أصيلة من أصول قيام هذه الحضارة.
وكان لزاما أن تعدل دعوة الخليل (إبراهيم) من “ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم” إلى “ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة”.. وهذا منتهى العمق في التربية والإعداد ليكون درسا تربويا لأهل هذا العلم أن لابد من “التخلية قبل التحلية”، أو تزكية المحل وتطهيره قبل شغله وتعليمه.. من هنا كان شعار الإنصاف حتى من النفس ومن أصحاب السلطان فضلا عن السوقة لأصحاب الأديان والعقائد التي دهمها الإسلام لا السيف والخوف والترويع كما دأبت سنن الحضارات من قبلها: “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)”[النمل].
لقد نزل القرآن طيلة ثلاثة عشر عاما بمكة، وبعدها عشر سنوات بالمدينة.. نزل منجما معلما مربيا؛ حتى كان الواحد من الصحابة لا يتجاوز العشر آيات حتى يتعلم ما بها من الأحكام والآداب والتشريع والعلم، وهكذا كما قال معاذ رضي الله عنه “فعلموا من القرآن وعلموا من السنة “، فعلم هذا الجيل وتخلق بأخلاقيات الحضارة وثقافتها قبل أن تكون الحضارة، فلما جاءت الحضارة كانت صناعتها على عين من الأخلاق والقيم الإسلامية، ولما أذن بفواتها تسقط القيم والثقافة، بل بقيا عمادا لقيام الحضارة من جديد حين يؤذن بعودتها.
لقد كان من خصوصية الحضارة التي قامت على التربية القرآنية أنها تخلصت من سطوة الفرد صاحب الكاريزما المنوط به صناعة التاريخ أو الأمة؛ الذي يلوك شعارت الفخر والحماسة على الشعوب ليل نهار، ثم ما تلبث الجماهير أن تفجأ بخوائه حين يجد الجد وتشتد الأزمة فما من زعيم إلا وهو مهزوم أمام منايا الدهر، ومدحور أمام عجلة التاريخ مهما كانت مقوماته النفسية والروحية والبدنية.
وقد رأينا من نماذج الزعماء في التاريخ ماهو غانينا عن ذكر الأمثلة وإن كان لابد فلا يخفى علينا ما صنع هتلر بألمانيا وموسوليني بإيطاليا، وجنكيز خان بالمغول، وكذا لدينا من نماذجنا الشرقية ما جعلنا ندفع الأثمان الباهظة من أرواحنا وأموالنا ومقدراتنا حتى الآن.
أما على المستوى الذي فهمه الأفذاذ الأول من القرآن فسرعان ما نجد الملهم (الصديق رضي الله عنه) يقول: أيها الناس.. من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، ثم تلا قوله تعالى”وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) “[آل عمران].
يقول د. مصطفى النشار”إن الخلفاء المسلمين أنفسهم قد فشلوا في أن يجعلوا تصورات المؤرخين والعلماء في شتى فروع المعرفة خاضعة لإرادتهم، أو متأثرة بأفكارهم .. لقد تجلت هذه النظرة الحضارية للتاريخ عند المؤرخين المسلمين في مؤلفاتهم التي حملت في معظمها عناوين دالة على ذلك، فهناك طبقات الفقهاء للشيرازي ثم الشافعية للسبكي والحنابلة لأبي يعلى، وهناك طبقات المتكلمين والمعتزلة (لابن المرتضي) والأشاعرة (لابن عساكر) وطبقات الصوفية للسلمي وطبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الأطباء وغيرهم..”.
وذلك مما يوحي أن التاريخ الإسلامي قد ركز على العنصر الأكثر فاعلية في التأريخ للجانب الحضاري وهو الفرد المتحقق الأكثر نفعا وفائدة لأمته علميا وثقافيا مما يخدم رسوخ الحضارة واستمراريتها؛ لا تأريخ تبعية وحركة مدارها الأمراء والحكام وأصحاب السلطة من مثل ما طرأ على مدنيتنا المفتعلة في العصر الحديث، والتي أخضعت مسار الحدث للأفراد لا المنهج، وبالتالي فقد صارت تحول عليها قوانين التحول والصيرورة والحتميات التي تدور على الأفراد من الإخفاق والانتكاس والهزائم، مع جبرية التراجع الحضاري طبقا لقوانين الحضارة وحتميات التاريخ.