القوائم الانتخابية بين محاسن التعددية ومخاطر التشظي
نهاد أبو غوش | رام الله – فلسطين
تسجيل ست وثلاثين قائمة للمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، هي حصيلة كبيرة العدد فعلا، وذات وجهين متناقضين أحدهما إيجابي، والآخر سلبي. أما الإيجابي في الأمر فهو ما يمثله هذا الرقم من تنوع وتعدد يعكسان كل شرائح المجتمع، وفئاته وطبقاته الاجتماعية وميوله واتجاهاته الفكرية. فالتعددية كانت وما زالت مطلبا ديمقراطيا أصيلا لكل حزب أو منبر أو مناضل ديمقراطي، وهي شرط لازم لسلامة الحياة الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي للسلطة، كما أنها نقيض لنهج الهيمنة والاستفراد ولعقلية الإقصاء والإلغاء، بل تشكل عنصر قوة وإثراء للتجربة السياسية، بها تغتني هذه التجربة وتتعزز وتكتسب كثيرا من الحيوية، ثم إنها تتيح مزيدا من حرية الاختيار للمواطن الناخب، الذي يمثل العنصر الجوهري في العملية الديمقراطية ومفتاحها وهدفها وغايتها.
وفي المقابل لا يخلو ارتفاع عدد القوائم من سلبيات سوف تعود بالضرر على نتائج العملية الانتخابية ومستقبل النظام السياسي الفلسطيني، فهذا الارتفاع لم يكن نتاج تعدد الاجتهادات السياسية والفكرية بمقدار ما كان، في الغالب الأعم، نتيجة خلافات تنظيمية وشخصية، تركزت حول خيارات الترشيح والمعايير المعتمدة لذلك، سواء جرى الالتزام بها أم خرقها. وكذلك حول ترتيب المرشحين في القوائم، وما إذا كانت تركيبة القوائم، حتى وهي في طور الإعداد، تعكس بشكل منصف حصص المناطق والفئات والقطاعات التي تهدف القائمة لتمثيلها، وتعطي المناضلين والكفاءات حقهم الذي يستحقون.
كان يمكن لعدد القوائم أن يكون أكبر بكثير مما سُجّل رسميا، لولا وجود بعض الشروط القانونية التي تقيّد هذا الحق، ومن بينها قانون الانتخاب الذي اعتمد مبدا التمثيل النسبي الكامل، وبالتالي فإن خوض الانتخابات لا يتم إلا من خلال القوائم، بدل النظام السابق الذي كان مناصفة بين نظامي القوائم والدوائر. وكذلك النص الذي يشترط الحد الأدنى لأية قائمة ستة عشر مرشحا، والكفالة البنكية التي تبلغ عشرين الف دولار، علاوة على اشتراط الاستقالة المقبولة، سواء من الوظيفة العمومية أو من مواقع كثيرة في المجتمع الأهلي، وهو الشرط الإشكالي الذي طالبت كثير من القوى والجماعات بإلغائه من دون جدوى. ومن المؤكد ان هذه الشروط قلصت عدد القوائم وشكلت حاجزا منيعا أمام أفراد وجماعات كانت ترغب في خوض هذه التجربة.
وعلى الرغم من كل القيود الآنفة الذكر، إلا أن العدد المسجل للقوائم ظل كبيرا، بما يتجاوز التعددية المحمودة، ويصل إلى حد التشظي والشرذمة الذميمة، وهذا ما يمكن أن نعثر عليه بسهولة في تعدد القوائم المنبثقة أو المنشقة عن حركة فتح، وفي فشل قوى اليسار الفلسطيني التاريخية في الوصول إلى قائمة موحدة، على الرغم من اتفاقها الذي كان سهلا على الخطوط البرنامجية سواء السياسية الوطنية، أو الاجتماعية الداخلية. كما نلمس حالة التشظي في الارتفاع الكبير لعدد القوائم التي تمثل امتدادات لحراكات جماهيرية مطلبية، أو تلك التي تعلن عن نفسها ممثلة لفئات “المستقلين” فضلا عن قوائم رجال الأعمال والتكنوقراط والقوائم الجهوية والعشائرية.
أسباب كثيرة تقف خلف هذا التشظي الذي بات يهز كل مكوّنات المشهد السياسي الفلسطيني، ويكاد يُخرج بعض المكوّنات الرئيسية من خريطة الفعل والحضور ويحيلها إلى الهامش. أو يعيد ترتيب عناصر هذه الخريطة وفق نتائج الانتخابات. ومن أبرز أسباب هذا التشظي غياب استحقاق الانتخابات لفترة طويلة، ومرور 15 عاما على إجراء آخر انتخابات، وتأخر الاستحقاق الانتخابي عن موعده القانوني أحد عشرعاما كاملة، هذا الغياب ولّد تعطشا شديدا وتوقا جارفا لممارسة هذا الحق لدى معظم فئات الشعب، وليس أدلّ على ذلك من ارتفاع نسبة التسجيل للانتخابات والتي بلغت أكثر من 93 في المائة من اصحاب حق الاقتراع، باكثر من مليونين ونصف المليون مواطن، ثلثهم على الأقل (الفئة العمرية من 18-35 عاما) تتاح لهم فرصة المشاركة في الانتخابات للمرة الأولى في حياتهم.
ومن الأسباب التي ساهمت في ارتفاع عدد القوائم، اتساع الفجوة بين الجمهور بشكل عام، وبين الأطر السياسية القائمة. وهي فجوة تدلل على انخفاض الثقة بهذه الأطر التي باتت نموذجا للجمود والتكلس، وضعف قدرتها على التكيف مع المتغيرات العاصفة سواء في العالم ام في منطقتنا، واحتفاظها بنفس أساليب العمل، والبنى الهيكلية، والتشكيلات القيادية، وحتى بنفس الخطاب ونمط العلاقة مع الجمهور، ناهيك عن طبيعة العلاقات بين هذه الفصائل عينها. وفي المحصلة ظلت هذه الأطر والتنظيمات منغلقة ومعزولة ومحدودة التأثير في مجرى الأحداث. هذه الفجوة والمواقف من البنى القائمة انتقل من الجمهور العريض إلى الكادر المنخرط في صفوف هذه التنظيمات، وهذه الفئة هي الأقدر على تلمُّس ووعي المشكلات التي تعيشها أطرها، وإدراك أن العوامل الذاتية والمصالح والحسابات الصغيرة هي التي تحول دون تطور هذه البنى والتشكيلات، وكسر الجمود الذي تعيشه منذ سنوات.
ومن شواهد تشخيص أزمة الحركة الوطنية وبناها القائمة، أن معظم الحراكات السياسية والاجتماعية المطلبية والنقابية التي جرت في السنوات الأخيرة، جرت خارج الأطر الرسمية للحركة الوطنية، التي اتخذت قيادات بعضها موقفا سلبيا من هذه الحراكات، وقاطعتها وناصتبها العداء كما جرى تجاه حراك “ارفعوا العقوبات عن غزة”. من المؤكد ان عناصر وكوادر معظم القوى شاركوا في هذه الحراكات، لكن الثابت أن هذه الحراكات تطورت ونمت واتسعت بشكل مستقل عن أطر الحركة الوطنية، ووصل بعضها إلى مرحلة تشكيل قوائم مستقلة لخوض انتخابات التشريعي.
عدد القوائم ليس إلا واحدة من الظواهر الجديرة بالفحص والدراسة، أما سياقات المعركة الانتخابية، ونتائجها فهي بلا شك سوف تترك آثارا حاسمة على مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية وصراعها مع الاحتلال.