تأملات فكرية وفقهية في رحاب سورة النور

الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين

أولاً: آيات بينات:

﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (1 ـ 2).

هكذا تبدأ سورة النور: سورة أنزلها الله وفرضها. فقوله: “أنزلناها” يشير إلى أنها من السماء. وقوله: “فرضناها” يشير إلى أنها حكم إلهي واجب التطبيق. وأما قوله: “وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ” فيبين أن الأحكام هنا واضحة بينة لا لبس في فهمها لدى كل ذي عقل وقلب. فلا جرم أن كان لازماً لكل حكم واضح، من أمرين: عقل يفقه، وقلب يحب ويؤمن وينصاع. ولقد رأينا اليوم بيننا من يفقه، ولكن لا يحب فلا ينصاع.

ولعمري إنه لا يؤمن بهذه الآيات من يرى أنها غير بينة، فيبحث عن تأويل لها بعيد.

فما هو هذا الحكم يا رب؟ إنه حكم الزنا: فالزاني والزانية لا بد من جلد كل منهما مائة جلدة. ولا يكفي أن نجلدهما هذا، بل لا بد من التشهير بهما، وفضحهما على الملأ. ثم لا يكفي أن نطبق الحكم، بل لا بد أن نطيع أمر التشهير، بأن تمتلئ قلوبنا طاعة لأمر الله، فلا نبغض حكمه بقلوبنا، فنبحث عن مسوغات أخرى تبطل هذا الحكم، أو تفرغه من مضمونه ـ القاسي ظاهرياً ـ إذ لا بد ألا تأخذنا رحمة بأي من هذين المعذبين، لأننا إنما نطبق حكم الله. ولا ينبغي لنا أن ننازع الله في رحمته، فنبدو أرحم منه.

وإنه لحق، أنه لا يحب حكم الله، وليس مطيعاً قلبه له، من شعر بأدنى رأفة في قلبه، وهو يطبق أمر الله. فلقد أمره الله بالقسوة الحازمة، في شعور القلب وتطبيق الجوارح. فليس مؤمناً بالله حق الإيمان من شعر بالرأفة في تطبيق حكمٍ أُمر فيه بالحزم والعزم والتشهير: “وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ”.

إذن فذلك الجلد دين الله، شريعة الله السمحة. ومن رأى أن هذا ليس حكماً سمحاً، فعليه أن يفتش في قلبه عن حقيقة إيمانه بالله واليوم الآخر. وهذه الآية تدل على أن الشريعة دين. وقد عبر الله عن ذلك حين اعتبر شريعة الملك ديناً للملك، إذ قال: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ (يوسف/76).

الخلاصة:

1ـ جلد الزاني والزانية أمر سماوي.

2ـ الرأفة في تطبيقه دليل نفاق.

3ـ المناقشة في مشروعيته، إنكار لحكم بَيِّنٍ واضحٍ معلومٍ من الدين بالضرورة.

ثانياً: مقارنة ورد شبهة:

يقول تعالى:

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ (النور/2).

ويقول:﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾(المائدة/38).

ويحب البعض أن يستنتج من ذلك، أن الابتداء بالسارق قبل السارقة، يشير إلى أن فعل السرقة يبدؤه الرجل غالباً؛ على العكس من فعل الزنا، الذي تبدؤه المرأة ـ غالباً ـ بالتلميح والإغواء.

ولكن الحق غير ذلك بالمرة: فقد تقرر في علم النحو أن واو العطف لا تفيد الترتيب: إذ رأينا التنزيل العزيز يقول مرة: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران/114). ثم رأيناه يقول أخرى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران/110).

ففي الأولى قدم الإيمان على الأمر بالمعروف، وفي الثانية قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله. مع أننا نعلم قطعاً أن الإيمان أهم من الأمر بالمعروف. ففهمنا من ذلك أن واو العطف لا تفيد في الأصل ترتيباً تصاعدياً ولا تنازلياً، وإنما هي تجمع بين حكمين، بغض النظر عن أهمية أي منهما.

ثالثا: تحدي الفطرة:

﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (3).

“لا ينكح”: النفي هنا لبيان الحكم، لا لوصف الواقع. وإلا فقد شهدنا زناة يتزوجون من عفيفات، والعكس. والمعنى: أنه لا ينبغي لنا أن نسمح للزاني بأن يتزوج إلا من هي مثله. والزانية كذلك لا ينبغي لنا أن نسمح لها بأن تتزوج إلا مثلها. وهذا عقاب اجتماعي، إلى جانب كونه عقاباً سماوياً: فكل عفيفة تقبل الزواج ممن عُرف بالزنا هي عاصية لله. وكل عفيف يقبل الزواج ممن عُرفت بالزنا، هو عاص لله. إذ لا ينبغي أن يختلط الطاهرُ بالنجس، فينجس الطاهرُ، ولا يطهر النجس.

كما يبدو لي أن ثمة حكماً آخر يمكن استنباطه، من قوله سبحانه “الزانية والزاني”: فليس زانياً، إلا من ظهر منه الزنا. وليست زانية إلا من بدا عليها الزنا. ولا يشتهر شخص بالزنا إلا بعد مرات. ذلك أن الله لا يفضح الناس وقد أمرهم بالستر. فلا ينكشف زان او زانية إلا وقد سبق أن تكرر منهما ذلك.

وإنه لواضح أنهما قد اختارا الفضيحة والعادة، إذ سمحا للمجتمع بأن يضبطهما متلبسين بارتكاب جريمة الزنا، في وضع مشهود من قبل أربعة. ولعمري إنه لزان متعود، وإنها لزانية متمرسة، من ضُبط منهما في وضع الزنا بشهادة شهود أربعة، رأيا الفعل واضحاً لا لبس فيه.

يبدو لي هنا أننا أمام حالة زنا علنية، تتحدى المجتمع والفطرة والسماء.

النتيجة:

لا يُقال عن شخص زان إلا وقد فضحه الله. ولا يفضح الله زانياً في المرة الأولى أبداً.

حُمل رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد سرق، فقال:

ـ والله يا أمير المؤمنين لقد كانت المرة الأولى.

فقال أمير المؤمنين:

ـ كذبت. ما كان الله ليفضحك في المرة الأولى.

رابعاً: الستر أولى:

﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (4).

﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (13).

إذن فلكي تتهم امرأة أو رجلاً بالزنا، فعليك أن تأتي بأربعة شهداء عدول، رأوا فعل الزنا واضحاً، لا لبس فيه. فقد تكون رأيت فعل الزنا حقاً، ولكن لا بد لكي تعلن ذلك من حضور شهداء معك.

لماذا وأنت محق وتقول ما رأيت حقاً؟ لأن رؤيتك وحدها قادرة على الكتمان والستر وعدم الإعلان.

الستر هو المطلوب الحقيقي من كل هذا التشدد في الاتهام.

إذن فليس الزنا بحد ذاته هو الملاحق، بقدر ما هو الإعلان: ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (19).

وإن زانيين اثنين يتمكن أربعةُ شهداء من رؤيتهما متلبسين بالفاحشة، لمستهترين بقواعد الحشمة حقاً، ولمتحديين قوانين المجتمع والإله والناس. وإن من استهتر إلى هذه الدرجة، لمستحقٌ تلك العقوبة.

النتيجة:

الستر أولى، وهو المطلوب أكثر من العقوبة. وإن على لم يرغب بالتستر أن يبحث عن المستحيل: أربعة شهداء عدول رأوا فعل الزنا فاضحاً واضحاً، كالميل في المكحلة؛ فإن لم يفعل كان عليه أن يتلقى العقوبة، ثمانين جلدة على الملأ، ثم اعتباره فاسقاً مردود الشهادة.

خامساً: الملاعنة: حل لا بد منه:

﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (6 ـ 9).

لقد شهدنا “المتبرع” بالشهادة على الزنا، ينال عقوبة الجلد والتشهير. وقد استحق ذلك كما أسلفنا. لكن ثمة شاهداً آخر لم يَتَقَصّد الشهادة، بل نكبته الظروف باكتشافه خيانة زوجته، له على فراشه. فكيف يأتي بالشهداء؟ أيبتلع مرارته في حلقه، أم ينقض على الزانيين فيفتك بهما؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما حكم القانون السماوي. والقانون السماوي لا يحابي رجلاً قد يكون افترى على زوجته، ولا يحابي زوجة قد تكون خانت قدسية رباط الزوجية.

فما العمل؟

يقسم الزوج بالله ـ أربع مرات ـ أنه رأى زوجته تزني. ثم يقسم يميناً خامسة أخرى: يدعو فيها على نفسه بأن تحل عليه لعنة الله، إن كان قد افترى عليها في هذه الشهادة.

وبذا تصبح الزوجة بين خيارين:

1ـ إما ان تعترف بالزنا، وتنال العقوبة المقررة.

2ـ وإما أن ترفض الاعتراف، فتقسم أربع أيمان بأنه كاذب في ادعائه، ثم تقسم داعية ـ في المرة الخامسة ـ بأن يحل بها غضب الله، إن كان صادقاً.

ثم يتم التفريق بينهما إلى الأبد، دون مراجعة أو عودة.

لاحظوا أن الله يعلم أن المرأة تستهتر باللعن، لكثرة ما تردده في الحياة، فاختار لها أن تدعو على نفسها بغضب الله، بخلاف الرجل الذي يستشعر هول اللعنة!

سبحان الله!

يبدو أن هذه الصيغة أشد وقعاً على ضمير المرأة.

سادساً: حديث الإفك:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ* لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ* وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ* يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (11 ــ 18).

سافر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رحلة غزو إلى بني المصطلق. وخرجت قـُرعة أمنا عائشة، فسافرت معه. وفي طريق العودة، استراح الجيش في الليل في الصحراء، فخرجت أمنا عليها السلام من هودجها لقضاء حاجة، فلم يشعر الجيش بأنها خارج الهودج، فرفعوه فوق الراحلة وقد ظنوها في داخله، وسافروا.

رجعت أمنا عليها السلام إلى هودجها، فلم تجد جيشاً ولا راحلة ولا هودجاً، ووجدت المكان خالياً، فنامت في مكانها، وقد علمت أنهم سيفقدونها فيعودون.

ثمة صحابي حصور ـ لا يقرب النساء ـ اسمه صفوان بن المعطل رضي الله عنه ـ كان قد خرج بعيداً، ثم عاد فوجد الجيش وقد ارتحل، لكنه رجل فارس، يسافر على ناقته، ويعرف الطريق إلى المدينة، يمر بها فيراها، فيعرفها ـ وقد كان يراها قبل فرض الحجاب ـ فما يكون منه إلا أن ينيخ براحلته، فيطأطئ عنقه، لتركب أمه وأمنا وأم المؤمنين على راحلته، فيسوق بها راجلاً إلى المدينة.

سار صفوان يسوق الراحلة ماشياً، وأمنا راكبة، حتى أدرك آخر الجيش في مرحلة قريبة، حيث المنافقون، فأطلقوا ألسنتهم فيهما بالاتهام. وحين عاد الجيش إلى المدينة، كانت الشائعة تملأ كل البيوت، ويسمع بها رسول الله فيتألم، دون أن يتهم أحداً. وبعد أكثر من شهر أنزل الله هذه الآيات، يبرؤ أمنا، ويفضح المنافقين، ويقرر حكم الجلد لكل من يتكلم في أعراض الناس دون أربعة شهداء.

ولكن المنافقين لم يُجلدوا، لأنهم لم يتكلموا أمام من يشهد عليهم، كما يفعل منافقو كل زمن. بل تم جلد عُصبة من المؤمنين الساذجين الأغرار، الذين تسرعوا في الكلام. وهم ثلاثة: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، أخت أمنا زينب عليها السلام.

هذا وقد كشفت الحادثة عن الآتي:

1ـ وعكة في العلاقة بين أمنا عائشة وعلي بن أبي طالب، إذ نصح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهجران عائشة، حتى يتبين الأمر. وتلك كانت نصيحة ابن عم وأخ رؤوم، بخلاف نصيحة الصحابة الآخرين الذين لا تربطهم قرابة برسول الله. ويبدو لي أن لهذه الوعكة أثراً في الخصومة بين الاثنين بما أدى إلى معركة الجمل فيما بعد.

2ـ ظهور بوادر تمرد لدى سعد بن عبادة، زعيم الخزرج، الذي دافع عن كبير المنافقين، عبد الله بن أبي بن سلول، الذي أوقد الشائعة واختبأ. وابن سلول هذا من الخزرج. ويبدو لي أن هذا كان مقدمة لرفض سعد بيعة أبي بكر يوم السقيفة، وخروجه من المدينة، ومن ثم موته الغامض. ودعونا نتذكر أن سعد بن عبادة هذا كان ينوي الانتقام من أهل مكة يوم الفتح، لولا أن الرسول عزله عن قيادة الفرقة المهاجمة لأم القرى.

3ـ بشرية الرسول إذ استمر يعاني ويشك لمدة شهر، وقد غادرته أمنا عائشة غاضبة إلى بيت أبويها، فلم يسترضها، إلا بعد أن برأها الله من السماء.

4ـ دلال أمنا عائشة على رسول الله، إذ جاء يصالحها بعد نزول الآيات، فأبت أن تشكره، بل وجهت شكرها لله وحده.

﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: إذن فالمحنة خير، تكشف معادن الناس، فمنهم من هو ساذج، ومنهم ما هو ماكر منافق شرير: فأما المؤمنون الذين لم يصابوا بالسذاجة، المؤمنون الكيسون العقلاء، فلا يصدقون الشائعات، في أمهم الطاهرة. وأما المتورطون الساذجون فعليهم أن يدفعوا الثمن، لكي يتعلموا الدرس: عليهم أن يقدموا الشهداء، أو يجلدوا.

وقد حدث، فجُلد كل من حسان بن ثابت ومسطح بن أُثاثة وحمنة بنت جحش. ونجا زعيم المنافقين ورب الشائعة الأصيل عبد الله بن أبي بن سلول من الجلد، في انتظار العذاب تاماً غير منقوص يوم القيامة.

والآن يا أصدقائي، دعونا نتأمل كم تعذب وصبر رسول الله، وكم أساء وبغى واستحمق من لاك عرضه بالشائعات، أكثر من شهر، وهو يسمع ويصبر وينتظر أمر الله. فتأملوا معي هذا البيان السماوي يعرض الألم النبوي: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.

ثم تأملوا معي اليوم كم هم أعداء حقيقيون لله ولرسوله:

1ـ عسكريون لا يحسنون تفكيك بندقية، يفككون آيات القرآن.

2ـ موظفون مكويون وظفتهم زوجاتهم، يعترضون على تعدد الزوجات.

3ـ أطفال نجحوا في الجامعة بتدخلات الماما، “يجتهدون” في الدين، بما يخالف الأئمة الأربعة.

4ـ فتيات يمسح المسطرين وجوههن بـ”الميك أب” يتكلمن على عائشة.

5ـ مومسات لا يعجبهن “قرن في بيوتكن” و”حد الزنا”.

6ـ جواسيس دوليون في مناصب عليا يفسرون القرآن “بطريقة عصرية”.

7ـ أوغاد يرتدون “الفيزون” وخولات يحملون مكاحلهم في “محافظ خرز” ينالون من رسول الله.

8ـ شيوعيون ماديون يؤمنون بأن “لا إله والحياة مادة” يفسرون القرآن، ويفتون في الدين، ويشتمون الصحابة، وينبذون السنة.

الطريف أن كل هؤلاء الشواذ والشاذات يطالبونني بأن أتحلى بـ”اتساع الأفق” و”الاستماع إلى الرأي الآخر” كأن ضراطهم آراء لها وزن…

سابعاً: مؤمنون ومنافقون:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ* وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (19 ـ 21).

إذن فهناك صنفان من الذين يخوضون في أعراض المؤمنين:

1ـ صنف ممن يحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، ليصبحوا مثلهم، فتتساوى العاقبة. وهؤلاء ـ رؤساء النفاق الكبار، الذين يبدون الإيمان، ويبطنون الكفر ـ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بفضحهم يوماً ما، وفي َالآخِرَةِ بالخلود في جهنم: فقليلاً ما كان محب شيوع الفاحشة مؤمناً.

2ـ وصنف آخر من الحمقى الطيبين ـ وبعض الطيبين حمقى ـ لا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولكنهم يتسلون بالكلام، ويرددون كلام المنافقين في المؤمنين. وهؤلاء وإن لم يكونوا كفاراً، إلا أن العدل يقتضي أن يدفعوا ثمن حمقهم، بأن يُجلدوا ويشهر بهم في الدنيا، ثم يُتركوا لرحمة الله يوم القيامة.

وقد يدرك الله الحمقى برحمة، لا يدرك بها الكافرين المنافقين. ورب أحمق مؤمن ـ يهرف بما لا يعرف ـ خير من ملء الأرض من المنافقين البلغاء. لأن الله ينظر في القلوب، لا فيما تقوله الألسنة.

﴿والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾: يعلم كبار المنافقين الذين يختلقون الشائعات في أعراض المؤمنين، ثم يختبئون وراء الحمقى لا ينالون عقوبة الجلد، ولكنهم ينالون عقوبة الخلود في جهنم. سيُجلد البسطاء الحمقى، ثم يتوبون بتوبة الله عليهم. وسيفلت المنافقون من الجلد الآن، لينالوا ما هو أعظم يوم القيامة. ولقد غفرت أمنا عائشة لحسان، وغفر أبو بكر لمسطح. ولكن الله لم يغفر لعبد الله بن أبي بن سلول. وما ذاك إلا لأن المنافقين يتبعون خطوات الشيطان، فهم تلاميذه في حب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، بخلاف حمقى المؤمنين الذين يعلم الله طيب سريرتهم، كما يرى سوء فعلهم، فيجزيهم على سوء الفعل بالجلد، وعلى طيب السريرة بالمغفرة. ولا سواء.

واليوم يمكننا أن نرى كيف يتكرر المشهد، حيث كبار أعداء الدين يتكلمون في الدين بالباطل، فيتبعهم حمقى المؤمنين، دون أن يعلموا أنهم إنما يختارون طريق البوار. وإلا فكم مادياً ـ أرى اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي ـ يفسر القرآن الآن بما يرضي الكافرين، ويغوي حمقى المؤمنين؟

فيا حمقى المؤمنين، لا تتبعوا خطوات الشيطان. إذ َلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لألحقكم بمن تقلدون.

ثامناً: لولا:

﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (20).

ها نحن نرى هنا الحرف “لولا” يسبق الجملة. ومعلوم أن هذه المقدمة، تستدعي ـ في العادة ـ جواباً: فنحن نقول في العادة: “لولا اليوم الآخر لفسدت الدنيا”. بل إن الله ليقول في الآية التي تليها: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (21).

فإذا كان الأصل إثبات الجواب ـ كما هو في الآية21، فلم حذفه في الآية20؟

يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن الله حذفه هنا، لا لدلالة السياق عليه كما يظن البعض، بل لكي يتبقى هذا السؤال خالداً أبدياً: ماذا كان سيحدث لنا، لولا فضل الله ورحمته؟

تاسعاً: عفو الكرام:

﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (22).

يأتلي: يقسم. وقد جاءت مجزومة بحذف الياء الأخيرة لأنها مسبوقة بـ”لا” الناهية.

لما نزلت براءة أمنا عائشة من السماء، حلف أبو بكر أن يوقف نفقته على “مسطح بن أُثاثة” قريبه، الصحابي البدري، الذي خاض في عرض أمنا عائشة، فنزلت هذه الآيات.

لا جرم، فالصحابة هم خير الناس بعد الأنبياء، بلا شك. ولكن خير الناس يمكنهم أن يخطئوا. بل إن من أهل بدر من وقع في بعض الكبائر، ولولا غفران الله المسبق لهم لهلكوا. ولكن الله سبقت منه الحسنى لأهل بدر، فاحتمل الشرع خطاياهم لحسناتهم وسبقهم ونصرتهم رسول الله في أحلك المواقع.

ولكيلا يستغرب مستغرب أذكركم بأن “حاطب بن أبي بلتعة” ارتكب جريمة الخيانة العظمى، فبلغ أسرار جيش الرسول المهاجم لمكة قريشاً ليحذروا. ولولا نزول الوحي وفضحه لعملية التجسس، وإدراك “عليّ بن أبي طالب” الرسالة في الطريق، لبلغ الخبر قريشاً، فلاستعدّتْ للدفاع. ولئن كان الله قد أسقط العقوبة عن “حاطب” فإنه لم يسقطها عن “مسطح” هذا الذي خاض في حديث الإفك، فألهب ظهرَه وضميرَه جَلدُ الثمانين.

أما “حسان بن ثابت” فكان شاعر الرسول المنافح عن دين الله، لكن تعاطفه مع قريبه زعيم الخزرج السابق ـ كبير المنافقين “عبد الله بن أبيّ بن سلول” ـ أغواه بالاستماع إليه وترديد شائعته. فكان عليه أن يتلقى عقوبة مشابهة.

وأما “حمنة بنت جحش” فقد كانت أخت أمنا “زينب بنت جحش” زوج رسول الله، فكانت تنافح عن أختها، وتشيع الفاحشة في سيرة ضرتها “عائشة” فكانت شر الثلاثة، وتلقت الجلد على الملأ.

إذن فقد وقع في عرض أمنا عائشة ثلاثة من الصحابة، منهم مسطح قريب أبي بكر، الذي تناول قريبته عائشة بالإفك، مع أن أباها الصديق ينفق عليه من شدة فقره.

فلما نزلت براءة أمنا عائشة من السماء، حلف أبو بكر أن يمنع نفقته عن مسطح. فنزل قوله تعالى يعلمه: “وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟” فقال أبو بكر: “بَلى واللّه، إنِّي لأُحِبُّ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لي”. ثم أرجع نفقته على مسطح.

لقد كان القرآن ينزل على قلوب حية، تنبت بالخير، وتستجيب للخير، وتفعل الخير، كما أمر رب الخير، ولو كان ذلك على حساب عاطفتها البشرية. ليس ذلك فحسب؛ بل إن أمنا عائشة سامحت فيما بعد حساناً، بأبيات شعر قالها، في الرد على “أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب” شاعر الكافرين إذ قال حسان:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

مغلغلةً فقد برح الخَفاءُ

هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه

وعند الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوه ولستَ له بكفءٍ

فشرُّكما لخيركما الفداءُ

هجوتَ مباركاً بَرّاً حنيفاً

أمينَ الله شيمتُه الوفاءُ

أمن يهجو رسولَ الله منكم

ويمدحه وينصره سواءُ؟

فإنّ أبي ووالدَه وعِرضي

لعِرض محمدٍ منكم وقاءُ

سلاماً لأمنا عائشة في الجنة

سلاماً لأبي بكر خير الناس بعد الأنبياء؟

عاشراً: تناسب وتوافق:

﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (26).

الخبيثات والخبيثون: كل امرأة خبيثة، وكل رجل خبيث، وكل صفة خبيثة، وكل الأعمال الخبيثة. فهي عموم. والطيبات: عكس ذلك: كل امرأة طيبة، وكل رجل طيب، وكل صفة طيبة، وكل الأعمال الطيبة. فهي كذلك عموم. والآية هنا تحمل معنيين:

1ـ وصف الواقع بمعنى” هكذا يحدث غالباً”.

2ـ وأمر حازم بمعنى “لا ينبغي غير ذلك” أو “غير مسموح غير ذلك”. فلا تزوجوا الزانية للعفيف، ولا تزوجوا الزاني للعفيفة.

وعلى ذلك، فالطيب لا يصدر عنه في العادة إلا كل فعل طيب، لأن هذه هي شيمته. ثم إن الطيب لا ينبغي له أن ينكح إلا امرأة طيبة مثله. ولاحظوا أن الآيات نزلت في سياق الدفاع عن أمنا عائشة، وتبرئتها من حديث الإفك. كأن التنزيل العزيز يريد أن يقول: إن رسول الله طيب، ولا يختار له الله إلا زوجة طيبة. خصوصاً وقد ألقى الله حبها في قلبه. وما كان لله أن يغرس حب امرأة غير طيبة في قلب رجل طيب هو رسوله.

فإن اعترض معترض بأن كلاً من زوجة لوط ونوح ـ عليهما السلام ـ كانت غير طيبة، قلنا له: صه أيها السفيه، فقد علمنا أن أياً من نوح أو لوط، لم يعشق زوجته، كما عشق رسول الله أمنا عائشة.

حادي عشر: من أبصارهن:

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (30).

فيه مسألتان:

1ـ المسألة الأولى في الإعراب:

فقوله: “يغضوا” من الأفعال الخمسة، الذي يُرفع بثبوت النون، وينصب ويجزم بحذفها. فالفعل: “يغضوا” هنا لا يبدو أن حرفاً من حروف النصب أو الجزم قد سبقه، فلم لم يقل: قل لهم يغضون؟

وبيان ذلك أن قد جاء فعل الأمر الأول: “قل” أي قل لهم يا محمد.

فتقول ماذا؟

قل لهم: “غضوا”، فإن قلت لهم: “غضوا”، “يغضوا”

ففعل الأمر “غضوا” محذوف دل عليه معنى السياق. ثم جاء جواب الأمر في النص “يغضوا”. ومعلوم أن الأمر جازم في فعله وجوابه. وعلى هذا يكون تقدير السياق: “قل للمؤمنين: غضوا من أبصاركم؛ يغضوا من أبصارهم”. وكذا في قوله: ويحفظوا فروجهم.

2ـ المسألة الثانية: في غض البصر:

والصحيح أن “من” في قوله “يغضوا من أبصارهم” هي التبعيضية. أي غضوا من بعض أبصاركم، غضوا عن النظر إلى كل محرم فقط، وإلا فلستم مأمورين بغض أبصاركم عن النظر إلى كل جمال مباح.

وفي المسألتين أقوال أخرى أعرضنا عنها.

ثاني عشر: نور على نور:

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (35).

“الله نور السماوات والأرض” النور ضياء، والضياء هدى. والظلمة تيه وضلال. فبالله اهتدت السماوات والأرض ـ أي الكون كله ـ ولو تصورنا أن الله خلق العالم ثم تركه دون رعاية، إذن لاضطرب نظامه، وزال وسقط وتدمر تماماً. فالله هو الهدى الذي يهدي هذه المخلوقات إلى نظام استمرارها، كما أخبر في موضع آخر، بأنه سبحانه: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه/50).

فتسمية الله نفسه بنور السماوات والأرض، هو من باب المجاز، أي تسمية خالق الشيء بالشيء نفسه. يوضح ذلك قوله في نفس الآية: “يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ”. فلولا هداه لما اهتدى شيء إلى شيء أبداً. أما القول بأن الله هو النور ذاته، والذهاب إلى التجسيم، باللجوء إلى ما تقول به النظريات العلمية من أن الطاقة هي أصل المادة، وأن الطاقة نور، ملمحين في ذلك إلى أن الله هو هذه الطاقة، فضلال مبين، وتحويل للإله الذي يتعالى على المادة إلى مادة.

ولقد أساء المرحوم سيد قطب ـ غفر الله له ـ حين قال في ذلك: “الله نور السماوات والأرض: النور الذي منه قوامها ومنه نظامها، فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها. ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى، عند ما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة ـ بعد تحطيم الذرة ـ إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور، ولا مادة لها إلا النور: فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق عند تحطيمها، في هيئة إشعاع قوامه هو النور” (في ظلال القرآن. دار الشروق. المجلد الرابع. ص2519).

أما تمثيل نوره ـ سبحانه ـ بمشكاة فِيهَا مِصْبَاحٌ، فِي زُجَاجَةٍ لامعة؛ فمجرد تقريب وتصوير للبشر البسطاء، أن يروا ما لديهم، فيتصوروا ما ليس لديهم، قياساً عليه؛ كما فعل سبحانه حين وصف ثمار الجنة، مع أنها لا مثيل لها أبداً. فالعقل البشري لا يستطيع الاجتهاد خارج المألوف.

ثالث عشر: ثلاثة أحكام:

﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (32 ـ 33).

في هاتين الآيتين ثلاثة أحكام هي: الحض على تزويج الأيامى، والحض على المكاتبة والمساعدة فيها، وتحريم الدعارة.

1ـ الحض على تزويج الأيامى.

والأيامى هم غير المتزوجين من الرجال والنساء (العزاب والعزبات). فعلينا أن نقدم كل الممكن لتزويجهم، قبل أن نفرض عليهم حج الزنا. على الدولة أن تيسر سبل الزواج، وما يفرضه الزواج من توفير سبل العمل الشريف لفتح بيت جديد؛ ثم بعد ذلك تطبق جد الزنا. فإن قصرت الدولة، ولم يستطع الأيِّم الزواج، فالتنزيل العزيز يحضّه على التعفف، وما يقوده إلى التعفف، كالصيام.

وإن عدم تمكين الشباب من الزواج والعمل لشبهةٌ تعطل حد الزنا. فكما منع عمر بن الخطاب قطع يد السارق الجائع، وكما أوقف الحدود في عام المجاعة (الرمادة) نوقف نحن حد عقوبة الزنا، حتى نضمن توفير السكن والعمل للشباب.

2ـ الحض على المكاتبة والمساعدة فيها.

والمكاتبة هي أن يتفق السيد مع عبده على مبلغ يؤديه العبد بالتقسيط نظير حريته. ومعلوم أن الإسلام يحض على تحرير العبيد. فعلى كل مالك عبد أو جارية أن يسمح لهما بالمكاتبة، بل وأن يساعدهما على ذلك، بدفع قليل من المال لهما، كقسط أول. فإن لم يخضع السيد لهذا الأمر القرآني، فرضته عليه الدولة. والحمد لله ان انتهى هذا الأمر بانتهاء الرق في العالم.

3ـ تحريم الدعارة:

الدعارة ليست هي الزنا، فهي زنا مخصوص. فليس كل زنا دعارة، وإن كانت كل دعارة زنا. فالدعارة هي الزنا بأجر مالي. ويقال إنها أقدم مهنة في التاريخ. وقد يستغرب القارئ أن يقال بتحريم الدعارة، وقد وردت الآيتان هنا غير صريحتين بمنع من تريد الدعارة أن تمارسها: إذ يحث ظاهرها على منح الجارية الإذن بالتوقف عن الزنا، إن رغبت في ذلك.

والحق أن هذا النص هو من النوع الذي يقال عنه تاريخي، إذ يوجه الحديث إلى مجتمع كان بالأمس القريب جاهلياً. وكان بعض أهل الإسلام ما يزال يمارس هذا العمل الجاهلي. نعم فقد كانوا ـ في مفهوم الجاهلية ـ يرون أمر السيد لجواريه (ملك اليمين) بالدعارة حقاً له، خصوصاً وهن لا يحملن في أرحامهن أبناءه.

إذن فالحكم كان بدائياً، تمهيدياً، يسبق التحريم الشامل لكل دواعي الزنا. فنحن نعلم أن القرآن فرض حد الزنا ـ فيما بعدُ ـ على العبيد، كما فرضه على الأحرار، بدليل أنه جعل عقوبة العبد نصف عقوبة الحر.

رابع عشر: تخفيف:

﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور/60).

القواعد من النساء: يفسرها ما بعدها، بما لا حاجة للزيادة. فهن النساء اللاتي بلغن من العمر، ما يترفع الناس المتوسطون عن اشتهائهن في العادة، أي العجائز من كبيرات السن.

فالمرأة من هؤلاء يمكن لها ـ على سبيل المثال ـ أن تضع خمارها عن رأسها أمام الأجانب، الذين كان ممنوعاً عليها في السابق أن تتكشف عليهم:

تضع خمارها عن رأسها، أو ينكشف جزء من ساقيها دون مبالغة، أو يظهر ذراعاها مثلاً، أو يظهر طرف جيبها مما يلي الصدر… إلخ.

﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ دون أن يتزين فيقصدن إثارة الشهوة. وذلك تحذير للمرأة من الانسياق وراء طبيعتها في حب التزين، ولفت الأنظار. أي يضعن بعض ثيابهن بما لا يتسبب في إثارة الشهوة، للأسوياء من الناس، وإلا فغير الأسوياء يشتهون كل أنثى، بل قد يشتهون إناث الحيوانات كما رأينا ذلك في الواقع.

لكن هؤلاء من غير الأسوياء من الرجال، هم الشذوذ الذي لا تتناوله الآيات.

فالآيات قواعد عامة للناس العاديين، أما غير العاديين، فلا يتطرق إليهم الكلام لأنهم خارجون عن سياق الإنسان.

فلا يقال بأن على العجوز أن تتحجب أمام الأجانب تماماً، لاحتمال أن يكون بينهم حيوان. ذلك أن الآيات تتكلم عن البشر، لا عن الحيوانات التي تزعم أنها من البشر.

﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لهن﴾: وإن واصلت العجوز التحجب الكامل أمام الجميع، فهذا أفضل: لكي لا يشتهيها المرضى والحيوانات من الرجال.

بمعنى أن للمرأة العجوز رخصة في التخفيف، فإن تمسكت بالعزيمة وتعالت على الرخصة، خوفاً من الوحوش، فذلك أفضل.

ويجب أن نتذكر دوماً أن يسر هذا الدين، لا يسمح بتحويل الرخصة إلى قاعدة، كما يفعل اليوم حمقى المتدينين الجدد، حين يقولون: “لكل ساقطة لاقطة” مجادلين بالباطل رغبة في أن يلغي الحمقى رخص الله.

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: يسمع كل ما يقال في هذه المجالس، ويعلم نوايا القواعد من النساء المتخففات من الحجاب. وهذا تحذير من أن تتقصد العجوز استغلال الرخصة، لتثير الشهوة.

فاحذرن أيتها العجائز من سمع الله وعلمه. فهذه أحكام لأصحاب النوايا الطيبة.

فلو أن عجوزاً من النساء، ممن تعودت الفحش في شبابها، رغبت في أن تجادل بحقها في التخفف من بعض الحجاب، لرغبت في أن أمنعها، كي لا يحن الأوغاد إلى ما كانوا يفعلون معها في الماضي. ولعلها هي الساقطة تنتظر اللاقط.

النتيجة:

العزائم ليست هي الأصل في أحكام الشريعة، كما يرغب الحمقى، بل الرخص.

يقول سفيان الثوري رحمه الله: الفقه عندنا رخصة من ثقة؛ فأما التشديد فكل أحد يعلمه.

تريد أن تعرف جهل المفتي؟ اسأله عدة أسئلة، فإن رأيته يبحث عن التحريم، فاعلم أنه جاهل، لا يعرف كيف يستخرج التخفيف من بطون النصوص.

يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “إنَّ هذا الدِّين يُسْرٌ، ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه” البخاري.

والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى