أمي.. أنا خائفة! للقاصة السودانية استيلا قايتانو

حميد عقبي | كاتب وسينمائي – فرنسا

تشكراتي لأستاذي القدير القاص والروائي د. طارق الطيب، فقد كان جسرا طيبا للتعرف مع عددا من المبدعين والمبدعات السودانيات وكنت شكوت قلة حيلتي بجذب أصوات سودانية للمشاركة ضمن أنشطة المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح وفعلا ساعدني وتم تحديد يوم الجمعة 28 مايو وتخصيص ندوة خاصة عن المشهد الإبداعي السردي السوداني..تنوعاته وتمظهراته الجمالية ضمن برنامج الملتقى الأول للإبداعات السردية في رحاب رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، ومن ضمن هذه الوجوه الإبداعية سنلتقي مع القاصة المبدعة استيلا قايتانو وكذلك ستشاركنا بورشة إبداعية ضمن هذا الملتقى الذي سيعقد من 20 إلى 31 مايو، ببرنامج ضخم 28 ندوة وورشة إبداعية.
عودة للقاصة ستيلا حيث سعدت بالتعرف عليها وتحدثنا عبر المسنجر وأبدت حماسا كبيرة للمشاركة وأن يخضع منتجها الإبداعي للنقد وفعلا تلقيت مجموعتها العود ـ الطبعة الثانية وهي المرة الأولى أطلع على منتج قصصي لكاتبة من جنوب السودان، وطلبت منى قراءة ونقدا، أدعي أني متذوق جيدا ولعل صفتي السينمائية تطغو وتسيطر على كل نشاطاتي ومنها النقد وهناك الكثير من أساتذتي والأصدقاء يشجعوني على الكتابات النقدية لعلهم يبالغون قليلا بوصف ما أكتبه نقدا جيدا وأنا أصفه تذوقا .
في تقديم الأستاذ كمال الجزولي لمجموعتها العودة ـ الطبعة الثانية يشير معنونا مقدمته “ستيلا: صَفحَةٌ ماجِدةٌ مِن أَدَبِ الحَربِ الصَّافِع!” وينوه “لقد اختارت ستيلا السَّرد، عموماً، والقِصَّة القصيرة، تحديداً، كجنس أدبي تُجلي، من خلاله، طاقتها الإبداعيَّة، وكشكل فني تفرغ فيه تصوُّراتها الثقافيَّة والجَّماليَّة إلى الحدِّ الذي لا يتجاوز الواقع إلا بالقدر الذي يفسح للتخييل. ولا غرو، فالنَّسب قائم بين القِصَّة القصيرة وبين الحكاية الشَّعبيَّة، أو الأحجية، كفن من أقدم الفنون لدى مختلف الشعوب، خصوصاً الإفريقيَّة، وبالأخص شعوب جنوب السُّودان التي تنتمي ستيلا إليها.” وذكر أيضا أن القاصة اختارت اللغة العربية التي تجيدها جيدا بسبب حياتها الخرطومية ودراستها الجامعية بكلية الصيدلة وهنالك أشياء عدة تحدث عليها .
شعرت بمتعة كبيرة وأنا انتقل من غير نظام في هذه المجموعة ولا أدري لماذا شدتني قصتها “أمي.. أنا خائفة!” واخترتها لفهم عالم ستيلا وصوتها الإبداعي الذي كرسته للحديث عن ضحايا الحرب والتمزق والخوف والفقر والعنف والألم، هنا نحن نتابع قدرا قاسيا لامرأة أرملة وتأتي للبنك لتستلم تعويضا ماليا قد لا يكون ضخما وهذا بعد موت زوجها بالحرب، لكن هذا المبلغ سيغير حياتها وحياة أطفالها وربما لن تنتشلهم من دائرة الفقر والحرمان وكل ما تحلم به المرأة مهنة أو تجارة صغيرة تحفظ كرامتهم وتأتي المصادفة بوجود شخص يتابعها ويقرر أخذ المال منها وهكذا يتابعها ويعرف مكان سكنها، ليأتي ليلا مع رفاقة وبقوة السلاح يسطون على مالها.
لم تذكر القاصة ما قبل وقوف المرأة أمام شباك البنك ونحن نفهم بالتأكيد أن مثل هذه اللحظة لا تأتي بسهوله وتسبقها شهورا طويلة من المعاملات والركض والصداع بين الدوائر الحكومية الرسمية فلا تأتي التعويضات سهلة ليد الضحايا، حيث تأتي بداية القصة من النقطة المهمة “كانت فرحتها؛ مثل فرحة طفل، نقيَّة ومُتجاوزة للاحتمالات المتشائمة، وذلك عند استلامها الحقوق النقدية لزوجها الذي قُتِل في الحرب. عَلت وجهها، أثناء تسلُّمها تلك الجنيهات من شباك أحد البنوك، ابتسامة أقرب إلى الضحك، وهي تتخيَّل مدى فرحة أطفالها عندما تلبِّي لهم بعض طلباتهم الصغيرة الساذجة، ومضى عقلها وقلبها يسابقان خطواتها في التخطيط لطُرق صرف المال الذي صار بيدها،” لم تسمي شخصيتها ولم تسرف في اللأشيء الغير مفيد، كأنها تصور لنا لقطة متوسطة لوجه شخصيتها، لم تشغل نفسها بتحديد عمر شخصيتها ولا الصفات الجسدية وملامح الوجه وتفاصيل عدة ولكنها تنقلنا بنقلات سريعة وتحاول قرأة عمق شخصيتها، ما تفكر به في اللحظة “عقلها وقلبها “وتترك لنا أن تخيل أطفالها وطالباتهم الساذجة رغم حرمانهم الطويل، مثل هؤلاء الناس تظل أحلامهم بسيطة وأحلام هذه السيدة هي الحياة الكريمة “أولاً مدارس العيال، وثانياً شراء مؤن الشهر من دقيق، وزيت، وسُكَّر، وكيموت (الفول السوداني المسحون)، وبعض اللحوم الجافة، من شرموط، وأسماك جافة، وثالثاً التفكير في مصدر دخل ثابت للبيت بشراء بودا (دراجة بخارية تستعمل كمواصلات في جوبا)، أو بابتكار تجارة مربحة تقيها وأطفالها شرَّ مد الأيدي للناس.”
لا نجد تعقيدات لغوية ولا بلاغة فخمة في سردها، لكن البساطة أيضا قد تكون جميلة، كما في كتابة قاصتنا ستيلا، و البلاغة الفخمة في السرد القصصي قد لا تنتج عملا جميلا وجيدا وهنالك من يقع في فخ الصناعة والتصنع ويخرج من دائرة الخلق الإبداعي، كما أن الكاتبة تنقل حالات وقضايا عدة وتصور الواقع والماضي وتنسج من خيالها أيضا وترى الشخصيات والأماكن والحدث برؤيتها وتترجم ما يثور بأحاسيسها، وبسرعة تحضر صورة الحرب وهي حاضرة من اللحظة الأولى لكنها ستحضر بشكلها البشع ليس بمشهد حربي مثل سقوط قذيفة، تحضر بهذه الشخصية الشريرة، “أما هو؛ فكان هناك، تتحرك عيناه مراقباً يدها وهي تحتضن الجنيهات، كأنها تحتضن شيئاً مقدّساً، وتفجَّرت في رأسه أكثر الأفكار شرَّاً وأنانية، لقد قرَّر أن يستولي على ذلك المال بأي ثمن. تحركا معاً إلى خارج البنك.” إذن فهمنا القصة وفهمنا السريع لا يعكر متعة المتابعة وهذا الصراع الذي أوقدته القاصة سريعا وجعلت المرأة لا تنتبه له أو ٱن الفرحة أعمتها فأصبحت ترى الحياة جميلة.
تريدنا القاصة أن نُحس بدواخل شخصيتها ونشاركها كل خطوة “كانت تُطبِق على حقيبتها اليدوية المصنوعة من السعف بألوان قديمة باهتة، مرتدية فستاناً أسود حرقته الشمس حتى الاحمرار، يوحي بحزنها القديم المتجدِّد على زوج خرج ذات يوم دون وداع ولم يعد، تاركاً لها أطفالاً صغاراً في ظروف الحرب والنزوح والمجاعة. كانت خطواتها حذرة وخائفة، فقد كانت تعلم خطورة مدينتها التي امتلأت بأخطر المجرمين الذين لا يتردَّدون في قتل الناس ونهبهم، كما تسمع وتشاهد. لكن فرحتها كانت أقوى من كُلِّ تلك المخاوف.”
شدني كثيرا في هذه القصة وقصص ستيلا وصفها للأشياء كالحقيبة وملبس هذه المرأة ونجد ميولها لوصف هذه الأشياء وكيف تحولت أو ضاعت الألوانبسبب حرارة الشمس “مرتدية فستاناً أسود حرقته الشمس حتى الاحمرار” ولا تكتفي بالظاهر المرئي والمادي فما هو إلا الدليل على الداخلي والحالة النفسية لشخصيتها “يوحي بحزنها القديم المتجدِّد على زوج خرج ذات يوم دون وداع ولم يع”، ما حدث ويحدث لهذه المرأة ، يحدث لغيرها في الأراضي التي تحترق بحروب عبثية وتجار حروب لا يأبهون بالنتائج الكارثية، الحرب لعنة وعار تتسبب في تضخم الشر ووجود مسخا إنسانيا ورعبا في كل شبرٍ وهذا ما تجتهد ستيلا في رسمه وتصويره ببراعة دون تعقيدات ولا مبالغات، فالصراع يحتدم من البداية وهو صراع غير متوازن ماديا، امرأة بسيطة، ضعيفة، مع صغارة، في بيت متهالك فلا خزائن حديدة ولا أبواب فولاذية أو حتى خشبية يمكن أن توصد بقوة، أبواب بيتها من الزنك المتهالك يمكن أن تخترقه نفخة من الهواء فما بالكم بركلة قدم قوية أو ضربة بيد الشرير.
تدرك المرأة منذ اللحظة الأولى أها في مأزق وتوجه أخطارا كثيرة وربما لا تملك قريبا معينا ولا سندا لذلك تفكر فيتحويل المال سريعا لتجارة ما فوجوده معها تضعها أمام الكثير من الأخطار، كأننا في طقوس فيلما مرعبا، نعم هذه المناخات المرعبة هي حياة من يعيشون الحرب، فالحرب ليس القصف الذي ينقلنا لعالم الموت ونرى تأثيراتها في كل خطوة لهذه المراة ، بعد خروج المرٱة من البنك، تعدد القاصة خطواتها
“استقلت المركبة العامَّة” هو كان هو خلفها” مراقباً كُلَّ شاردة وواردة منها، حتى رمشة عينيها، ينتظر سانحته ليغدر بها”
رغم ضيق مساحة القصيرة إلا أن القاصة تختطف مشاهد حياتية لمن حول هذه المرأة “كان الركاب كُلَّهم بمزاج قابل للعطب لأتفه الأسباب، ونفسية قابلة للانفجار في وجه أقرب الناس” قراءة للمزاج العام، وضعنا في مواجهة هذا العالم الذي جعلته الحرب شرسا وشريرا وقلقا، جعلته بائسا، خائفا ومشتتا وسلبيا جدا، من الممكن ٱن تكون القصة بنفس الشخصيات والمصير وتنتهي عند خروج المرأة وتلقيها طعنة في ظهرها ولكن القاصة تدعونا إلى وليمة مليئة بالخوف والقلق ومزيدا من التعرية والمصارحة لهذا المجتمع الذي أفسدته وتتوغل في إفساده لحرب، القصة كتبتها ستيلا في جوبا ـ مايو 2013 وبإعتقادي تتكرر ويحدث مثل هذا وأكثر الآن، في اللحظة وغدا وبعد سنة في البلدان المصابة بهذه اللعنة.
ينساب شريط من الصور والمشاهد للشوارع، السوق، ثم الزقاق الضيقة، نستكشف البؤس والعنف معا، وفي كل لحظة تود ستيلا لتستكشف هذه المرأة، لثانية أعجبها فستانا ” تخيَّلت نفسها وهي ترتديه مستعرضة أنوثة دُفِنت تحت الثوب الأسود، ومعها دَفنت كُلَّ أفراحها، فصار جسدها مقبرة لغرائز ما تزال متقدة. فكَّرت لحظة في شرائه، لكنها أحسَّت بوخزة تخترق ضميرها عندما تذكَّرت زوجها، فأعادته بسرعة كأن شيئاً اشتعل، بغتة، في يدها” هنا وفي عدة قصص تكاد تتبع ستيلا نفس التقنية ما بين المشهد الخارجي وإهتزازات الروح وهكذا نتعرف على الشخصية أكثر ويزيد تعاطفنا معها أو جذبنا لمتابعة هذه الرحلة الخطرة.
هنالك عبارات تحسها تحليلية مباشرة جدا مثلا ” التزاماً بوفاء لإنسان لم يعد هناك، ولكنه يحتل صميم قلبها!”
وربما تشعر القاصة أو تحاول إيصال أن المرأة كانت تحب ذلك الزوج.
تصل الشخصية للبيت محملة بملابس وطعام فيفرح أطفالة، تضع المال بحقيبة حديدية، يأتي الليل بكل المهالك، ٱصوات الرصاص بالخارج وقد تخترق رصاصة طائشة جمجمة أو قلب طفل، مع كل هذه المخاوف الجسيمة هذا المال وفعلا تحدث الكارثة التي كانت ممكن أن تحدث فور خروجها من البنك، في الشارع، بالسوق أو طرف الحي ، جاء الشرير مع رفاقه، لا أحد من الجيران يساعد، لا فائدة من الإستغاثات، سلمتهم المال، دم زوجها المهدور بالحرب، الحياة الكريمة، الأحلام البسيطة، تنكسر هذه المرأة، تشعر بالغضب، تقرر أن تبحث عن مال حتى لو باعت جسدهاُ، ليس لتحقيق تلك الأحلام ولكن ” وإنما لتشتري بندقية، فقط بندقية تدافع بها عن نفسها وأطفالها في مدينة مُظلمة وظالمة!”
هكذا ختمت القاصة استيلا قايتانو، قصتها (أمي.. أنا خائفة!) وتلك عبارة ترجي وخوف قالتها طفلتها خلال ذلك المشهد المرعب لحظة السطو ليس على المال أو الأحلام فقطا، هذا السطو المسلح الجبان خنقا روحا، إغتاله وهنا يحدث التحول وتدعنا القاصة لنتصور هذا التحول هل البندقية للدفاع عن النفس في أرض الخوف ٱم أن مسخا قد حدث لهذه الشخصية.
إمكانيات ستيلا جيدة وعبارتها سهلة لكنها تحيك سردها ببراعة، تميل للرسم والتصوير المشهدي دون مبالغات لغوية وبلاغية، إنتقالاتها جيدة بين المشهد العادي الحياي ثم قفزاتها لدواخل النفس الإنسانية والجميل قوة الفكرة والموضوع، ببساطة تفضح قبح الحرب وتقدم مادة لسيناريوهات أفلاما قصيرة يمكن تنفيذها بإمكانيات سهلة وشخصيات وأماكن قليلة، بما يعني سهلة الإنتاج ولا تحتاج لمعالجات متعبة، فهذه القصة تحتاج إلى بعض الرتوش والقليل جدا من الحذف وهي مادة خام جيدة لسيناريو فيلم قصير، كما هي قابلة للتطوير أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى