سالينجر ..رهين الزمن
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية – العراق
ديني ديمونبيون كاتبُ سيرة (سالينجر في حياته الحميمية) الصادر عن دار المدى، بترجمة زياد خاشوق، فمن منا لا يعرفُ سالينجر الّذي اعتزل الأدب في الرابعة والثلاثين من عمره غير آبه للمجد الأدبي، بل ترك الحياة المدنيّة محتضناً الريف .
يبقى التساؤل مطروحاً في الطريق عن عزلته الأدبية بعد روايته اليتيمة (حارس القلوب ،أو الحارس في حقل الشوفان)، حاول كاتب السيرة ديمونبيون أن يرصد محطات حياة سالينجر بأسرارها الغامضة ، فهل استطاع هذا المغامر أن يرفع الستار عن الإله الغامض الذي عاش متنائياً لا معادياً للبشر، امتنع عن كلّ الناس سوى (فرانسيس ثابيروف) التي نمت بينهما صداقة واتصال مستمر على مدى أربعين عاماً ، فقطع كلَّ علاقة معها بعد أن اكتشف أنها قدمت مساعدتها للشاعر والصحفي الإنكليزي (يان هاملتون) الذي طلبَ مساعدتها من أجل كتابة سيرة الحياة (بحثاً عن سالينجر) فـ(أغضبه عدم حفظها على السر فكانت هذ القطعية)ص54 . فتبدو محاولة التعرّف على الإله الحبيس صعبة والذي التفت نحو البوذية ، فلا غرابة أن قلنا عنه الإله فهذا معتقد البوذية التي نشرها في روياته ، وهذا ما أكدته ابنته كلير فقد (سعى الكاتب الحبيس إلى التوازن عن طريق البوذية ، وهو الذي فكر في وقت ما أن يصبح راهباً)ص229 . استمر زمن روايته فهل توقف زمن الروائي؟ لا نخفي عن القارئ أن هذه الرواية قد مرّت بمراحل من المخاض ، وهذه المراحل تكشف عن سيرته وتفضح أسراره ، لكن كيف ؟ سالينجر كاتب أو قاص كتب العديد من القصص قبل الحارس في حقل الشوفان فنجده يناثر سيرته في قصصه، فقصة (فتاة عرفتها) أنه استلهمها من إقامته في فينيا، اقتبستْ الملاحظة السيرويّة أن هذه القصة شيء من سيرته ( أفضل راقصة فالس في فيينا كانت إنكليزية ضخمة يزيد طولها ..) ص43 ويذكر السالينجر في رسالة أرسلها إلى صديقه القديم (دون) ويحدثة عن الشابة وهي ترجوه أن يمنحها رقصة. وفي قصة قصيرة له بعنوان(من أجل أزمي بحب ومذلة) كتبها في ذكريات عاشها في بولندا سيما مشهد الذي مر به (حيث نحرت الخنازير قبل نقلها بالشاحنة في الثلج(ص44 .وغيرها من القصص التي ذكر فيها سيرته . ظل سالينجر يزاول قلمه على القصص القصيرة ومعظمها لم تنشر ، إلا أن وكيله الأدبي (ويت بورتيت) قد دفعه إلى كتابة الرواية وألا يقتصر على القصص القصيرة فحثه بقوله(آمل أن تكون الرواية في الطريق)77 . وجاءت قرارة سالينجر أنه سيعطي شكلاً جديداً للرواية وقد أفصح عنه بأنه سينتمي بشكل واضح إلى السيّرة الذاتية ، ولأنَّ سالينجر ينتمي إلى أولئك الكتّاب غير القادرين على الشروع في عمل جديد إن لم يشعروا بأنفسهم بأنهم بحالة من التجرد المطلق تجاه شخصياتهم فلم يستطع الشروع بكتابة الرواية ، فحياة العسكرية والحروب كانت منجماً للقصص فضلاً عن الحبّ الخائب من (أونا) التي تزوجت شارلي شابلن ، لكنّ ظل في رأسه فكرة كتابة رواية حول(هولدن كولفيد) صبي بعمر سبعة عشر عاماً ، مضت عشر سنوات وما زالت روايته حبيسته في ذاته فبطله نسخة عنه ،فكتب رسالة إلى وكيله( لقد اهملت هولندن منذ بعض الوقت حيث أنا موجود سيكون عملي فاشلاً، أنني اكتب نصّي بضمير المتكلم ويستحيل عليّ الشعور لأمور حيث أنا موجود لو كان النصّ بضمير الغائب لما تسبب بأيّة مشكلة)وأضاف (هذا الصبي مثل الديناميت ، لم ألامس في حياتي أبداً ما هو أكثر حساسية منه)ص214 ، غير أن سالينجر قد أدرج بطله في قصص عديدة كشخصية بطلة أو كراوٍ أو كطيفٍ فقط في أحدى المعارك ، كان ينتقل ضمن أمتعته بنصوص مخصصة لهولدن ، فيقول عنها أنه قد احبّها كلها حبّاً جمّاً ، اثنتان من تلك القصص (عصيان من جانب ماديسون، أنا مجنون ، كتب بعد ذلك بأربع سنوات انتهى الأمر بهما أن تدرجا في حارس القلوب)ص214 ، وعنوان الرواية مقتبس من قصيدة لروبرت بونز القادم عبر الشوفان ، وبعد ولادة الرواية يعلن صاحبها دخوله حبيساً في الصمت ، فحتى عند خروجه من كوخ يلبس اسماً مستعاراً وكلّ محاولات الصحافين والكتّاب للدخول إلى كهف عزلته رمت سهاماً غير صائبة لاختراق سجن الكاهن أو الإله. ويمكن الخروج برؤية مفادها أن سالينجر لم يكن يمتلك الموهبة فضلاً عن عذابه وتمرده ونزاعه مع الديانات المتعددة فكلّ هذه جعلت منه شخصاً يعتنق العزلة ، فزمنه توقف عند بطله هولدن .