الموهوبون بالفِراسة
خالد رمضان| كاتب مصري
يحكى عن القاضي إياس بن معاوية، وهو ممن عرف بحدة الذكاء، وقوة الملاحظة والفِراسة، حتى شهر بين العرب بذلك، وفيه وفي غيره من مشاهير العرب قال الشاعر أبو تمام في مدح الخليفة المعتصم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
يروى عن القاضي إياس أنه ذهب يوما إلى السوق، وأثناء مروره بين البائعين رأى حانوتا للعطارة، فدخله ورحب به صاحب الحانوت، وأكرمه وأحسن نزله.
فقال له القاضي إياس: إن الجلوس إليكم أيها العطارون فيه متعة ومنفعة.
وبينما هما كذلك إذ مر بهما رجل يجول في السوق.
قال القاضي: أتعرف هذا الرجل؟
قال العطار : لا يا سيدي القاضي
قال القاضي: وأنا أيضا لا أعرفه، لكن اجلس أخبرك بحقيقته، ولمَ جاء إلى السوق؟
أكمل القاضي حديثه قائلا: هذا رجل غريب، وهو من بلدة واصل، وهو معلم صبية، ويبحث عن عبد أسود هرب منه.
قال العطار متعجبا: وما أدراك بكل هذا ؟!
قال القاضي: اذهب وسله.
فهرول العطار إليه، وجلس معه، وبعد حديث طويل تأكد من صدق القاضي فيما ذهب إليه، فاندهش العطار أشد الاندهاش.
كيف للقاضي أن يعرف ذلك كله للوهلة الأولى ؟!
رجع الرجل إلى القاضي مبهوتا حائرا، ثم قال له: بالله عليك أخبرني لقد جن جنوني
أجابه القاضي، فقال: هو غريب؛ لأنه يتطلع يمنة ويسرة، ومن واصل؛ لأن على ثيابه ترابا أحمرا، وتراب واصل أحمر. ومعلم صبية؛ لأنه يسلم على الكبار بفتور، أما الصبية الصغار فيستقبلهم بحفاوة وترحاب وتحنان.
قال العطار: وكيف عرفت أن له عبدا ٱبقا؟!
قال: لاحظته يتفرس وجوه العبيد السود، فعلمت أنه يبحث عن عبد له أسود.
فتبسم العطار، واختار أفضل زجاجة عطر عنده، وأهداها للقاضي، ثم قال: يا ليتني أملك بعض ما تملك أيها القاضي.
فابتسم له القاضي، وقال: ألم أقل لك أيها العطار إن الجلوس إليكم أيها العطارون فيه متعة ومنفعة؟
الفِراسة علم قديم برع فيه العرب وتميزوا عن غيرهم من البشر، حتى إن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه – كان مشهورا عنه أنه رجل نسابة، أي ذو علم بالأنساب، وأيضا أنه أفرس العرب، وكذلك الملهم عمر بن الخطاب الفاروق كان مشهورا بالفِراسة. والفِراسة تعني حسن التوقع، واستشراف المستقبل، والاستدلال بالظاهر على الباطن. وقد برع فيه الإمام الشافعي رحمه الله، فكان من أفرس الناس، وفي ذلك يقول: خرجت إلى اليمن لدراسة الفِراسة حتى درستها فجمعتها وكتبتها. ومن أمثلة ما كُتب في ذلك العلم: أن صغر الرأس يدل على صغر العقل، وأن الرجل ذو العنق القصير الغليظ قوي شجاع يصبر على المكاره، ويتحمل الصعاب، والرجل ذو العنق الطويل ذو جبن وضعف ولين، وأن أصحاب الوجه العريض الدائري أصحاب قلوب طيبة نقية، وغالبا ما يتصفون بالكرم والأمانة والفكر الحصيف، وأيضا غالبا ما يكون صاحب الحاجب المرتفع موصوفا بالذكاء والفنون. ويقولون: إن اللص غالبا جاحظ العينين، كثير التحدق بهما كأنه يخشى الٱخرين، ومن علامات البله والحمق وضعف العقل كثرة التلفت. وللفِراسة صور شتى، ودلائل متنوعة لسنا في معرض تفصيلها.
إن أهم ما نحاول الوصول إليه هو أنه وإن كانت هذه الفِراسة علما له قواعده وأصوله، إلا أنها في الأصل نور من الله يرى به صاحبه ما لا يراه غيره، وفي ذلك يقول تعالى:{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سورة الأنعام: 122]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا فِراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله”
وتختلف الفِراسة عن الذكاء في أن الذكاء قدرات عقلية تفوق المعتاد في فهم المعضلات، وحفظ المعلومات، وحسن تطبيق القواعد والمدروسات. أما الفِراسة فهي الاستدلال بالظواهر على البواطن. ولقد نوه القرآن الكريم لها، فقال تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]
وفي الختام نقول: إن الفِراسة منحة إلهية يقذف الله تعالى بها في قلوب من اصطفاهم من عباده الصالحين، فهي عصارة صفائهم، ونقاء سرائرهم