رحلة إلى ” سلواد ” درة الأجداد (6)
رحلة بقلم وعدسة: زياد جيوسي
من قريتي جيوس في شمال الضفة الغربية كنت اتجه الى رام الله لقضاء عدة ايام وزيارة بيت أخي جهاد واللقاء بالأصدقاء، وفي صبيحة السادس عشر من آب لهذا العام 2020م كنت على موعد لزيارة أخرى لسلواد لاستكمال جولتي الأولى التي كانت في بدايات حزيران والتي نسقتها الشاعرة السلوادية رفعة يونس المقيمة في عمَّان ، ومنذ الصباح كنت استقل الحافلة العمومية باتجاه سلواد مستنشقا الهواء اللطيف الصباحي رغم ارتفاع مفاجئ لدرجات الحرارة، ولكن هذه المرة كانت ورشات عمل في الشوارع، فالبلدية نشطة بمجموعة من المشاريع في شوارع البلدة من أجل خدمة البلدة والمواطن، وقد أرسل لي صديق متابع لما كتبت عن سلواد ملف لخطة طموحة للبلدية بالتعاون مع وزارة الحكم المحلي وصندوق تطوير واقراض البلديات من ثلاثة أعوام 2018-2021 لو نفذت بالكامل ستضيف لسلواد الكثير من الجمال وللمواطن الراحة، حتى وصلت مبنى البلدية والتقيت مضيفي العزيز الأستاذ عبد الرؤوف عياد، وكانت مفاجئة لطيفة حين صعدنا لمكتب رئيس البلدية الأستاذ أسامة حماد حامد لاحتساء القهوة لأفاجأ بتكريمي بدرع جميل وأنيق تقديرا لزيارتي لسلواد والمقالات التي نشرتها عن ذاكرة البلدة وتاريخها، فشكرا لسلواد ممثلة بالبلدية ومجلسها الإداري على المبادرة الجميلة التي نثرت الفرح في روحي بتكريمي من البلدية وأهالي سلواد بدرع قدمه لي السيد رئيس البلدية الاستاذ اسامة حماد حامد بحضور كل من: السيدة هنادي شكري حماد “أم محمد” عضو المجلس البلدي والسيد باسل عبد المجيد حامد والسيد عبد الرؤوف عياد والسيد مؤمن امين حامد.
بعد احتساء القهوة غادرت برفقة مضيفي الأستاذ عبد الرؤوف مبنى البلدية للقاء الأستاذ عبد الرحمن صالح حامد “أبو صالح” لنبدأ الجولة الجديدة في ربوع سلواد، وكانت وجهتنا مشروع “الكرامة” والمقام على أراضي سلواد ولكن الخارجة عن المخطط الهيكلي وبترخيص من وزراة الحكم المحلي واشراف هيئة شؤون الأسرى، وبدأت الفكرة والعمل بالمشروع منذ عام 2014 حين كان الأخ ابو صالح رئيسا لبلدية سلواد بفترتها، حتى وصلنا المنطقة عبر طرق ترابية لم تعبد بعد الى منطقة المشروع والهادف لبناء 120 مبنى على نظام البيوت المستقلة، وهذه البيوت (فلل) مخصصة لعائلات الأسرى ذوي الأحكام العالية بشروط مالية ميسرة ويهدف لتأمين عائلات الأسرى بسكن يليق بهم من ناحية، ومن الناحية الأخرى الحفاظ على أراضي سلواد من أطماع الاستيطان والاحتلال، وعبر مساحات من الجمال الخلاب للطبيعة ومشاهد القرى الأخرى على رؤوس الجبال تحف بسلواد، كنا نصل إلى المشروع بعد ان احتسينا القهوة في مشروع بيت لأبو صالح في موقع خلاب بجماله والطبيعة المحيطة به، وما أن أطللنا على أراضي المشروع حتى كانت طيور الحجل الفلسطيني “الشنار” تدرج على الأرض أمامنا، فتفاءلت بها خيرا وإن شعرت بالألم أن هذا الطائر يتعرض للصيد الجائر والسطو على اعشاشه وسرقة بيوضه حتى يكاد ينقرض من بلادنا، ورغم مضي الأعوام لم أرَ من المشروع منجزا إلا الطرق الترابية وبعض الجدران الاستنادية ومساحات تم تجريفها، ولا أعلم سر عدم البدء بالبناء وإنجاز هذا المشروع الهام.
من هناك كنا نتجه لزيارة بعض عيون المياه أو ما تبقى منها، وفي طريقنا مررنا من منطقة النصابية حيث الصخور الشاهقة وكما اعلمني مضيفيني أن هواة التسلق من الأجانب يأتون مرتين كل عام لتسلق هذه الصخور، فواصلنا طريقنا حتى وصلنا الى عين ماء تسمى العاروض والتي أصبحت شبه جافة وأصبحت مدفونة تحت الطريق ولم أرَ منها الا انبوب ممتد لتجميع سيال المياه القليل بخزان صغير لاستخدامه للسقاية بما يحيط من اراضي بمساحات محدودة، ولا بد من العودة للاشارة أن موقع سلواد على رؤوس الجبال جعلها محاطة بالأودية من ثلاث جهات، حيث وادي الحرامية في شمالها ووادي الحومة ووادي قيس في الشمال الشرقي وفي الشرق ووادي النمر ايضا في شمالها ووادي ابو شريف في غربها، ولهذا كانت هناك ينابيع ماء متعددة في سلواد منها عين العباسة وعين العاروض وعيون الحرامية، فأكملنا طريقنا بعد عين العاروض التي اختفت تقريبا ونزلنا الوادي باتجاه عين العباسة وهي عين ماء مشتركة بين سلواد وبلدة المزرعة، ويتم النزول اليها عبر درجات حجرية، فهي داخل كهف وما زالت بها مياه ولكنها ضعيفة وليس كما كانت بالسابق، ويستفيد منها المزارعون في المنطقة المحيطة من خلال سحب المياه بالأنابيب والمضخات وسقاية المزروعات والأشجار.
سلواد تشتهر بالتين الطيب بأنواعه المختلفة ولذا وجدناها فرصة جميلة لقطاف التين عن شجرتين من نوعين مختلفين، ودوما نقول في بلادنا أن اطيب التين ما نأكله في الصباح مع الندى، ولكننا تناولناه هذه المرة قبل الظهر بشهية فليس أطيب من قطاف التين وأكله مباشرة عن الشجر، وبعد راحة قصيرة مع حبات التين الشهية كنا نعود باتجاه سلواد للصعود إلى تل العاصور من جهة سلواد، وهو جبل مرتفع ويعتبر ثالث احد أعلى أربعة من جبال فلسطين عن سطح البحر ومطل على الساحل الفلسطيني من جهة يافا وعلى غور الأردن شرقا، اعلاها جبل الجرمق 1208م ويليه جبل النبي يونس في حلحول 1030م ومن ثم تل العاصور ويصل ارتفاعة الى 1016م وفي حسابات جديدة يقال انه 1027م ويليه جبل عيبال في نابلس 950م ولكن غلب عليه اسم تل بدلا من جبل، وقد استمد اسمه من كلمتين “بعل حاصور” وتعني قرية البعل وهي من اللغة الآرامية القديمة، وتل العاصور والذي كتبت عنه اغنيات وتم غنائها بالتراث الشعبي ويقع بين عدة قرى وبلدات هي دير جرير وكفر مالك والمزرعة الشرقية وسلواد.
صعدنا الى أعلى نقطة معمورة على تل العاصور فالاحتلال لا يسمح بالبناء على أعلى الجبل إطلاقا، وعلى بعد مسافة كلها من صخور شاهقة توقفنا وساعدنا بالصعود أن سيارة الأخ أبو صالح ذات دفع رباعي ولكن لا إمكانية ابدا للصعود أكثر، فتوقفنا وبدأت بتأمل سلواد من هذه النقطة الشامخة والمرتفعة والتقطت الصور لكل جوانب المشهد المطلق الجمال، وحدثنا ابو صالح الكثير عن معاناة سلواد مع الاحتلال ومعاناته بالمجلس مع الجهات المختلفة وهو يعمل وأعضاء المجلس بكل جهد ممكن من أجل سلواد وزيادة مساحة المخطط الهيكلي للبلدة، ورغم ارتفاع حرارة الجو الا أننا شعرنا بالنسمات المنعشة على هذا الارتفاع الشاهق الذي يمنح العاصور جوا جميلا في الصيف وأمطارا وغيث جميل في الشتاء، وفي الجانب الآخر وهو التلة الشرقية لجبل العاصور انشأ الاحتلال أهم قاعدة عسكرية للاحتلال وفيها محطة للانذار المبكر وهي ثاني قاعدة بعد محطة الانذار المبكر في جبال الجليل في العمق الفلسطيني، وفرض الاحتلال سيطرة كاملة على المنطقة وقمم العاصور وخاصة الشرقية، ومنع بالمطلق اهالي سلواد من استغلال أعلى الجبل وما يواجه القاعدة العسكرية أو يقترب منها، حتى أن مئات الدونمات من الأراضي الزراعية حرمت على أصحابها وجرى مصادرتها فجفت اشجارها وتحول التل إلى مناطق جرداء بعد أن كان مكسوا بالخضرة وأشجار العنب والتين والزيتون.
وأذكر اني قرأت في موقع المركز الفلسطيني للاعلام في عام 2011 تقريرا عن هذه القاعدة، واحتفظت بالموقع الذي يروي حكاية تل العاصور على لسان الحاج محمد حامد من سلواد، والذي تحدث فيه عن قيام سياح المان بزيارة التل واستكشافه في بداية ستينات القرن الماضي قبل احتلال الضفة الغربية، وأن قائد هذه المجموعة السياحية بنى علاقات طيبة مع السكان الذين تعاملوا معه كضيف عليهم، ليفاجئوا بعد هزيمة حزيران انه ضابط استخبارات صهيوني اتى اليهم على مدرعة لجيش الاحتلال، وهذا ما اثارهم جدا أن يتعرضوا لهذه الخديعة فنصب له المقاومون كمينا واعدموه، وكما قال الحاج في التقرير: “نصبوا له كمينًا وقتلوه، وألقوا بجثته على التلة التي كان يريد استكشافها ليمهد للصهاينة احتلالها.ثم نظر الحاج بصرامة واستكمل جملته: هذا المصير الحتمي لمن يخدع شعبنا”.
غادرنا تل العاصور متجهين للبلدة فصلينا الظهر جماعة في مسجد صلاح الدين الأيوبي، ولنتجه بعد الصلاة الى شارع الشهداء ومنه الى نصب الشهداء الذي انجز تكريما لشهداء سلواد بمشاركة من شباب سلواد ومؤسساتها، وهو نصب حجري ورخامي جميل التصميم والفكرة مكون من حجارة بيضاء بالاسفل على ارتفاع 3 درجات، وعلى أعلى الواجهة الحجرية كلمة فلسطين مكتوبة بألواح من الرخام الأبيض الذي يكسو الحجارة، وفي الأعلى خارطة فلسطين من الحجر المكسو بالرخام الأبيض يعلوها شعار حركة فتح وتحتها كلمة سلواد بالخط الأسود، وعند قاعدة النصب لوحة رخامية كبيرة منقوش عليها أسماء شهداء سلواد، وعلى اعلى يمينها ويسارها منحوتتين جميلتين، ولكن هذا النصب الجميل يعاني من الاهمال بكل أسف فالمنحوتة اليمنى قد سقطت ولم يعاد تثبيتها، ولوحة أسماء الشهداء علاها الغبار وضاع اللون الأسود عن اسماء الشهداء ولم يتم اعادة التخطيط ولا يتم تنظيف اللوحة بالماء، إضافة للأرض التي لا تحتاج أكثر من ان يقوم عامل النظافة بتنظيفها ولو مرة بالأسبوع، وخاصة أنه بالأمس فقط تسللت دورية للاحتلال وقاموا بتحطيم جزء من نصب الشهداء بكل حقد دفين تجاه شهدائنا وشعبنا، ويبقى الشهداء أكرم منا جميعا ونصبهم التذكاري يحتاج للاهتمام من الجهة المشرفة على النصب التذكاري حتى ترتاح ارواحهم في جنان الخلد.
من نصب الشهداء كنا نتجه لبيت مضيفي الاستاذ عبد الرؤوف عياد لتناول طعام الغداء حيث الضيافة من وجبة “المنسف” الشهيرة بالكرم السلوادي المعروف، وبعد الغداء استأذن العزيز ابو صالح لانشغال وارتباط، وبعد الغداء والراحة اتجهت برفقة مضيفي وصلينا العصر جماعة في مسجد آخر، لنبدأ جولتنا من جديد في ربوع سلواد وذاكرة المكان والزمان وهذا سيكون مجال حديثي بالحلقة القادمة والأخيرة إن شاء الله عن جولتي في بلدة سلواد لبؤة الجبال.
صباح منعش وجميل في بلدتي جيوس واستعادة ذاكرة زيارتي لسلواد وأنا اجلس لشرفتي في وكني الجيوسي متأملا حبات الليمون والبرتقال والتين على الأشجار أمامي، أحتسي قهوتي مع شدو فيروز: “حقلنا يا رحب يغمرك الخصب، مواسم مواسم يشدو لها القلب، هذه أيادينا تزرع وادينا، جنائن جنائن ملء مغانينا”، فأهمس: صباح الخير يا سلواد، صباح الخير يا وطني، صباحكم من الله أجمل.