يوميات الحرب والموت.. غريب عسقلاني في مجموعته القصصية
الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين
هذه نصوص سردية قصيرة كتبت ـ على ما أعلم ـ في سنوات الانتفاضة الأولى، حين كان للفلسطينيين حلم. فيها تشم رائحة ورد الحلم، وأزهاراً كانت براعمها تتهيأ للتفتح. يومها كان غريب عسقلاني وأمثاله يعزفون الموسيقى، تشجيعاً لهذا التفتح الحالم ودعماً. وكان ذلك يكلفهم غالياً…اليوم أشك أن تصدر في فلسطين نصوص كثيرة بهذه الروعة. ربما تصدر بعض منها، ولكن تكرار ذلك على نطاق لافت ذلك بات أمراً يشبه المستحيل. فالكتابة غناء. والغناء سعادة، أو تهيؤٌ لها. ومن الآن في فلسطين متهيئ للسعادة!.
في لحظات الصعود يقف المعلم ـ الموظف الصغير ـ إلى جانب الأطفال الثوار، لأنه يعلم أن مهمته مساعدتهم على اكتشاف طريق الغد. هكذا يفهم المعلم الفلسطيني رسالته تحت الاحتلال:
“ركلوه بقسوة، عصبوا عينيه، قيدوه وألبسوه كيس الخيش، حز القيد لحم معصميه.. صوت المحقق غاضبا وقد نفد صبره: “من الذي أمركً بإشعال الإطار؟”. رد بثقة الأطفال.
ليس غريباً على كاتب كغريب أن يعيد اليوم كتابة ما كان قد كتبه بالأمس ـ فكل نشر جديد هو إعادة كتابة ـ لكن الغريب أن لا نفهم نحن المتلقين الرسالة. الغريب أن نتساءل لم يكتب اليوم غريب ما كان قد كتبه بالأمس؟. لأن من طبيعة مثل هذا السؤال أن يؤكد على غياب وعي السائل ابتداءً. فلا ريب أن من يسأل مثل هذا السؤال لا يرى واقع غزة وفلسطين اليوم!.
يستنطق نص غريب ماضياً وهو يحاور الحاضر. وكل نص يستدعي ماضياً لا بد له من ذلك، لأن الأديب غير المؤرخ. فإذا كان المؤرخ يسجل حدث الماضي، فإن الأديب يستنطق هذا الحدث ويحاوره ويستخلص منه العبر. يهتم المؤرخ بالحوادث الكبرى والأبطال العظام وأنصاف الآلهة، فيما يركز الأدب على الإنساني في الإنسان. يركز الأدب على ضعف الإنسان المهمش أمام علاقات القوة، ويرصد تلك اللحظات الفارقة التي تشهد انبثاق إرادة المهمشين في تحدي الواقع. التاريخ علاقة واقع. أما الأدب فعلاقة أمل.
وحتى عندما يقص الأديب قصة حب بين فتى وفتاة وسط اللهب، فإن ما يركز عليه شعوره هو إرادة الفتى والفتاة في تحدي علاقات تاريخ القوة. ولعل هذا هو معنى الالتزام في الأدب.
لا يكتفي غريب بكتابة أدب ملتزم ـ فهو يعرف ما يحيط بهذا التعبير من هوامش تفسيرية تقارب به تخوم الأيديولوجيا ـ بل يصر على أن يسبق الشرطُ الجمالي هدفَ المنفعة. انظر إليه وقد رصد الجميل وسط كومة القبح الأسود، في النص التالي:
“حوّمت رصاصة في الهواء.. دارت دورتها.. بكت الشمس وتلونت ضفائرها بلون الدم، وضاعت عين الصغير.. تبخرت رائحة ماء الورد، ورقص الشيطان مزهواً في حافلة الجنود.. وفي مستشفى هداسا سأل الطبيب اليهودي غاضباً: “كيف؟” “الجنود”. قذف معذباً: “اللعنة”. في غرفة العمليات. انتهى الطبيب من حشو كهف العين بالقطن وهمس لمساعده: “السياسة تنظر للأشياء بعيون زجاجية”.
ألا ترى هنا كيف منع الجمال الأيديولوجيا من الصراخ الزاعق؟. لقد كساها بثياب الجمال حتى تستطيع أن تقدم المنفعة. هل لا بد من أيديولوجيا في النص الأدبي؟. أميل إلى القول بالإيجاب، بسبب ما نعرفه جميعاً من أن الشكل هو لباس المضمون.
وإذا كان تيري إيجلتون محقاً في اعتباره أن الأدب نوع من الأيديولوجيا، فإن معنى ذلك هو أنه نوع خاص من الأيديولوجيا الجميلة، أي أنه ينتسب إلى الحقل الجمالي للأيديولوجيا(1).
ليس من السهل أن يحيي نص فلسطيني طبيباً يهودياً، فالمعتاد غير هذا. لكن عظمة الأدب تتبدى ـ في نص غريب ـ عندما تقرر أن كل ما هو جميل يستحق المديح، بغض النظر عن هويته. ألا يذكرنا هذا بصلاح الدين الذي كان يرسل طبيبه الخاص ليعالج ريتشارد قلب الأسد وهو في عز معاركه معه؟.
إن صلاح الدين كان معجباً ببطولة ريتشارد قلب الأسد، ويفصل بين جمال بطولة عدوه وقبح عدوانه: إنه يحيي الجميل ويهجو القبيح. أليس هذا هو جوهر الفن؟. وإلا فماذا كان يمكن للأيديولوجيا الخطابية أن تقول في حادثة كحادثة النص الذي كتبه غريب. طفل فلسطيني تقتلع رصاصة جنود الاحتلال عينه، وينتهي به المطاف في مستشفى إسرائيلي!.
لقد كان من السهل قذف كل اليهود في سلة واحدة، باعتبارهم أعداء. وهكذا نحكم بأننا الخير المطلق، وأن عدونا هو الشر المطلق!. لقد قلنا إن التاريخ لم يتعامل مع العدو وفق هذه الطريقة، فحتى التاريخ لم يعط للأيديولوجيا حق الحكم على الجميل، وقد رأينا مثال ذلك في صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.
وإذا كان التاريخ لم يفعل هذا، فكيف للفن أن يفعله؟. كيف للفن أن يتعامل مع النفس البشرية وفق هذه الصورة الاختزالية البسيطة؟. اللهم إن الفن الحقيقي لم يفعل هذا طوال تاريخه. ونحن نعلم كم أضفى هوميروس من البطولة على (هكتور) بطل طروادة، وكم أسبغ عليه من صفات النبل. لقد فعل به ذلك حتى وهو يقرر أنه عدو شعبه وأمته وبطله الأعظم (أخيل). وقل مثل ذلك في شعر الفروسية العربية: (ليس الكريم على القنا بمحرم ـ نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا ـ كانوا على الموت أصبرا… إلخ).
لا يمكن أن يتبدى جمال البطولة إلا في مواجهة التحدي الحقيقي، واستفزاز كل الطاقات الإنسانية. ما قيمة أن يهزم الفلسطينيون عدوا دنيئاً ضعيفاً شديد الخور متوحشاً؟. وإذا كان هذا حكم الطبيعة؛ فأين حكم الإنسانية، وأين حكم الثقافة، في حرب تدور ـ أول ما تدور ـ على الوعي؟. إن حكم الإنسانية هو نفسه حكم النبل، وهذا هو ما جعل من (دون كيشوت) رواية رائعة، رغم أنها لا تتحدث عن الأبطال.
يريد غريب أن يقول: قد نضطر لمقاتلة العدو بالدم والكف والألم والصبر، وقد نستطيع هزيمته بالإرادة. لكننا سنفقد إنسانيتنا إذا لم ننحنِ باحترام أمام ضعف الطفل وجمال المرأة ورقة الوردة، حتى لو كانت في حديقة العدو. الطبيب اليهودي غاضب من فعل الجنود المتوحشين وهم أبناء جلدته!. ألا يعلمنا هذا شيئاً؟. ألا يعلمنا هذا أن الجمال قيمة عظمى قائمة بذاتها ومتسامية على المنفعة!. هذا ما يريد أن يقرره الفن، ومعه في ذلك الأدب الملتزم، الأدب الحقيقي، لا الأدب الذي يعتاش على شعار السياسة الزاعقة. فلنتأمل في هذه اللوحة الجميلة محاولين كشف ماهية الجمال فيها:
“احتلوا حوش الدار.. كانت الأم الصبية ترضع صغيراً حديث الولادة، ويدور من حولهما طفل في الرابعة يعالج بندقية خشبية.. يصوبها نحو هدف يعرفه. أُخذت الشابة تستر صدرها عن الغرباء، لكن بندقية دفعتها.. صُوبت إلى رضيعها، فتسمرت على الحائط:
ـ أين حازم؟
ـ حازم من؟
ـ الذي أعطى حسام الكبريت.
تكومت تخبيء الطفل وبندقيته الخشبية، وصرخ الرضيع يبحث عن ثدي أمه، تنمرت في وجه الجنود:
ـ لا تفزعوا الأطفال.
اختزل حازم جسده في عب أمه، يحتضن بندقيته ويضغط على زنادها، لم تطلق النار كالعادة، فاغتاظ من بنادقهم المغروسة في صدر أمه، وقبض على بندقيته بيد وامسك باليد الأخرى قدم أخيه الرضيع، وأخذ يختلس النظر من تحت إبط أمه، فرأى حساماً يمسح أنفه بكم قميصه ولا يبكي..”.
ها هنا مشهد يقتحم فيه جنود متوحشون بيتاً في مخيم فلسطيني، بحثاً عن طفل أغرى آخر بإشعال النار، في إحدى فعاليات الانتفاضة الأولى. الطفل ذو الأعوام الستة (حسام)، المقبوض عليه، والطفل المحرِض المزعوم ذو الأعوام الأربعة (حازم)، يحمل بندقية خشبية، ويلجأ إلى حضن أمه من الجنود. والأم تصرخ في الجنود، فيما يستكشف حازم رد فعل حسام، فلا يجده يبكي!.
ها هو الأمل يغني. فلنتأمل الجمال في العلاقات الآتية:
1ـ جمال المرأة المعطاء رمز الأرض، في مواجهة العقم الطارئ: (الأم ترضع صغيرها × البنادق الفتاكة).
2ـ جمال الطفولة البريئة، في مواجهة القوة الغاشمة: (الطفل × الجنود).
3ـ جمال الطبيعة البكر، في مواجهة عدوان الحديد: (الأم أو الأصل × الطارئ أو الاقتحام).
4ـ جمال الضعف الإنساني، في مواجهة وحشية التكنولوجيا: (البندقية الخشبية × البنادق المغروسة في صدر الأم).
5ـ جمال اطمئنان الحقيقة، في مواجهة توتر العدوان: (ثبات الأم وحسام الذي لا يبكي × اقتحام الجنود).
6ـ ثم جمال هذه العلاقات البنيوية بين الكلمات، جمال الكلمة بين الكلمات، والفقرة بين الفقرات، وانتظام الموسيقى الداخلية في داخل جسد النص وهو يقول: (فاغتاظ من بنادقهم المغروسة في صدر أمه، وقبض على بندقيته بيد، وامسك باليد الأخرى قدم أخيه الرضيع، وأخذ يختلس النظر من تحت إبط أمه، فرأى حساماً يمسح أنفه بكم قميصه ولا يبكي..).
إن علاقات الكلمات ليست هي التي تقول هنا فحسب، بل كذلك كثافة التعبير. هكذا ينتقل النص من تقنية الصور المتتابعة إلى أحاسيس الكلمات، وتدافع المعاني.
وإن أردت المزيد فتأمل قوله:
“كانت الأم الصبية ترضع صغيراً حديث الولادة، ويدور من حولهما طفل في الرابعة يعالج بندقية خشبية.. يصوبها نحو هدف يعرفه. أُخذت الشابة تستر صدرها عن الغرباء، لكن بندقية دفعتها”.
فهل ترى حدثاً فقط، أم حدثاً تتناوشه أحاسيس فتعطيه لوناً لا تراه إلا الرغبات؟. ومن منا لا يتسلل بصره في هذه اللحظة الموحشة إلى صدر الفتاة الشابة، وسط كل هذا الهول؟. ألا نرى كيف يتلألأ الجمال رغم القبح؟.
إن قراءة الأدب من خلال المعنى القريب مصيبة كبرى، ابتلي بها كل من النقد والأدب. إن أهم ما يلتفت إليه الأدب الحقيقي هو الإحساس والعاطفة.
فاقرأوا معي غريب عسقلاني بأحاسيسكم، قبل كل شيء.
الإحالات:
يوميات الحرب والموت (مجموعة قصصية). ط1. سندباد للنشر والإعلام. القاهرة. 2010
1ـ انظر: تيري إيجلتون. النقد والأيديولوجيا. ترجمة فخري صالح. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2005 ص37