الطنطورية.. رضوى عاشور وسرد التاريخ
د. خضر محجز | غزة – فلسطين
التاريخ هو سرد الحداث، أما الرواية التاريخية فرؤيةُ الشخصيات للأحداث.
إن روايةً لُحمتها وسداها سردُ أحداث التاريخ، لن تعود مدهشة إلا لمن لم يعرفوا الأحداث من قبل، أما الرواية ــ من حيث هي فن أدبي ــ فهي تثير دهشة متجددة، حتى لمن يعرفون تفاصيل الأحداث.
في الرواية نحن نتأمل كيف حدث هذا في النص، كيف تم عرض هذا علينا في النص، كيف كانت الشخوص ناطقة نابضة بالحياة. ففي رواية تتكلم عن حصار بيروت مثلاً، نحن نرى مقاتلا شاباً ينزوي في ركن من البناية، ليطلق النار فيما هو متردد خائف، أو حاقد مشتعل، أو عاشق يتلهف لقضاء المهمة للعودة إلى الفتاة، أو مأجور متبرم ينتظر تلقي المال، أو فيلسوف يتأمل في مشاعر الطرف الآخر… إلخ
انظروا إلى السينما الأمريكية، إنها تعرض عليكم حرب العراق، بطريقة تجعلكم تتعاطفون مع الجندي الغازي. فهل كان ذلك لأنكم متعاطفون مع غزو وطنكم؟ كلا، بل لأن طريقة العرض أقنعتكم بأنكم ترون إنساناً ــ بمشاعره وعواطفه وقوته وضعفه وخباياه ــ هو من يفعل ذلك. إنكم تعجبون بالعرض لا بالحدث. أما في كتابة تاريخ حرب بيروت، أو حرب العراق، فلن تجدوا مكاناً لمثل هذه المشاعر.
وبالمقابل فإننا حين نقرأ ــ في رواية الحرب والسلام ـ غزو نابليون لروسيا، فنحن لا نتوقع من تولستوي تتبع مسيرة الجيش، لأننا نستطيع معرفة ذلك من التاريخ، بل نلهث مبهورين وراء عرض تولستوي المعجز لعظمة الشخصية الروسية، في بدايات تبلور الهوية الوطنية الروسية الحديثة، وكيفية صعود القيصر إسكندر بالروح الروسية نحو العلى. نتأمل كل ذلك، فنستذكر كيف تعلم ستالين العظيم فيما بعد، من القيصر العظيم، مكر الجغرافيا، إذ ترك جيوش ألمانيا تتوغل في الثلج، كما حدث لجيوش نابليون، قبيل الانقضاض عليها. ولئن لم يستطع هتلر أن يتعلم من درس نابليون، فلقد نجح فعلاً في أن يكون عسكرياً فاشلاً، بمقدار ما نجح خصمه ستالين في أن يكون عسكرياً فذاً. نحن هنا نتأمل درسين معاً: درس التاريخ، ودرس الفن.
وحين نتأمل في فيلم ناصر 56 في أداء أحمد زكي، فإننا لا نبحث عن حياة الزعيم، بل نتأمل كيف أبدع أحمد زكي في تشخيص الزعيم… وهكذا
كلنا يعرف كيف سقطت غرناطة، لكننا لانعرف مشاعر حسن الوزان، إلا من خلال عرض أمين معلوف لها في (ليون الأفريقي).
ماذا يتأتى لنا من كل ما سبق؟ أن الفن هو طريقة العرض، وبوح الشخصيات، وضعف الإنسان، وقوته، ووحشيته، وتساميه، وحبه، وحقده، وعطفه، وشذوذه، وجبنه، وشجاعته، وحماقته، وبخله… كل ذلك في قالب ممتع قادر على إقناعنا بأن هذا ممكن الحدوث، لأنه يشبه الحياة.
لا مكان في الرواية لبوح مبتور، ولا لفتى يظهر عاشقاً أسطورياً في مفتتح الحكاية ثم لا يعود، ولا يفعل أثره في الشخصية.. لا مكان في الرواية لامرأة تتكلم عن الحب، ثم تقابل حبيبها في مصعد فيقبلها، ثم تواصل سرد الأحداث كأن شيئا عابرا هو ما حدث، دون أن يؤثر ذلك على حياتها الزوجية، متناسية أننا نراقب وننتظر، ونكتشف بأنها إذ لم تجرؤ على مواصلة السرد، فقد هربت إلى التاريخ.
نحن نعرف التاريخ يا سيدتي، لكننا لا نعرف ما حدث بين الطنطورية وعبد بعد قبلة المصعد. فلم انقطعت عن الكلام؟ ثم كيف حدث أن خرج يحي من عين غزال على الساردة، في السطور الأولى للرواية (طرح بحر)، ثم تحول إلى خاطب من لحم ودم، توحي السطور بأنه معشوق، ثم غاب دون أن يعود إلى نهاية الرواية؟
لقد كان من أسوأ ما وقع فيه عبد الرحمن منيف، أن أنشأ بطله (متعب الهذال) في (مدن الملح)، ثم غيبه دون إبداء تمهيد ولا أسباب. ولقد كانت تلك واحدة من أكبر سقطات الروائي الكبير.
آسف جدا، فأنا أحب رضوى عاشور وزوجها وابنها، وأعلم أن باستطاعتها أن تكتب أفضل من هذا، بنفس درجة معرفتي بأنها فلسطينية أكثر مني. ولكنني لم أقتنع بالطنطورية.