وحشة العالم زمن الكورونا
رحاب يوسف | طولكرم – فلسطين
شَغَلَني ما شَغَلَ الناسَ من الحديث عن وباءِ فيروس “كوفيد 19” الذي تَجاوَز الآفاقَ، وعَبَرَ القارّات، وأغلَقَ المُدُن، وعَطَّلَ العَمَلَ والمصانِعَ، أرعَبَ العالَمَ وأقعَدَهُ، وضَرَبَ مَصالِحَهُ، فيروس “كوفيد 19” اجتاحَ العالَمَ، وسَرى فيه سَرَيان النار في الهَشيم، لا فرقَ بين شَرقِيٍّ وغَربيٍّ، بين أسوَدَ وأبيَضَ، بين فَقيرٍ وغَنيٍّ، ليتساوى الغفيرُ والوزيرُ والاميرُ، الفيروسُ قالَ كَلِمَتَهُ بحظر التجوال، وتكميمِ أفواهِ العالَمِ بأسرِه في وقتٍ واحدٍ.
البدايةُ كانت في ووهان، فقد دقَّ الفيروس أبوابَها في (23 يناير 2020) – كما تَداوَلَت وَسائِلُ الإعلام – وراحَ ضَحِيَّتهُ أكثَر من خَمسة ملايين شَخصٍ في أنحاء العالم، ونال من الكثيرين، مِن الناسِ مَن استعادَ عافِيَتَهُ، ومنهم من لَفَظَ أنفاسَهُ، يأتي ذلك والعالَمُ كُلُّهُ رهينَةٌ لديه، والبحثُ عن تِرياقٍ له ما زال مُستَمِرَّاً في كُلِّ مُختَبَرات العالَم.
كان اليقينُ يملأُ قلبي، لا أشعُرُ بما يَشعُرُ به الناس، قلت: هي الجائِحَةُ السانِحَةُ التي مَنَحَتني فُرصَةَ التأمُّلِ، والتَّفَكُّرِ، ومُحاسَبَةِ النَّفسِ، ومُراجَعَتِها، وفجأةً أصابتني شظايا الخَوفِ والقَلَقِ، عندما رأيتُ شُعوباً تَحرِقُ مَوتاهم بسبب الوباءِ، دونَ احترامٍ لهم! والناسُ تَتَهافَتُ على الأسواقِ لتَخبِئَةِ غِذائِهِم، والأرضُ مُضطَرِبَةٌ، والكونُ غيرُ الكَون، وكأنَّ الحَياةَ استُلَّتْ منه، تَذَكَّرتُ أنَّ لي رَبّاً قريباً، رَحيماً، مُجيباً يقول: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ” النمل (62)، فأخَذَ لِساني يَلهَجُ بالدعاءِ في الخَلَواتِ، والأسحارِ، والسُّجودِ.
تَذَكَّرتُ أقواماً سَبَقَتنا، وتَعَجَّبتُ كيفَ أنزَلَ اللهُ بها عِقابَهُ، قال تعالى: “وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ* وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ* وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ” النجم (50 – 53)
أصبحَ صوتُ الحَشَرات والخَفافيش، والسُّكونُ المُخيفُ يَملأُ الكَونَ، لا أسواقَ، لا مَدارِسَ، لا جامِعاتٍ، لا زياراتٍ، لا مَساجِدَ، وكلَّما قال المُؤذِّنُ: “الصلاةُ في بُيوتِكُم” تَقَطَّعت نياطُ قلبي، كانت نِعَمُ اللهِ عَلينا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ونحنُ لا حَمداً ولا شُكوراً، حتّى جاءَ المُرَبِّي غيرُ المَرئيِّ “فيروس كورونا”، جَعَلَنا نَتَمَنَّى ما كان بين أيدينا مِن نِعَمٍ.
أزمَةُ كورونا أكبَرُ أزمَةٍ مَرَّ بها العالَم بعد الحَرب العالميّةِ الثانية، وفي الأزَماتِ، والشدائِدِ، والابتلاءات، يَخرُجُ أسوأُ أو أفضَلُ ما في الإنسان، فكلّما اشتَدَّتْ خَرَجَ ما في الأعماق، فيروس “كوفيد 19” امتحانٌ سَقَطَ فيه مَنْ سَقَطَ، ونَجَحَ مَن نَجَحَ، وعند الامتحان يُكرَمُ المَرءُ أو يُهان، لقد انكَشَفَ جَشَعُ بعض التُّجَّار المصابين بفيروس الاستغلال، فظَهَرَتْ أوَّلُ أعراضِهِ لديهم، وهي حُمَّى جَمعِ المال – ولو على حِسابِ قُوتِ الفُقَراء والضُّعَفاء – وظَهَرَ مَعَهم فِئَةٌ من الناس دَيدَنُها التَّسَوُّلِ على مَواقِعِ التواصُلِ الاجتماعيِّ يُوَلوِلون، ويُزاحِمون أقواتَ المُحتاجين، وما يأتيهم مِن طُرودٍ غِذائيَّةٍ، أتَذَكَّرُ في الانتفاضَةِ الأولى – كُنتُ صَغيرَةً – عندما جاءت مجموعَةٌ من الشبَّان يَدقُّون بَيتَنا ليلاً، نَزَلَ أبي وأخي من غُرفَةٍ عُلويَّةٍ، وإذ بهؤلاء الشَّباب يُعطونَ أبي طرداً غذائيّاً – كباقي أهلِ القريَة – فما كان من أبي إلا رَفَضَ الطردَ، مُبَرِّراً ذلك أنَّنا غير محتاجين ، وأن هنالك مَن يَحتاجُهُ أكثَرَ مِنّا.
لقد انكَشَفَتْ عَوراتُ دُوَلٍ عِملاقَةٍ، وكأنَّها مِن وَرَقٍ، مَعَ أنَّها تَتَصَدَّرُ العالَم تَحَضُّراً، ودَخلاً، واقتِصاداً، فالكُلُّ يَقول: “نَفسيَ نَفسيَ” إلاّ مَن رَحِمَ رَبِّي، فمَعَ تَفَشِّي الوَباءِ، وعَشَراتِ الآلاف من الضحايا، كان النصيبُ الأكبَرُ منها للدُّوَلِ العُظمى، وتَشَقَّقَتْ ثِقَةُ الشُّعوبِ بحُكَّامِها، خاصَّةً معَ استنجادِ إيطاليا بالاتِّحادِ الأوروبِّي الذي لمْ يَلقَ إلا اعتذاراً من المُفَوَّضِيَّةِ الأُمَمِيَّةِ، في الوقت الذي هَبَّتْ فيه الصينُ، وكُوبا، وتُركيّا لمُساعَدَتِهِ، غابت واجباتُ الشراكَةِ والتضامُنِ، فأصبح الاتِّحادُ غَيرُ مُتَّحِدٍ، فالشُّقوقُ أصابَتهُ بالكامل، وأصبَحَت المُدُنُ مَهجورَةً مُوحِشَةً، كُلٌّ يُواجِهُ العاصِفَةَ على حدة، أَغلَقَت الدُّوَلُ الأوروبيّةُ حُدودَها؛ لمَنع تَصدير الأجهِزَةِ إلى دُوَلِ جَنوب أوروبّا، فأعاد الوَباءُ رسمَ الحُدودِ الوطنيَّةِ الى شَمالٍ وجَنوبٍ.
أخَذَت “واشنطُن” تَستَنجِدُ أطبَّاءَ الأرضِ؛ لأنَّها تَأخَّرَتْ في تدابير الوِقايَةِ، والمَصائِبُ لا تأتي فُرادى، فانتَشَرَت الإصاباتُ فيها انتشارَ النارِ في الهَشيم، لقد كان قِطارُ كورونا في الولايات المُتَّحِدَةِ يَسيرُ بسُرعَةٍ فائِقَةٍ، ولم تَستَطِع الحُكومَةُ تَهدِئَةِ سُرعَتِه في الأسابيع الأولى؛ بسبب عَدَم جاهِزيَّتِها، فأصبَحَت البَلَدَ المَنكوبَ، وارتَفَعَ سُلَّمُ الضحايا فيها إلى أعلاه، ووصَلَ النِّفطُ أدنى مُستَوياتِه، وطوابيرُ الناس أمام بُنوكِ توزيع الطعامِ لا آخِرَ لها.
الحقيقةُ الوحيدةُ أنَّ بَعض الدُّوَلِ في أزمَةِ كورونا كان عندها نَقصٌ في الأجهِزَةِ، والكماماتِ، والأخلاق أيضاً، حيث دعا الرئيسُ “ترامب” أن يَترُكَ الأبناءُ آباءَهم يَموتون في رَبيع العمر بجُحودٍ أُسَرِيٍّ ووَطَنيٍّ عن طريق عَدَم إعطاء أولويَّةِ العلاج للمُسِنِّين، لكن هنا أتساءل: هل ترامب – وهو في عَقدِه الثامن – يَضَعُ نَفسَهُ مع المُسِنِّينَ الذين لا يَجِبُ التَّشَدُّد في علاجهم؟ قد يَتَوَحَّشُ النِّظامُ العالَمِيُّ لكنَّ الناسَ بالفِطرَةِ طَيِّبون , في المقابل التشيلي (أكونا) كان يَعزِفُ أمامَ نافِذَةِ والِدَيه كُلَّ يَومٍ؛ ليَتَغَلَّبا على الحَجر الصحِّي، لقد تَحَوَّلَت الولاياتُ العُظمى إلى قَراصِنَةٍ تَسطو على بعضها؛ بسبب نَقص الكمامات، فباتت الكمامةُ – كالسلاح الحَربيِّ – تَخضَعُ لصَفَقاتٍ، ومُقايَضاتٍ، وقَرصَنَةٍ، فقد استَولَتِ “التشيكُ” على شُحنَةِ كماماتٍ قدَّمتها الصينُ الى إيطاليا، كما اتَّهَمَتْ ألمانيا الولايات المتحدة بالاستيلاءِ على مائتي ألف كمامة طِبيَّةٍ في مطار بانكوك، وباتت الصَّفَقاتُ خاضِعَةً لمَنْ يَملِكُ مالاً نَقديَّاً للشراء، حيثُ اشترى الأمريكيون شُحنَةً من الكمامات، كانت قد طَلَبَتها السلطاتُ الفَرَنسيَّةُ من الصين، بعدما ضاعَفوا ثَمَنَها لمصلَحَة الجِهَةِ المُصَنِّعَة، ودَفَعوا الثمَنَ نَقداً، وحَدَثَت الصفقَةُ المُقَرصَنَةُ في مَدرج مَطارٍ صِينيٍّ قبل أن تُقلِعَ الطائرةُ إلى فرنسا.
كما بدأت الفناناتُ بإظهارِ حِقدِهِنَّ الدَّفينِ، فمِنهُنَّ مَن دَعَت إلى إجراء التَّجارُب على السُّجَناءِ لاستخراج اللّقاحِ، وأخرى دَعَت إلى طَرد الوافِدين في الصحراء، وأخرى تُخبِرُ الشرطَةَ في مصر عن مُمَرِّضَةٍ؛ لأنها تشكو تقصيرَ الحُكومَةِ في توفير ما يَلزَمُ من مُستَلزَماتٍ للعلاج، أما حاكِمُ الهند يقول: “كُلَّما كان عَدَدُ المُسلِمين واسعاً كان الخَطَرُ أكبر”!
المنطقةُ العَرَبِيَّةُ ليست ببعيدةٍ عن الفيروس، لقد انتشرَ فيها بفارِقِ ساعاتٍ، واكتُشِفَت حالاتُ إصابَةٍ في مُختَلَف البلاد العَربِيَّةِ حيث صَنَّف مُؤَشِّرُ الصِحَّةِ العالمي استعدادَها لمُواجَهَة الفيروس بين المُتَوَسِّطِ والضعيفِ، وفي المُجمَلِ ليسَ هُناك دَولَةٌ في العالم مُستَعِدَّة لاحتواء كورونا، لكنَّ الرِّهان كان على وَعي الشُّعوبِ، معَ قِلَّةِ الإمكانيّاتِ، والمَعارِفِ المُتَبايِنَةِ من دولةٍ إلى أُخرى، واتِّباع استراتيجيَّةِ حَظر التَّجوال، الذي يَشمَلُ جَميع القِطاعات، والذي كان بمثابَةِ طَوقِ نَجاةٍ للحَدِّ من خَطَر الإصابَةِ بالفيروس، وكَسرِ سَلاسِلِ الإصابات، فبَدَأت الحُكوماتُ بأخذ الاحتياطات، والحِيطَةِ، والتوعِيَةِ من أجل تطويقِه.
على الضِّفَّةِ الأخرى لهذا الوباءِ كان – في الصفوفِ الأولى – جيشٌ يُدافِعُ بشَراسَةِ ، ، يُقاتِلُ بصَمتٍ، سِلاحُهُ الإنسانيَّةُ، والرحمة ، إنهم الأطباء ، عَمِلوا بأقصى طاقاتهم ؛لإسعاف المَرضى في ظِلِّ نَقص الأجهِزَةِ، والمَعَدَّات الطبِّيةِ، منهم مَن اضطرَّ لاستخدام أكياس النِّفايات للوقاية، ووِفقَ مُنَظَّمَةِ الصحَّةِ العالميَّة فإن (10%) من أفراد الطواقم الطِبِّيَّة أُصيبوا بعَدوى كورونا، وتُوُفِّيَ العديدُ منهم في مُختَلَفِ أنحاء العالم، إنَّه واقِعٌ راكَمَ عَليهم ضُغوطاً نَفسِيَّةً، وعَصَبِيَّةً، قد لا تَندَمِلُ سريعاً، بعدما شَهِدوا مَوت الآلاف بين أيديهم، لقد كَشَفَت دِراسَةٌ بريطانيّةٌ أنَّ نصفَ العاملين في المجال الصحيِّ يُعانون أمراضاً عَقلِيَّةً، مثل: الإجهادِ، والإرهاقِ، والقَلَقِ، والصَّدمَةِ بسبب الأزمَة.
لقد صَفَّقَ العالَمُ بأسرِهِ للطواقِم الصحِّيَّةِ والطبِّيَّةِ؛ على ما بَذَلوه، ففي الوقت الذي يُنصَحُ بإبقاء مَسافَةِ مِترَين عن المصاب، تراهُم يَقِفون على مسافة صِفر! إنَّهُم جُنودٌ لا مثيلَ لهم، أبطالُ مَعرَكَةٍ مَفتوحَةٍ، عَدُوُّهُم فيها غيرُ مَرئِيٍّ.
ويبقى السرُّ وراءَ هذا الوباءِ مخفيَّاً، لا يَعلَمُهُ إلا الله سبحانه وتعالى!