مركزة الهامش وتحولات البطولة .. مشكلة؟ نعم، مشكلة حقيقية
نداء يونس | رام الله – فلسطين
نتحدث هنا عن بطولة الاصفار والهامش، الواقع الفائق، تحولات البطولة وانزياحات السلطة عن مركزها المتعالي ومركزة الهامش، والاستهلاك كدين جديد، يبدو جليا أننا نعيش عصر الاستعراض وهو بشكل او بآخر نهاية للتاريخ ذاته، وهذه مشكلة حقيقية، إذ أننا نعيش عصر hyper reality، الواقع المفرط، أو الحقائق التي تولدها منصات التواصل كحالات اتصال نفاعلي في جزئها السطحي لكنها أكثر عمقا من ذلك وبؤسا، إنها سمة لمجتمع الاستهلاك.
إننا نستهلك كل شيء: القصص والأخبار والأشخاص والصور والفضائح والرموز وغعادة انتاجها بتوتر عال لا يستقر، هذا الاستهلاك الذي يغديه الانتقال بين القصص وجديدها وبسرعة عالية أصبحت من متطلبات هذا الواقع وسمته،،، إلخ، وبطريقة تفاعلية مؤدرمة تحمل قدرا عاليا من الاستهلاك وإنتاج الاستهلاك، ومركزة الهامش دون دفع الثمن.
أما المشكلة الأخرى فهي فكرة البطولة الرخيصة أو الصفرية أو الفارغة وتحولاتها، الهامش يبحث عن البطولة وأدوارها، سواء في قصص نستهلكها بشكل رخيص حول نجاحات الاخرين بقضايا يومية أو هلامية لا شكل للبطولة فيها ولا ينطبق عليها تعريف البطولة كما في البطولات الإغريقية أو الاسطورية أو حتى التي لا نظير لها، وحيث يتم تبئير قصص تقع ضمن المكرر واليومي والواجب، واستعراض صور مع شخصيات حققت نجاحا وادعاء القرب منها أو ادعاء المعرفة، وفي هذا الإطار تأتي حالات التكريم ودروع التميز لا على شيء بل على اللاشيء، فلا من يمنح بطل بل يدعي دور البطولة ولا المتحصل على التكريم بطل لانه اشتعال حاجة لحاجة، واحتياج طبيعي للاستعراض وشكل اخر للهروب من استحقاق الانجاز ومن المسؤولية، ويقع في اطاره ايضا ما يتعلق بالدين، حيث يقوم بعض الاشخاص الذين لا وزن لهم في الواقع بتنصيب انفسهم حكما على تصرفات الآخرين وسلوكهم وليس في القضايا الجوهرية ايضا: فلا نجد من يشن حملة تنمر ضد من لا يصلي أو من يحرم شقيقته من الميراث أو حتى من يقتل أو من لا يؤدي زكاة مثلا، بل تتجه معظم محاولات استعراض البطولة إلى التهجم على النساء، مثلا من تعمل في مهنة تصنف بمقاييس البعض على أنها للرجال أو من تخلع الحجاب، وهذه تحديدا فرصة لكي يلعب الفاسق والزاني والجاهلة ومن لا إنجاز له إلا أنه يستهلك أوكسجينا إضافيا من هذا الكوكب دور البطولة في الورع والتقوى وإثبات الانتماء إلى الجيش الديني، الذي تحول إلى تمظهر واستعراض شكلي.
الكل يريد أن يكون بطلا، أن يكون بطلا ولو من خلال تعليق، بطلا شكليا على قصة شكلية، الكل حتى لو كان إنجازه الحقيقي في الحياة أنه يتنفس، إذ يمكنه في عصر الواقع الفائق أن يلعب دور البطولة المطلقة من خلال التسمية وتصنيف الآخرين واغتيالهم وهذا ما يوضح كيف أنه لم يكن للسلطة مركزيات عبر التاريخ، وأنها تنتقل عبر تكتلات تحملها وتدافع عنها وتحارب بها وتلعب أدوار البطولة المطلقة لترسيخها، وهذه قصة أخرى.
بالمقابل، تبقى قصص البطولة الحقيقية تلك التي تستوجب الفعل مثل سرديات بطولات “بعض” الأسرى في سجون الاحتلال ضمن إطار التجاهل، لأن نشرها يستوجب تأنيب الضمير أولا وهذا القلق لا مكان له في هذا العصر كما أنه يستوجب التوقف والمساءلة اللذان لا مكان لهما هنا، وبينما تنتظر البائسين والمستعرضين جولات بطولة أخرى يساقون إلى التفاعل معها دون وعي أو يصنعونها مع كامل الإصرار على التضييع والتمييع للرموز والمفاهيم والمعرفة.
كل بطولة مذهلة وأسطورية لا مثيل لها فرصة حقيقة للمساءلة عما تم فعله واستحقاقاتها وتشكل معضلة أخلاقية لمحبي الاستعراض دون دفع الثمن، لذلك يتم الدفع بها كي تبقى طي التجاهل مثل قصص بطولات الأسرى داخل سجون الاحتلال أو المدافعون لرفض شكلانية الدين وينطبق الأمر على علماء ومفكرين.
المساءلة بالضرورة تعني بالطبع سقوط مقولة الاستعراض التي أصبحت ترسيما مجانيا لا يمكن للفاشلين الاستغناء عنه وسيرفض مروجو البطولات المزيفة أي محاولات حتى للحديث عنه بل وسيحاربون لاستمراره. الاستعراض بالضرورة أصبح ما يمنح الهامش قيمة لن يتنازل عنها بسهولة.
فالبطولات المجانية شكل حقيقي من أشكال الهروب من الواقع والمسؤولية وانتشاء باللاشيء. وهي حالة عامة يميزها أن الإنجاز الحقيقي لمن يلعبون أدوار البطولة صفر كما هي الحال بالنسبة لما تتم نمذجته من أصحاب البطولات أي لمن يتم تقديمهم كابطال، كما أن هذه الصناعة أيضا نوع من أنواع الضبط السلوكي القهري للجماهير، فكل من لا يلتزم بهذا سيتم إقصاؤه والنيل منه.
يذكرني هذا العصر بالإسكندرية في عصر هيباتيا العظيمة العالمة والمعلمة تحديدا، والرعاع الذين لعبوا أبشع دور لبطولة الأصفار، هؤلاء الذين انتشوا بفكرة أنهم القيِّم على تنفيذ السلطة والقادرون الذين فجأة صار لهم كلمة، هؤلاء الهامش الجاهل الذين قاموا بسحلها على شوارع الإسكندرية المدببة الحجارة وحرقوا ما بقي من عظامها، وكما يفعل ناشطو مواقع الاستعراض الاجتماعي الآن.
هكذا، يعود قتلة الآخرين، إلى بيوتهم أبطالا منتشين: لقد تمكنوا من قتل أنموذج حقيقي للوعي والبطولة أو صنعوا أنموذجا للزيف وبطولة الاصفار، وأصبحوا هم بهذه القدرة على تعظيم الهامش وبهذه الكثافة والإجرام الجسدي والمعنوي سلطة جديدة إما أن تنضم إليها أو أن يتم سحلك افتراضيا، بهذا الواقع الفائق، يتم إعادة تعريف الهامش كسلطة تقوم بكل جرائمها دون دفع الثمن، ولننظر إلى مؤسسات تتكلم باسم الشعب، مثل المجالس التشريعية في كل مكان، والتي يتم دفع ذات الهامش إليها: التجار، العشائر المنتجة لذات الهيمنة الاجتماعية والأحزاب التي تصل باسم الدين، ومحبو النوم، إلخ عن طريق لعبة ديموقراطية لن تنتج بالمحصلة سوى سيادة للهامش على الأصوات الحقيقية الفاعلة.
بالمحصلة العدد لا الوعي هو الذي سيقرر، لهذا أيضا لا أمل بأي تغيير حتى بوصول فئة واعية أو فئات مهمشة.
وبالمحصلة أيضا، سيبقى لعب دور البطولة أهم من البطولة نفسها، وكل اعتراض ستبتلعه دوامة الصمت ذاتها.