أويتُ إلى رَبْوة.. قصة قصيرة
بقلم: نهى الطرانيسي | قاصة مصرية
أحجار غليظة حادة الزوايا، ازدادت حدّتها مع صَفَعات الهواء والمطر، تراكم بعضها فوق بعض، أجزاء منها لونها بُنّيّ وأخرى طغى عليها السواد، تخبرك من بعيد كم عهدٍ مضى على هذا القصر الذي رُوِيَت حوله القصص، واختلفت رواياتها من فم لآخر.
روى بعضهم أن صاحب القصر – ذا الشأن المهيب، واليد الطُّولَى بالقسوة والعنف – بنى هذا القصر على هيئة غُرف كثيرة انفرادية تتسع لفرد واحد لا غير، كان إذا ما أراد لقاءَ أحدهم حدّثه من شُرفة الطابق الأول. كان يُطِلّ عليهم مُنتشيًا بانحناء جفنه وإغلاق عينه للنصف، بينما يُطِل الأسفلون إليه بتعلق وانفراج الأعين لاتساعها، وتمدد الأعناق قدر ما يُستطاع حتى يسمعهم من وقت لآخر، كان يمتدُّ صوتُ أنينٍ من إحدى غرف الفِناء الخلفي للقصر، يقال إن الأمير كان يلاحق أحدَهم بالركل والنَّهْر حتى يدفعه إلى غرفة الفناء الخلفي الباردة شتاء والرطبة الخانقة صيفًا، ويُترك هناك لفترات يَنسى معها كم مرّ وكم بقيَ ليُفرَج عنه. ظل ذلك الحال حتى اختفى صوتُ الأنين، أو ذلك الصوت غير المفهوم.
أما أصحاب السهل ذوو القلوب الخضراء فتناقلوا أن الأمير كان يمتلك قطًّا مشاغبًا لعوبًا، كان يشغل الأمير عن متابعة أعماله وعن شؤون الناس المنهكة الحائرة. فكان يهشّ القطَّ بصوت ضئيل حتى يصل للفناء الخلفي، ويتركه مع الطعام والشراب، ثم ينهمك الأمير في أعبائه المثقلة، حتى تنبهه الذاكرة إلى وجود القط وموائِه الضعيف الذي لا ينقطع وإعيائه الذي انتابَهُ من الجو المتقلب.
لا تدري أيهما تصدّق! كان في صدر القصر من الداخل لوحة جدارية عظيمة الحجم، تحتلّ الجدار بأكمله، يُرى فيها الأمير بحُلَلِه الحريرية ونِعالِه اللامعة تضاهي أزراره الذهبية، لتصل إلى وجه الأمير الدائري الذي خلا من تجاعيد الألم والحزن، له عينان مريبتان لا تقرأ منهما صاحبهما، يمد يده المثقلة بالجواهر إلى خدمه بالعطايا، وقد اصطفّ الخدم في طابور يأتي تِباعًا فردًا فردًا، زيُّهم موحد، تكاد أحجامهم تكون متساوية إلا واحدًا كان زِيُّه فضفاضًا أكثر ممن سبقوه، عيناه متسعتان لجحوظهما، وبروز عظم وجنتيه، ورجوع لحم وجهه إلى الخلف، تكاد تشعر بقلقه وخوفه وهو يضُمُّ كفّيه كلتيهما للعطية، ولسان حاله يتمنى دعاء الخلاص. وعلى يمين اللوحة بجانب قدم الأمير جلس قطٌّ ليس بالسمين الذي ينبِئُ كأنه نشأ في ترَف القصور، انكَبّ على طبقٍ بنهم، لا يظهر من رأسه سوى أذنيه.
ملَّ عقلي من شدة الحيرة، فالقصر يتيم لا روحَ تنتمي إليه، لا تطمئنّ حتى بالجلوس بقربه، لم تقرأ نفسي سوى غرفةِ الفِناء الخلفي على الرغم من صغرها، لتبدو لَحْد أحدهم وهو واقف، لكنّ عينيّ ترقرقت ابالدمع حالَمَا وقفتُ عند عتبة الغرفة.