النفوس المستعرة
رحاب يوسف | كاتبة وتربوية فلسطينية
شِئت أم أبَيت، ستَجِدُ مَن يَموتُ حِقداً لكَونِكَ إيجابيَّاً، لتَقَدُّمِكَ، لنَجاحِكَ، لثَقافَتِكَ، لسُمُوِّ أخلاقِكَ، لأناقَةِ فِكرِكَ، لتَعامُلِكَ، لاتِّزانِكَ، فاسأل اللهَ العافيةَ دوماً، العافيةَ ممَّنْ قَلبُهُ يَضطَرِمُ حِقداً وحَسَداً وغِلّاً؛ لأنَّهُ شَيطانٌ بهَيئَةِ بَشَرٍ، أو أفعىً خَطِرَةً – في جُحرِها وخارِجهُ – لمْ تَذُقْ حَلاوَةَ الرَّاحَةِ إلا بنَفثِ سُمِّها وشُرورِها، ولن يهدأَ لها بالٌ حتّى تَغرِسَ أنيابَها في نُفوسٍ لا ذنبَ لها، إلا أنَّها صادِقَةٌ، ولا حِيلَةَ لها، ولا دَهاءَ، ولا خُبثَ في هذه الحياة.
يا لِسماجَتِهِ! هذا الذي يُعَكِّرُ صَفوَ كُلِّ جَميلٍ، ويُدَمِّرُ كُلَّ فَضيلَةٍ، يَرفُضُ وُجودَ مَن يُخالِفُهُ الرأيَ والمِزاجَ، ولا يُصَدِّقُهُ! تَراهُ شَبَحاً مُخيفاً يَقتَرِبُ منكَ بخُطىً مُخيفَةٍ، بيَدِهِ منجَل ليَحصُدَ تَعَبَكَ، أحلامَكَ، نَجاحَكَ، ينتَظِرُ لحظَةَ سُقوطِكَ؛ ليُقيمَ على رُكامِكَ وحُطامِكَ بُرجَ نَجاحِهِ، يَقتَرِبُ مِنكَ بمَلامِحَ رَمادِيَّةٍ، مُنقَبِضَةٍ، مُكفَهِرَّةٍ، واجِمَةٍ، وعَينَين جاحِظَتَين، حَولَهُما خُطوطٌ تُدلُّ على الحِدَّةِ والشراسَةِ، وأوداجٍ مُنتَفِخَةٍ، فوَجهُهُ مِرآةٌ تَعكِسُ سَريرَتَهُ، فسُبحانَ مَن جَعَلها علامَةً تُعَرِّيه، وتحكي ما تُكِنُّ نَفسُه!
منهم مَن تَستَعِرُ نَفسُهُ، ويَضطَرِمُ قلبُهُ لتَفَوُّقِكَ عليه، تَضيقُ رُوحُه إنْ رآكَ بَطَلاً في مَجالٍ ما، ويَرى أنَّه ليسَ من المَعقول أنْ تَتَفَوَّقَ عليه؛ لأنَّ عَقلَهُ يَرفُضُ فِكرَةَ أنَّكَ قادِرٌ على تَخَطِّيهِ، وتَجاوُزِهِ كِبراً وتَعالياً، والمسألةُ هنا ليست مَسألَةَ تَصديقٍ أو تكذيبٍ، بل هو يَخافُ أن تَنزِلَ مَنزِلَتُهُ، وتأخُذَ أنتَ مَكانَهُ، أو يَبرُقَ اسمُكَ، ويَشِعَّ أكثرَ من اسمِه، كالكافِر الذي صَدَّقَ وُصولَهُ القَمَرَ، ووَقَفَ في وسَطِه، وسَمِعَ أصواتاً على أطرافِه، لكنَّهُ لا يُريد أنْ يُصَدِّقَ أنَّ الرسولَ محمداً – صلى الله عليه وسلم – سَبَقَهُ وتَخَطَّاهُ إلى أبعَدَ من ذلك – في رحلة الإسراءِ والمِعراج – لأنَّهُ لا يَتَصَوَّرُ أنَّهُ سيَكونُ تابِعاً لدينٍ أو نَبِيٍّ، وسَيَقِفُ أمامَ الله للحسابِ!
يقول الرسولُ محمدٌ – صلى الله عليه وسلم -: “لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حتّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه”، تأمَّلتُ هذا الحديثَ كثيراً، فوجدتُ أنَّ النفسَ المُستَعِرَةَ لا يُطفِئُ شهَواتِها إلا التَّعَلُّقُ بحَبلِ اللهِ المتين المُتَمَثِّلِ بسَلامَةِ القلبِ، واللهُ – سبحانَهُ وتعالى – يقول: “إلا مَن أتى اللهَ بقَلبٍ سَليمٍ”.
خصلَةُ الغيرَةِ، والحِقدِ، والحَسَدِ، قد تُوصِلُ صاحِبَها إلى دَرَجَةٍ تؤذي أقرَبَ الناسِ إليه، كما فَعَلَ قابيلُ بأخيهِ هابيلَ عندَما قَتَلَهُ، وكما فَعَل إخوَةُ يُوسُفَ بِه عندما ألقوه في غياهِبِ الجُّبِّ.
لو لم تَكُنْ سَلامَةُ القلب، وحُبُّ الخَير للجميع من الأمور العَظيمَةِ التي تَتَطَلَّبُ مُخالَفَةَ أهواء النفسِ وشَهَواتِها، لَمَا قارنها الرسولُ بالإيمان، والعَظيمُ لا يُقارَنُ إلاّ بعَظيمٍ، فلا إيمانَ دونَ تَوحيدٍ، ولا إيمان كامِل دونَ حُبِّ الخير للغَير.
إنَّ رَذيلَةَ الغيرة، والحِقدِ، والحَسَدِ، من أشنَعِ الرذائِل، وأقبَحِ الخِصال التي دَفَعَت الإنسانَ لارتكابِ أوَّلِ وأفظَعِ جَريمَةٍ نَكراءَ في تاريخ البشريَّةِ جَمعاءَ، وهذه رِسالَةٌ واضِحَةٌ خَطيرَةٌ للعُقَلاءِ، فهذه الرذيلةُ إن طَغَتْ وبَغَتْ على النفس أغشَت نورَ القلبِ، وأورَدَتهُ المهالِكَ، وقادتهُ بغَفلَةٍ – تدريجيّاً – لأسوَأ المَسالِكِ، فاليوم حَسَدٌ قَلبيٌّ، وغَداً حَسَدٌ لَفظِيٌّ، ومِن ثُمّ حَسَدٌ فِعليٌّ، فيكونُ اللقاء، فيَحِلَّ غَضَبُ السماءِ والعياذُ بالله.
تُقَسَّمُ النفسُ البَشَرِّيَّةُ تجاهَ الآخرين إلى ثلاثة أقسامٍ: نَفسٌ سُفلى، ونَفسٌ وُسطى، ونَفسٌ مَلَكيَّةٌ.
إنَّ النفسَ الصافِيَة التي لا تَشوبُها شائِبَةٌ، تَعتَبِرُ نَجاحَكَ نَجاحَها ، وسُقوطكَ سُقوطها، تَحمِلُ في ثَناياها الحُبَّ والخيرَ للجميع، لا يَضُرُّها مَن سَبَقَها بجُهدٍ، وجِدٍّ، ؛ لأنَّها مُؤمِنَةٌ بقوله تعالى: “وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” المطففين (26)، هذه النفسُ تَمضي بتَوَكُّلٍ ويَقينٍ، لا يَهُمُّها المُتَناثرون على قارِعَةِ الطريق كالكلاليب، ينتَظِرون مُرورَها لخَدشِ طَهارَتِها!