أبو طويلة
محمد فيض خالد | كاتب وقاص مصري
يبدو قويّا كغصنٍ شامخ مؤرِق، يَفوقُ أقرانه مُنذ كان صبيّا، يتبع خطوات أمه، شبّ وترعرع لا يعرف والده، يخفق قلبه في جزعٍ، كلّما تذكّر، سُرعَان ما يتلهى في كِسرةِ الفطير التي تخرجها الوالدة من تحتِ خمارها، ينزوي بجوارِ الحَائِط ك، والحُزن يحزّ قلبه الغَضّ حَزّا، يتنهد مِنْ صدرٍ ثقيل، يلقي على ذاكرتهِ سِتارا من الصَّمتِ، يعدو مأخوذًا كعادتهِ، بينَ الأزقةِ والدّروبِ، وأصوات النِّساء تتطاير لمقدمهِ: يا أبو طويلة.. يا أبو طويلة، يجأر بالشَّكوى مُتَأفِّفا، يرفعُ رأسهُ مُتمِّتما في مرارةٍ، وقد تقلَّصت ملامحه، يبرطم مغضبا تحت وقعِ الالحاح، لحظات ويلين للنداءِ بعد لأيٍ، تستهويه في الأخيرِ حبات البلح المحمّص التي تجودُ بهِ الأيدي، يتنقلُ من بيتٍ لبيتِ، يقضي حوائج النِّساء، لا يتحرّج من اقتحامِ الدُّور على أهلها دون عضاضةٍ، بعد إذ تعوّدوه، هو أبعد ما يكون عن كُلّ ريبةٍ ، بابتسامةٍ بلهاء يضحك ملء شدقيهِ، حينَ تُداعب الأنامل ما بينَ فخذيهِ، وصرخات الإثارة تعلو في صخبٍ وفوضى، سُرعان ما يجتمع النّسوة في إثرهِ كبارا وصغارا ، ليتَّخذوه هزوا ، يرتجف صوته فَرَقا ، ثم يطلق ساقيه للرِّيحِ ، وقد انتَسَفَ لونه ، ومن خَلفهِ يَتصايَح الصِّبية في ابتهاجٍ وزَعيق: أبو طويلة .. أبو طويلة ، يطوف الشّوارع يتابع رحلته اليومية في رتابةٍ ، لكنّه رغم هذا لا يُعدم في تطوافهِ من الكلامِ المعسول، تلكَ سلواه التي تُشعِره بفحولتهِ المُبكرة، يطلق ضحكات بلهاء ، مُنتشيا في خجلٍ مُصطنع، يُهرولُ يذرع البيوت هنا وهناك بلا تواني، غير أنّ في قلبِ صاحبنا صخرة لا تنفذها أشعة الحُب، مع أنّه في كثيرٍ من المراتٍ، ما يكون محطّ أطماع غِلاظ القلوب من النِّسوةِ المُجترءات، فمثله لا يبوح بسرٍّ، ولا تُخشى مطامعه، وتلكَ صفات قلّما توافرت لغيرهِ، ها هو الدّهر الغشوم، يضنُّ عليهِ بهنائتهِ، تتلاحق أرزاء الأيام قاسية ، لتنتزع منه أمه ، لم يتبقى منها إلا اثرها العافي ، لصِيقا كدخانِ الموقد فوقَ حيِطانِ منزلها القديم ، جعل يذوي ويسحب لونه، وشيئا فشيئا انقطعَ “أبو طويلة” عن لهوهِ وتسليتهِ ، هجرَ تجمعات النّساء بعد أن ضاقَ ذرعا بمشاكستهم ، ظَلّ على حالهِ يئنّ من أعماقِ قلبه، في سكونٍ يجيل بصره في المحيطينِ بهِ، تبدو على وجههِ جهامة وانقباض، على فتراتٍ تُهيمن عليهِ نوبة نشيج، يقضي سحابة نهارهِ بعيدا عن البيتِ، حتى إذا أظلّه اللّيلِ عادَ كاسفَ البال، يُلقي بجسدهِ المُنهك أمام العتبةِ، هكذا حتى الصّباح، وفِي يومٍ صحا نهاره، لكنّ “أبو طويلة” لم يستيقظ، قلّبته الأيادي في وجلٍ، ليجدوه جسدا مُسَجّى ، ليُغيّب في سِجلِ النسيان .