النص والواقع: دراسة في 4 نصوص سردية للقاص عمر حمش

الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين

ملخص البحث:

كل خطاب هو تمثيل، أو إعادة إنتاج. فاللغة نظام ترميزي، يستخدم وسائل قولية ليعبر عن المحتوى. وهذه الوسائل متلبسة بذات القائل، ومتأثرة بدوافعه. أي أن اللغة لا تقول الواقع ولكنها تقدمه لنا بطريقة غير مباشرة، فالواقع المقول هو مجرد إعادة حضور، وليس حضوراً مؤصلاً. فمن ناحية المحتوى، يمكن لنا القول بأن إنتاج دلالة أي نص أدبي، لا يمكن له أن يتجاوز تأثيرات الأيديولوجيا والدوافع النفسية وآثار المكبوتات واللاشعور، سواء في المؤلف أو شخصيات النص. وأما من ناحية الشكل، فلا شك أن هناك أعرافاً قصصية، لا بد من مراعاتها عند التعامل مع أي نص سردي. فالمتلقي ـ كما الناقد ـ يدرك أن كل مروي له راوٍ، مهمته إدارة العملية السردية بكاملها. وهذا الراوي لا يستطيع نقل كلام الشخصيات، كما حدثت في الواقع المفترض، بل إنه ينقله بلغته هو، وبطريقته هو. وإن إحدى مهمات التحليل أن يلاحظ كيف يتم ذلك.

النص السردي عند عمر حمش هو مثل مخيم جباليا الذي ترعرع فيه: فكلاهما مزدحم مكثف. أما المخيم فمزدحم بسكانه، وأما نص حمش فمزدحم بدلالاته. وأما التكثيف فناتج عند عمر عن اقتصاده في الكلمات، في حين يتلاصق البشر صانعو الكلمات في المخيم. ومن ثم فغني عن القول أن كليهما ـ النص والمخيم ـ متلاصق الأركان ضيق المسارب، لا يعطي سره لكل أحد. ولذا تجد عمر لا يختار شخوصه إلا من بين هذه المسارب والأفنية الضيقة.

المقدمة:

بعد مرحلة طويلة من التغييب المتعمد للمعنى، وتركيز المناهج النقدية على آليات إنتاج الدلالة، دون الدلالة نفسها، بدأت الساحة النقدية، تثوب إلى رشدها، وتتلمس محتوى النص الأدبي، الذي كانت تعتبره غير ذي أهمية في الماضي. ومحتوى النص الأدبي، كما نراه، هو دلالات ألفاظه على كل من التاريخ والذات: فالتاريخ ـ باعتباره مجموعة العوامل الخارجية المؤثرة في إنتاج النص وتأويله ـ هو علامة ألسنية ينبغي الالتفات إلى أفعالها، تماماً مثلما نفعل ذلك مع لغة النص الظاهرة. ومن هنا، فلا بد لأي تحليل نصي من أن يضع نصب عينيه أمرين في غاية الأهمية:

1ـ عدم تجاوز أدوات التحليل الجمالي الشكلانية ـ بغض النظر عن كل دعاوي المناهج الشكلانية الرافضة للمعنى ـ لأن مجمل الدراسات الشكلانية، قد أنجز أدوات تحليل أدبي غاية في التكامل والأهمية، وينبغي الاستفادة منها عند التناول الجمالي لأي نص أدبي.

2ـ عدم الاكتفاء بشكلانية الجمالي في النص. إذ لا بد ، في ذات الوقت، من الالتفات إلى نفعية هذا الجمالي: أي المعنى، والأيديولوجيا، واللاشعور… وكل ما له علاقة بإنتاج النص وتلقيه. فلم يعد ممكناً إغماض العينين ـ أكثر مما حدث سابقاً ـ عن تأثير كل ذلك، باعتباره وعياً كامناً يبحث عن حضور.

هدف البحث:

مما سبق، يتوجه لنا أن تطبيق مثل هذا المنهج ـ الذي يجمع بين مقولات البنيوية وما بعدها ـ في تحليل نصوص القاص الفلسطيني عمر حمش، هو أمر ذو دلالة لا تخفى، ويتيح إنتاج قراءة جديدة تغني كلاً من النص والتحليل. وهو ما يحاوله هذا البحث.

النص الأول: خيط القمر(1): الأيديولوجيا والتمثيل:

1ـ دنيوية النصوص:

كل خطاب هو واقعة تاريخية، متأثرة بعلاقات الدنيا. ونحن في نصوصنا، سواء كانت سردية أم تاريخية؛ لا يمكن لنا ادعاء البراءة أبداً. فمهما ادعينا الموضوعية والرغبة في نقل الأحداث كما هي، فإننا لن نفلح؛ لأننا ـ بطبيعتنا البشرية ـ نُسكن كلماتِنا نوايانا ودوافعَنا ونبراتنا الاجتماعية. “ولا يكاد يكون ثمة من حاجة للبرهان، من جديد، على أن اللغة نفسها هي نظام ترميزي، على درجة عالية من التنظيم: نظام يستخدم وسائل كثيرة؛ ليعبر، ويشير، ويتبادل الرسالات، والمعلومات، ويمثل، وما إلى ذلك. وفي أي مثل من اللغة ـ المكتوبة على الأقل ـ ليس ثمة ما يسمى الحضور المؤصَّل؛ بل إعادةُ حضور، أو إعادةُ تقديم: تمثيل”(2).   

وإن ما يجعل لهذه الكلمات اعتباراً، في حقل البحث النقدي، هو تركيز المدارس النقدية، في المراحل الأخيرة، على تلمس تأثيرات الأيديولوجيا في النصوص الأدبية، تلك التأثيرات التي يجد الدرس الأدبي نفسه اليوم، مرغماً على إضاءة جوانبها المختلفة، في سبيل قراءة تعيد الاحترام إلى دلالة النص، دون إهمال آلية إنتاج هذه الدلالة. فعلى التحليل الأدبي أن يجد طريقة يتمكن بواسطتها من إدارة الصراع مع مشكلات لغة النصوص، دون بترها عن المشكلات اليومية الدنيوية، المحيطة بالنص، والتي يعتبرها إدوارد سعيد ـ بمنتهى الوضوح ـ أكثر إلحاحاً(3).

2ـ الأعراف القصصية:

في كل قصة هناك راوٍ يدير عملية القص، ويتلاعب بالضمائر وأقوال الشخصيات. فالراوي الذي يقوم عادة بنقل كلام الشخصيات، لا ينقلها لنا كما قالته تماماً. بل إنه ينقله لنا بطريقة نفعية، حتى لو لم يكن واعياً لذلك. ورغم الافتراض القائل بأن الراوي هو شخصية ورقية خيالية من صنع القص؛ إلا أننا طوال قراءتنا للنص السردي، سوف نظل نتعامل معه كما لو كان شخصاً بشرياً. فما الذي يدفعنا إلى ذلك؟. إن أعراف القص هي ما يجعل الأمر كذلك: فـ”نحن لا نمارس النقد بإنصاف للمؤلف, ولا نكوّن علاقة ما معه، ما لم نسلم له بمفترضاته… فإذا لم يكن لديه ما يغرينا بالتسليم، فإنه يكون عندئذ فارغاً تماماً. وبحكم الأعراف القصصية، يستطيع الكاتب أن يخلق وهم الحياة، في الذين لديهم الاستعداد أو القدرة، للتسليم بالمفترضات الأساسية. والرواية [والقصة كذلك] ككل فن آخر, هي نتاج التعاون الوثيق بين الكاتب والقارئ”(4). وما دام الأمر كذلك، فمن الطبيعي اعتبار نقل الراوي للخطاب نقلاً من الدرجة الثانية: أي أنه يغدو واسطة بين المتلقي والشخصية. وبذا فهو ينقل خطاب الشخصية التخييلية من خلال سياق متلبس بذاته، التي لن تكون منفصلة كل الانفصال عن المؤلف المدني، باعتباره خالقه وموظفه.

3ـ المؤلف والراوي والشخصية:

في قصة “خيط القمر” لدينا مؤلف مدني، يسكن مخيم جباليا، اسمه عمر حمش. ولكي ينشئ هذا المؤلف المدني لنا سرداً قصصياً، فقد كان عليه ـ بحسب أعراف القص ـ أن يخلق راوياً، يحمل عنه هموم الأيديولوجيا. فلقد علمنا من مجمل خبراتنا القرائية، بأنه من غير الطبيعي أن يعلن المؤلف آراءه السياسية، بطريقة مباشرة في نص سردي تخييلي، لأن مكان ذلك هو المقالة السياسية، لا القصة الفنية.

إذن فلدينا راوٍ يعلن لنا أنه سيقص علينا قصة قصيرة جداً، يقول إن عنوانها هو خيط القمر. ونحن بالطبع سوف ندرك، على الفور، أنه سيبدأ ينقل لنا أحداثاً زمنية، وأقوالاً شخصية، لأناس يُفترض أنهم غائبون. وعندما نبدأ في تأمل هذا النوع من النقل، فسوف نكتشف ـ رويداً رويداً ـ أنه لم يتمكن من التمتع بالموضوعية: فلا أحد في الحقيقة يستطيع أن يتحدث باسم الآخرين تماماً، بل جل ما يفعله هو أنه يعيد تمثيل الكلام.  فلنتأمل في المقطع التالي، لنرى كيف ينقل الراوي كلام الشخصية: “بيتنا في المخيم تحت القمر. والقمر تفاحة محروقة معلقة. خيط رفيع يربطنا به. نهتز، نهتز. القمر جميل، لكن لو انقطع بنا الخيط، سنهوي في الفراغ السحيق”(ص11).

في البداية، علينا ألا ننسى أن المتحدث بضمير المتكلم هنا ليس الراوي، بل الشخصية الأولى، أو بطل القصة الذي تدور به ومعه الأحداث. أما الراوي فكامن هناك في الزاوية، يدير هذا العالم التخييلي بيدي ساحر. إذن، فالذي يقول: (بيتنا في المخيم…) هو الشخصية. يقول تودروف: “ومن يقول أنا في الرواية، ليست أنا الخطاب، أي فاعل المنطوق: لأن من يقول أنا في الرواية، ليس إلا مجرد شخصية من شخصيات القصة، يتحدث بالأسلوب المباشر، ليضفي على كلامه الموضوعية التي يتطلبها تصديق القصة، وتعبيره بضمير المتكلم لا يجعله هو نفسه فاعلاً للخطاب؛ ففاعل الخطاب أنا أخرى غير مرئية دائماً. وهذه الأنا غير المرئية هي التي تحيل إلى الراوي: ذلك الصوت الشعري المختبئ تحت الغطاء اللغوي”(5).

ولقد يتبادر لنا أن هذه الشخصية، التي تقول (بيتنا في المخيم… ) تحيل إلى عمر حمش الشخص الذي نعرفه. لكن عمر حمش بدوره يستطيع أن ينكر ذلك. ولو تمكنا من المزج بين كل من المؤلف والراوي، إذن لألقينا التهم الجزاف على رأس كل قاص يقول فعلتُ كذا وكذا من الجرائم. لكننا ـ من جهة أخرى ـ لا نستطيع تصور إمكان حدوث ذلك الانفصال التام، بين كل من الراوي والمؤلف المدني والشخصية المتحدثة بضمير المتكلم، إذ تبقى تربط بينهم روابط خفية تؤكد أن هذا يعطي ذاك، وأن ذاك يعطي هذا، في علاقة صيرورة وتفاعل دقيقة، لا يمكن رصد تفصيلاتها الخفية إلا لماماً، وفي نقاط محددة.  

عندما نلج هذا العالم السحري، الذي يقيمه الراوي لنا وسط المخيم، المليء بالقاذورات والرعب والموت وغياب الرغبة. ورغم معرفتنا هذا المخيم وقمره، وكيف يمارس الناس الجنس فيه؛ رغم كل ذلك، نجد أنفسنا متسائلين باستغراب: لماذا يقوِّل الراوي الشخصيةَ مثل هذا الكلام!. ألأنه يريد أن يبني لنا عالماً من عوالم ألف ليلة وليلة!. قطعاً ليس هذا هو السبب. بل يجب البحث عن السبب في دوافع الأيديولوجيا؛ إذ يريد الراوي النيابة عن صانعه الذي ما صنعه إلا لهذا. فماذا يريد الصانع أن يقول؟.

عمر حمش شخص يعيش تحت الاحتلال، ويريد أن يقاوم هذا الاحتلال بسلاحه الوحيد، الذي يحسن استخدامه: الكلمات. ولأنه مدرك، منذ وقت بعيد، بأن الكلمات من هذا النوع تحتاج إلى من يحسن استخدامها، فلقد نراه يلجأ إلى القص بهذا الأسلوب الشعري، مستعيراً عيني طفل. ومن منا لا يحب رؤية الأشياء بعيني طفل!. والطفل يقول هنا بأن الاحتلال بغيض، إلى حد قيامه بإعادة إنشاء علاقات الكون، بطريقة سلبية تهدد الحياة برمتها. فالقمر الباعث للحياة مجرد تفاحة محروقة، والبشر المعلقون به مهددون بالسقوط في الهاوية. فمن الذي صنع هذه العلاقات المقلوبة؟. الاحتلال بلا شك. هذا هو ما تريد الأيديولوجيا أن تقوله لنا بين السطور.

4ـ حوارية الأصوات:

إذا ما استعرنا كلام باختين(6)، فإن علينا أن نقول بأن عمر حمش ينشئ، مع كلام الواقع في المخيم، حواراً داخلياً ذا مستويين: الأول ظاهري يدفع فيه الكاتبُ راويَه إلى الظهور بمظهر الشخص الموضوعي المحايد، الذي ينقل كلام الشخصية كما وقع فعلاً. والمستوى الثاني مضمر ومشحون بالنوايا، مهمته محاورة المستوى الأول والتأثير عليه: فهو نفعي، لاموضوعي، يشي بأيديولوجيا المؤلف. ولنفحص المقطع التالي، الذي يأتي بعد المقطع السابق مباشرة، ودون حذف: “جاورتني على الفراش، مشدودة معي إلى القمر. أراها يغادرها الشحوب، تغدو وردية، تفاحة يغزوها الاحتراق. أراها بنتاً للقمر، عروساً جاءتني من عالم الفضاء، محراباً يغريني أن أعبره. مشحون أنا في هذه الليلة، تتقدمني روحي نحو المحراب، أقترب، أرى القمر يبتهج، يربطه وتر رفيع يجذبنا. وأنا رحى تدور. الدوران فن يا قمر، يوحدني مع المحراب، يجعلنا نصول ونجول. فارس أنا يحرث بحصانه الصحراء، عازف يعامل آلاته مثل ساحر. وخيط القمر يزداد صلابة…”(ص11 ــ 12).

بقليل من الملاحظة، يمكن القول بأن موقع الراوي هنا يتطابق، إلى حد بعيد، مع موقع الشخصية. فكأنه يقوم بالسرد من النقطة التي تقف فيها الشخصية(7) على مستويين:

4ـ أ: المستوى الأول المفترض من الكلام هنا، هو أسلوب يحاول إنشاء وصف موضوعي محايد، لما يحدث في الفراش بين زوجين، في المخيم، خلال الانتفاضة الأولى.

أولاًـ 2: أما المستوى الثاني من الكلام فهو الأهم، وهو موضوع البحث هنا، كونه لاموضوعي، يحاول التخفي تحت ادعاء الموضوعية. وهنا يمثل أمام عيني الكاتب الامتحان الأقسى، الذي سيقرر فيما إذا استطاع إقناعنا بأن هذا قد حدث فعلاً ـ على الأقل في وعيه ـ أم أنه مجرد شخص يتلاعب بالكلمات كاذباً؟.

وإن قدرة الكاتب على إقناعنا، بشيء شبيه بهذا، هي التي سوف تغرينا بالدخول معه في لعبة قبول أعراف القص وإيهاماته. وإن ما جعل هذا كله مقبولاً هنا، هو أن راوي عمر حمش لم يعمد إلى تنقية خطابه من نواياه الذاتية. وإن تلك النوايا هي التي أغرتنا بقبول الدخول معه في اللعبة، لنرى فارساً يصول ويجول، ويحرث أرضاً، وسط غرفة صغيرة في مخيم معزول ومقهور، لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. بل إن هذا التناغم بين القمر والفارس ـ الذي يصول ويجول وسط عالم دونكيشوتي سوريالي ـ هو الذي أقنعنا أننا نرى الآن العالم بعيني طفل، لا نملك إلا أن نتصوره عمر حمش. وهل يفعل ذلك إلا عمر حمش أو دون كيشوت!.

إن جزءاً هاماً من الخطاب المضمر هنا يريد أن يقول لنا: إن بمستطاع الفرد البسيط أن يواجه الاحتلال، بالتمرد على قوانينه. الاحتلال يذرع الشوارع، ويملأ القلوب بالذعر، ويشحن الفضاء بالحركة والضوضاء والعنف؛ أما الفلسطيني البسيط فيدع كل هذا وراء ظهره، ويذهب ليمارس الجنس، بحميمية عبادية سماوية، تحيل الفراش إلى محراب، والجنس إلى صلاة.

ألا نرى هنا إلى فعل الأيديولوجيا وقد بدا واضحاً، من وراء الكلمات. ثم ألا نرى كيف تخلت الكلمات عن براءتها الظاهرية، وانشحنت بالنوايا والنبرات الزاعقة، حتى وهي تهمس بحميمية دافئة على فراش الزوجية!؟. لقد تعمد الراوي تشويه نبرات الخطاب الاحتلالي، المتلفع بكل دعاوى القوة، وأظهره ضعيفاً عارياً لا يستطيع مواجهة الفعل الإنساني (اللامحدود) إلا بقوة السلاح المادي (المحدودة). فلنتأمل هذا المشهد: “الليلة غافلناهم ودرنا، كأننا لسنا هنا. كأن المخيم بستان!. وهم، زالوا أو ماتوا. نحن في بستان، ويكفي. ندور مع القمر… في لحظة، انشد الخيط بعنف، وصرنا كمن يهوي. داست أقدام على السماء والأرض والجدران والهواء والماء واليابسة والسائلة!. أقدام انتشرت فوق رأسي وصدري وقدميّ… صرت مشدوداً من عنق رأسي، معلقاً، عارياً. كنت كما عملني الله… حملقوا عجبين في عريي، فأنا كنت أفعل ما يفعله الرجال. أنا اكتشاف… وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء. كان القمر مذبوحاً ويهوي، والخيط معه يرمح مقطوعاً”(ص13 ــ 14).

لنلاحظ الآتي:

أولاً: ذات مرة قامت الشخصية باستنساخ أقوال الآخرين، وذلك حين نقلت لغتهم وشوهتها ودمجتها في كلامها، كما في قولها: (الليلة غافلناهم ودرنا). حيث يمكن لنا رؤية العلاقات التالية:

أولاًـ 1: حيث لا تتوفر للجندي الصهيوني، أي نوع من الممارسة الجنسية؛ فإنه يرى في طبيعة الظروف القاسية التي يعيشها هنا، سبباً وجيهاً في تعليل هذا الحرمان.

أولاًـ 2: وحيث ينظر الجندي إلى أن قسوة هذه الظروف، بالنسبة للعربي المعرض لقهره، هي أكثر بكثير من قسوتها بحقه؛ فإنه يتوقع أن تكون معاناة الفلسطيني أكثر من معاناته، وهو ممثل سلطة الاحتلال.

أولاًـ 3: ولكن الجندي ـ لشدة ألمه ـ يكتشف أن العربي، رغم كل ذلك، يستطيع أن يمارس الجنس، حتى وسط الفعاليات اليومية للانتفاضة.

أولاًـ 4: من هنا تنبع الرغبة لدى الجندي، المتمتع بسلطة الإخضاع، في منع العربي ـ الخاضع ـ من المتعة الطبيعية الناشئة عن ممارسة الجنس.

أولاًـ 5: فالشخصية المتكلمة، حين تنقل جملة المحتلين إلى خطاب غير مباشر ـ كما في قولها: (الليلة غافلناهم ودرنا) ـ تعلم في الواقع أنها لم تغافل المحتلين، لمجرد وجودها في البيت؛ بل هي تحكي كلامهم الداخلي، القاضي بأنهم مطلعون على كل شيء يدور في دواخل البيوت، ويرغبون في منع حدوث ما لا يرغبون في حدوثه، ولو كان أمراً شديد الخصوصية. وإن رؤيتهم فارساًً يمارس الجنس في بيته، وسط هذا الخضم من الممنوعات، لأمر يدل على (الوقاحة) الشديدة التي يتصف بها هذا الممارس المنهمك في فعل ممنوع!. إذن فالراوي هنا يتخذ وجهة النظر الأيديولوجية للشخصية، ويوظفها من ثم في نقل كلام جنود الاحتلال، بهدف السخرية من منطق القوة.

ثانياً: وفي مرة أخرى، حكى المتكلم مقولة الجنود، المتعجبة من رؤية مشهد إنساني حقيقي: (أنا اكتشاف). وفي هذه الجملة، يمكن لنا رؤية نوع مما دعاه أوسبنسكي بـ”التمثيل الطبيعي”(8) لملامح الكلام المميزة لدى الشخصية، حيث يرى الجندي الصهيوني في ممارسة العربي للجنس، وسط كل هذه النيران والممنوعات، نوعاً من العجائبية التي تثير الدهشة، وتدعو إلى الاكتشاف. وهكذا يتضح لنا، في هذه الحكاية التمثيلية، طرفٌ من هذا التشويه المتعمد، الذي يوقعه الراوي على فعل القوة؛ إذ تجرد الأفعال الإنسانية الطبيعية من قيمتها المعنوية.

ثالثاً: وفي مرة ثالثة، نقل المتكلم جزءاً من فعل الجنود، وأخفى جزءاً آخر، بهدف التكثيف، حين قال: (وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش، سرقت نظرة إلى السماء). فنحن نعلم ـ بحكم العادة ـ أن الجنود يسمحون لمن يعتقلونهم بارتداء ملابسهم، قبل اقتيادهم مخفورين. لكن المتكلم إذ يتجاوز هذا السماح إلى ما وراءه من تغطية الرأس، فإنه يريد التركيز على ما يمنعونه، لا على ما يسمحون به. كل ذلك في سبيل نفي الصفة الإنسانية عن أفعالهم، وكأنه يريد أن يقول: إنهم ما سمحوا له بارتداء ملابسه، إلا لتصبح تغطية رأسه أمراً مستساغاً، ومن ثم نقله إلى السجن، دون تمكينه من رؤية الطريق.

رابعاً: وفي مرة رابعة نرى الراوي يمعن في تشويه فعل الجنود، حين يقوّل الشخصية العبارة: (وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش، سرقت نظرة إلى السماء). لأنه يجعل من فعل عادي، كالنظر إلى السماء، نوعاً من البطولة. إن الراوي هنا يجند المتلقي إلى جانب الشخصية، ويدعوه إلى التعاطف مع هذا المخلوق الممنوع من مجرد النظر إلى السماء. وفي نفس الوقت نلاحظ، في هذا التشويه المتعمد، كيف أمعن خطاب الراوي في السخرية من جنودٍ بلغ بهم الشر درجة منع الناس من أدنى حقوقهم الطبيعية. 

خامساً: وبسبب من اتخاذه وجهة النظر الأيديولوجية الخاصة بالشخصية الفلسطينية المناضلة؛ فقد رأينا كيف عمد الراوي إلى تأمين انتصار الفعل الإنساني، في نهاية المطاف. وذلك حين تغلغل في وعي الشخصية، التي أقفلوا نصفها العلوي بكيس الخيش، وجعلها ترى القمر مذبوحاً هاوياً إلى قعر سحيق: (سرقت نظرة إلى السماء. كان القمر مذبوحاً ويهوي). وكأن ما أصاب الشخصية قد أصاب القمر!. وإن راوياً يجعل القمر في صف الشخصية التي هو منحاز إليها، لا يمكن أن يكون موضوعياً البتة. فموضوعية الراوي هي موضوعية مفتعلة، أو مفترضة في أحسن الأحوال. هكذا حاول عمر حمش أن يفعل براويه. وهكذا كان علينا أن نلقي بصيصاً من الضوء على كل هذا التخفي. فهل كان على عمر حمش أن يكون موضوعياً في علاقته بالوطن؟. لا أحد يستطيع قول ذلك. ولكننا نستطيع القول بأن هذا النوع من الكتابة قد استطاع بالفعل أن يحقق أمرين: المزج الناجح بين كل من الهم الوطني والقلق الفني، لصالح كليهما. والأمر الثاني، المزج والفصل بين الصوتين المتعارضين: صوت المناضل، وصوت المحتل. وكل هذا، في سردية قصيرة جداً، وبطريقة مقنعة تماماً.

النص الثاني: عصا وكفن(9): جوانب من شعرية السرد:

1ـ النص والأيديولوجيا:

كثيرون هم الذين كتبوا عن الانتفاضة الأولى، دون أن تشكل كتاباتهم علامة فارقة في دنيا الإبداع. ثم إن هناك الكثيرين ممن وجهوا سهام اللوم، إلى أغلب ما كُتب عن الانتفاضة الأولى، لأسباب بعضها أيديولوجي صرف، وأكثرها استجابة لصرعات نقدية، اعتبرت في حينها الكتابة عن الوطن نوعاً من الأدب الرديء. وتلك صرعات هيمنت على المشهد النقدي ردحاً من الزمان، متخفية وراء أسماء متعددة، كالحداثة والبنيوية والنصية… إلى آخر هذا الهراء النقدي الذي زحم الساحة بكلام يعيد إنتاج الاستلاب.

لكن ما حدث بعد ذلك، أدى إلى إعادة وضع العربة على السكة، حيث رفضت النظرية النقدية، ما بعد الحداثية، الاقتصار على دراسة الإطار الشكلاني وزركشته الخطابية، مقررة أن وظيفتها تتحدد من خلال نشأتها، حيث يجب أن تنشا النظرية من البداية، في مواجهة مشكلة ما، فتكون استجابة لهذه المشكلة، وتصديا لها، بروح من التمرد والعصيان، والخروج عن الضوابط والأنظمة السائدة، بطريقة تستلهم جميع فروع المعرفة، من خارج إطار علم الأدب. وبذلك تصبح الذات المفسِرة في مكان آخر وزمن آخر، يتم فيه إعادة النظر من جديد، في كل ما كُتب إبان حقبة الحداثة(10). فلا ريب “أننا اليوم في عصر إضفاء الصبغة السياسية والأيديولوجية، إذا لم يكن على الأدب؛ فبالتأكيد على تحليل الأدب”(11).

2ـ الراوي:

في قصة عمر حمش “عصا وكفن” يرسم لنا الراوي مشهداً من مشاهد الانتفاضة، مقلعاً هذه المرة من ذاته باتجاه السرد: السرد الشعري المتلبس بغنائية شجية، تعلي من شأن الذات، وفي نفس الوقت تجد لها فسحة في بناء أركان السرد المعهودة، من مكان وزمان وشخصية وحدث…

2: أ ـ الراوي والمكان:

لقد أدرك عمر حمش، بحاسته الإبداعية، أن هذا الإقلاع المحسوب إلى العالم الخارجي، يقتضي توظيف راوٍ عليم هذه المرة، يجوس الزقاقات، ويتسلل إلى دواخل الشخصيات، ويرى ظواهر الأمور وبواطنها في آن. ولقد يمكن لنا أن نرى في اختيار عمر حمش، تقنية الراوي العليم، في هذه القصة ـ خلافاً للمعهود منه ـ جرأة في تحدي السائد، وتحرراً من عديد من المقولات المهترئة، التي روج لها دعاة ما يسمى بـ”الرواية الجديدة”، من رفض هذه التقنية، باعتبارها إحدى أدوات القص “التقليدي”(12). وما ذاك إلا لأن عمر حمش أدرك، بحسه الجمالي، أن موقع الراوي لا يمكن له أن يحكم على درجة الإبداع. فنحن قد قرأنا “الرواية الجديدة”، ورأينا أنها، رغم كل هذا الصخب الإعلامي، لم تستطع أن ترتفع بإبداعات منظريها إلى مستوى روايات كـ”الحرب والسلام”، أو”أولاد حارتنا”، أو”صخرة طانيوس”… وهيهات لأي خيار أسلوبي ـ مدروس ومسبق ـ أن يحكم على الإبداع. ثم هيهات لقولبة ما أن تحدد ما يجب أن يكون، وما لا يجب أن يكون. إذن لأمكن لكل دارس، لهذه التنظيرات العجيبة، أن يصبح مبدعاً. ولقد رأينا بعض طلبة الجامعات، ممن استعبدتهم مقولات نقدية من هنا أو هناك، يفعل ذلك، ثم لا ينتج إلا هراءً سائلاً لا يستطيع أن يقلع به نحو أية آفاق. فلننظر كيف يتناول الراوي العليم هذا المشهد:

“المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور، ويصرخ هاوياً على الرأس الهرم. الرصاص يفرقع ويصن: طاخ طاخ. الشوارع ترمح تحت الأقدام. الفراغ يمتلئ، يتعبأ بالهتاف. يهتز الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين: أين أنت يا رشيد؟. البيت يتراقص. الأصابع في الفراغ تتباعد، تتلمس للجسد الأعمى الطريق. أين الجدار؟. المخيم ناس وجنود، رمح ولحاق، نار تجتاح الأزقة والزوايا والعتبات، حجارة تتفلت من القبضات، حلوق تكتوي بالزعيق والجري والرصاص. الجسد الأعمى يتحرك، تصل يداه للعصا المعقوفة، تقبض عليها سلاميات الأصابع. تهتز العصا، ويهتز الجسد. المخيم يرقص بجنون، يرسل للدنيا دخاناً يتجشأ ناراً، يفرش التراب بالناس والقتلى والمصابين. يقفل المخيم مداخله ويفتحها، يغلق أزقته ويطلقها. الأزقة بنادق تطلق الآدميين. الجسد الأعمى يتحرك، يصرخ من خلف الباب على الشارع: يا رشيد”(ص17 ــ 18).

هو ذا مشهد عين الطائر: المشهد الناتج عن رؤية كلية تحيط بالمكان، فيما يشبه لوحة بإطار عام يحيط بالمخيم كله: (المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور..).. إنه فضاء الفعل والمتعة، لا مجرد خلفية لحدث يدور هنا أو هناك، أو مكان لازم لنمو الشخصيات؛ بل إنه الفعل نفسه، وإن شئت فهو الشخصية نفسها. وما ذاك إلا لأن الراوي قد أسقط الحالة النفسية للشخصيات على المحيط، فأحياه وصنع له وعياً: (الشوارع ترمح تحت الأقدام).. إن الراوي هنا يرسم المكان كما لو كان يبني شخصية من لحم ودم. ولا جرم، فها نحن نرى المكان الذي كان فراغاً ميتاً (يمتلئ، يتعبأ بالهتاف).

يقول بوريس أوسبنسكي: “كثيراً ما تستعمل نظرة عين الطائر، عند بداية أو نهاية مشهد معين؛ أو حتى عند بداية السرد بكامله، أو عند نهايته. مثلاً؛ غالباً ما تُعامَل المشاهد التي تضم عدداً كبيراً من الشخصيات، على النحو التالي: تُعطى في البداية نظرةٌ شاملةٌ عامةٌ للمشهد كاملاً، من وجهة نظر عين الطائر، ثم يتحول المؤلف إلى أوصاف الشخصيات. وبذلك يتم تقطيع المشهد إلى حقول بصرية صغرى… وتؤدي هذه النظرةُ المرتفعةُ ـ المستعملةُ في أول السرد وآخره ـ وظيفةَ نوعٍ من الإطار للمشهد، أو للعمل كاملاً”(13). وبعد أن مسحت عينُ الراوي المشهدَ الكلي، من أبعد أطرافه إلى أدناها، مشكلة لنا صورة عامة وحية، نرى “عين الطائر” تركز ـ فيما يشبه لقطة زووم ـ على بيت بذاته من بين كل البيوت الكثيرة، ليدخله، فندرك نحن المتلقين، نتيجة لخبراتنا القرائية السابقة، أن خشبة المسرح، يتم تحضيرها الآن لاستقبال حدث. والحدث هنا يتم نقله لنا، في بث حي ومباشر، بالصورة أولاً: (يهتز الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين). فنرى شيخاً كبيراً مكفوف البصر ويهتز، كأنما هو يبحث عن شيء. ثم عندما تصل تقنية الصوت، نسمعه ينادي شخصاً كان من المفروض أن يكون الآن معه: (أين أنت يا رشيد؟). لكن رشيداً يخلف عادته، ولا يكون معه، كما أخلفت الموجودات عادتها، حتى أخذ (البيت يتراقص) واضطرت (الأصابع في الفراغ) أن تتباعد، و(تتلمس للجسد الأعمى الطريق). وصار على الجدار أن ينوب الآن عن رشيد في وظيفته: (أين الجدار؟).

يقول ﭙيرسي لوبوك في كتابه، الذي اعتبرته دائرة المعارف البريطانية أهم ما كُتب في نقد الرواية: “إنني أعتبر مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب، في صنعة الرواية، محكوماً بالسؤال عن وجهة النظر: السؤال عن راوي القصة بها: إنه يروي، والقارئ يواجهه ويصغي إليه”(14).

وهذان، الراوي والمتلقي، هما ركنا تحقق النص، كما قررت الدراسات السردية الحديثة. هنا يرى المتلقي كيف لا يكتفي الراوي برسم مصائر الشخصيات فحسب. بل كذلك مصائر الأمكنة المشخصة. فالمخيم المسرود ليس مجرد ناس وجنود، وركض ونار، وإنما هو كائن حي ينتفض كالأولاد (يرقص بجنون) ويشتد غضبه على العدو إذ (يرسل للدنيا دخاناً يتجشأ ناراً) ويتألم بقوة حين (يفرش التراب بالناس والقتلى والمصابين) بل إن الراوي ليزج به في خضم الفعل والمشاركة إذ يجعله (يقفل المخيم مداخله ويفتحها، يغلق أزقته ويطلقها)… بل إن المخيم ـ في سرد الراوي ـ ليتحول أحياناً إلى حجارة لها وعي شخصية بشرية (تتفلت من القبضات) وتهب جسد الأعمى حياة أخرى، لم يتعودها في وجود رشيد الغائب: حياة تدفعه إلى الحركة الفاعلة المستقلة، فـ(تصل يداه للعصا المعقوفة، تقبض عليها سلاميات الأصابع. تهتز العصا، ويهتز الجسد)، و(المخيم يرقص بجنون)، و(الأزقة بنادق تطلق الآدميين) بالضبط تماماً كما الجسد الأعمى الذي يتحرك و(يصرخ من خلف الباب على الشارع: يا رشيد)… فمن يستطيع أن يصور لنا كل ذلك، إلا راوٍ عليمٌ موضوعي الرؤية؟!.

2: ب ـ الراوي والشخصية:

تختلف أساليب الكتاب في تقديم شخصياتهم، فمنهم من يصنع للشخصية تاريخاً، تتهيأ به لاعتلاء خشبة المسرح؛ ومنهم من يقدم الشخصية من خلال الحدث مباشرة، ليتعرف المتلقي على تاريخها، من خلال التصاعد الدرامي نفسه؛ ومنهم من يعصف بالحدث وبالشخصية معاً، تاركاً للمتلقي مهمة خلق الشخصية، كما تفعل الرواية الجديدة(15). ولكننا نعرف أن ذلك لا يصنع سرداً، ولا يقيم عالماً تخييلياً يوهم بالحياة.

وإذا كان عمر حمش من النوع الثاني، الذي يقدم الشخصية من خلال الحدث، فما ذاك إلا لأنه منشغل بالغوص في وعيها. إنه لا يقدمها فقط، بل يترك للمتلقي أن يشارك في استكشاف وعيها، كما نرى الراوي يفعل مع الأعمى الذي فقد قائده، في عز تصاعد وتيرة الصراع، وصار يبحث عنه الآن في تلافيف الدماغ ـ بعد إذ أعياه الغياب الواقعي ـ بالطريقة التالية: “كان عليه أن يبقى، يمسك اليد العجفاء ويمضي، يوصل الجد حيث مقر الروح، يجنبه شر العثرة بحواف القبور، ويوصله كالعادة إلى قبر منير.. هذا قبره: تتلمس يداه رأس القبر، يتحسسه، بالضبط هذا رأسه. يرتخي الجسد الأعمى، يهبط، يتقرب إلى الحجر ويحضنه: هذا أنت يا منير.. يتربع.. الظهر يتحرك ويهتز، يروح ويجيء، تغمض عيناه، ينطبق الجفنان وتزول الحدقتان السوداوان، ينفرج الفم المتحطب العجوز: ـ ياسين والقرآن الحكيم…”(ص18 ــ 19).

نحن هنا لا نرى (رشيد) إلا من خلال وعي الشيخ العجوز الأعمى. ولئن كان رشيد حاضراً، منذ الوهلة الأولى، بما يكفي لاعتباره شخصية سردية كاملة؛ إلا أننا سنتحير في البدء في شخصية (منير) الميت في الزمن المحكي، الحي في وعي الشيخ. لكن عمر حمش يراهن على وعي المتلقي الخبير الذي يدرك، منذ الآن، أن الحياة السردية لشخصية منير مكفولة وموظفة للحظة قادمة، يقفز فيها الميت من قبره ليدور ويصرخ ويرقص، ويشارك في الفعل الجماهيري. كما سنرى بعد سطور قليلة: “منير نقل القبر [أي جاء به من المقبرة إلى ساحة الحدث المشتعل، ليتمكن من المشاركة] قشره، وخرج الآخر يدور. حمل الكفن وصار يلوح… عصا معقوفة، وكفن يتراقص أجمل من منديل”(ص20).

إذن فلدينا شخصيتان أخريان، بالإضافة إلى شخصية الشيخ: رشيد الحي واقعياً، ومنير الحي سردياً، وسيحيا حياة واقعية متخيلة، تتيح له حضوراً أقوى من حضور رشيد. فيصبح الأمر وفق هذه العلاقة المنطقية:

المقدمة الأولى = رشيد حي لكنه غائب.

الإجراء الذي تقتضيه = الغياب موت.

المقدمة الثانية = منير ميت، لكنه حاضر.

الإجراء الذي تقتضيه = الحضور حياة.

النتيجة النهائية = الميت الشهيد أقوى حضوراً من الحي الذي لم يستشهد.

وهكذا تحيل كل هذه العلاقات المنطقية، إلى ما رسخ في الوعي الجمعي، من أن الشهداء، بما أنهم هم الأكرم منا جميعاً، فلا يجب أن نزعم ـ زوراً ـ أنهم ميتون، خصوصاً مع منع القرآن الكريم ذلك، في قول الله سبحانه وتعالى: “ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ؛ بل أحياءٌ ولكنْ لا تشعرون”(البقرة/154).

ولأن الراوي مدرك أن الإيهام بالحقيقة يجب أن يتوفر، لخلق العالم التخييلي في القصة، فلقد نجده يمتشق من جرابه الحيلة السردية التالية، من وعي الشيخ: “منير وحده في القبر، يتحرك ويتقلى. ورشيد، ولده، قفز اليوم السور، دخل الأتون. منير في القبر يجلس وينبهر… رشيد قفز. ذراعاه صغيرتان، نعم. قدماه صغيرتان، رأسه، بطنه، عيناه ضيقتان، لكنه قفز. ولدك قفز يا منير، وأنت الآن تدور”(ص19 ــ 20). ها نحن نكتشف الآن أن منير ـ المقبور ـ يعود إلى الحياة في شخص طفله الصغير، الذي يسير على خطاه، في سبيل تحقيق حلم الحرية. ها نحن نكتشف كيف انصهر وعي الراوي بوعي الأمة الجمعي، القائل: بأن “من خلف ما مات”.

2: ج ـ الراوي والزمن:

يقول جيرار جينيت: “ما دامت كل حكاية إنتاجاً لغوياً يضطلع برواية حدث، أو عدة أحداث، فلعله من الشرعي تناولها بصفتها التطوير… الذي تخضع له صيغة فعلية، بالمعنى النحوي للفظة: أي تمطيط فعل من الأفعال”(16). ففي النص السردي، لا يتم تناول الزمن بنفس الطريقة التي يمر بها في الحياة، وما ذاك إلا لأن الراوي مشغول بتقديم الحدث بأبهى صوره. فالحكاية لا تقدم كما هي، لأن ذلك مستحيل واقعياً من جهة، وممل فنياً من الجهة الأخرى. إن هناك أحداثاً، تستدعي التوقف عندها، بأسلوب يبطئ من إيقاع النص. وإن هناك وصفاً يفترض وقوف الزمن، لتتوقف إيقاعات الحركة، لصالح الرؤية. كما أن هناك سنوات من الحكي يجب اختصارها، ليتدفق الإيقاع مختصراً الأعوام في كلمات قلائل. وإن طريقة الكاتب في التلاعب بالزمن هي التي تحدد مدى موهبته.

في البداية يمكن لنا أن نطلق على الزمن، من وجهة نظر الراوي: مصطلح “زمن السرد” أو زمن الدال. كما سنطلق على زمن الشيء المروي، مصطلح “زمن المسرود” أو زمن المدلول. فزمن المسرود هو الزمن الحقيقي: الذي كان من المفترض له أن يقدم الحكاية كما حدثت في الواقع. أما زمن السرد فهو الزمن المتخيل الذي نتعامل معه في القصة كما وردتنا على لسان الراوي(17).

في “عصا وكفن”، وعلى العكس من التكثيف الذي يمارسه عمر حمش مع الكلمات؛ يبرز لنا التمطيط الذي يصيب الزمن ويبطئ إيقاعه، لحساب السرد: حيث يعيد بناء علاقات الزمن من جديد. إن الراوي مشغول بسرد حكاية موّارة بالأحداث، في زمن قصير (زمن السرد) مقابل زمن طويل مفترض في الواقع المحكي. وكما قلنا في سطور سابقة: بأنه لولا قبول كل من الكاتب والقارئ للأعراف القصصية، التي تتيح للأول خلق وهم الحياة، وتسمح للثاني بالتسليم بمفترضات الكاتب الأساسية؛ لما نشأ هناك فن القص بنوعيه الدرامي والسردي.

من الممكن القول إذن بأن مثل هذا التمطيط الزمني، ينشئ لدينا نوعاً من السرد الوصفي، الذي يدمج ما بين المكان المتحرك والحركة الموصوفة، بتركيز شديد يمنع السيرورة الزمنية من المضي قدماً. ومع ذلك فلا يزال المتلقي يلهث وراءه السرد، كما لو كان الزمن مختصراً. ولنتأمل المقطع التالي: “المخيم يشعل أركانه ويتلوى، يشوي الجارين ويزأر. جدران الطوب تتحرك. والدنيا عدو نشط بين البساطير والنار. عليهم (…) الولد صغير عليه وحل عالق. رشيد يقع ويقف، يقع ويتدحرج، يختبئ خلف حجر ويتكور، يهب بعيداً عن أعين بسطار. في جسد الولد ذراعان مثل عودين، في العودين أصابع تضغط وتصوب… دم بدم. دم أبيك أعز… سقط أبوك قبيل تسابيح الفجر. قال الجد: غطى أبوك رفاقه وسقط. وقال الجد: سقط بعد آخر حبة في المشط”(ص19 ــ 20).

الراوي الآن يلهث مع المخيم، الذي يجري وتتحرك جدرانه، مع أنه كذلك، وفي ذات الزمن، يجري مع رشيد ويقع، ويقف ويتدحرج، ثم يختبئ معه ويتكور خلف حجر، ريثما يهب بسرعة بعيداً عن بساطير الجنود. ومع ذلك لا يجد مانعاً من الرجوع، مع وعي الصبي، خلف اللحظة الحاضرة، ليستدعي لحظة ماضية، يقول فيها الجد إن منيراً لم ينس أن يؤجل سقوطه إلى ما بعد نفاد آخر طلقة لديه، ولم ينس أن يجعل هذا السقوط هدية لرفاقه المنسحبين تكتيكياً. عوالم متعددة، وحركة موارة، مع أن الزمن شديد البطء!. هو ذا تكثيف من نوع آخر. يعطي السرد دفقاً حيوياً، ويتيح للمتلقي استكشاف جماليات استخدام تقنية الراوي العليم.

النص الثالث: سيف عنترة(18): ثغثغة عمر حمش

1ـ إنتاج الدلالة:

لا شك أن محور البحث في أي عملية تفسير، ذات قيمة، يجب أن ينصب على دلالة النص: إن على مستوى فحص عملية الإنتاج، أو في البحث عن المعنى. ولئن ركز النقد الأدبي جل اهتمامه، في العقود السابقة، على الاهتمام بآليات إنتاج الدلالة، فلقد استدار الزمان مرة أخرى، وعادت عمليات التفسير النقدي، في المراحل الأخيرة، إلى الاهتمام بالمعنى، وإن لم تهمل الاهتمام بآليات إنتاج الدلالة. باختصار يمكن القول بأن مرحلة الحداثة ركزت، في عهد البنيوية النصية، على الإجابة على سؤال مفترض يقول: كيف يقول النص ما يقول؟. أما الآن فالاهتمام منصب على الإجابة على سؤال: ماذا يقول النص؟.

ونحن في هذه السطور إذ نستفيد من كلا الاتجاهين النقديين ـ البنيوي اللغوي، والتاريخي الدنيوي ـ نود الابتداء بما بدأ به البنيويون: أعني تعريف عملية الدلالة نفسها.

الدلالة (Significance): هي تلك العلاقة التي تربط بين الدال (Signifier) والمدلول (Signified). وهي ذات صبغة مؤسسية, حيث لا توجد إلا في جماعة معينة من المستعملين لها. وذلك لأن طبيعة الرسالة التي تنقلها العلامة أو الرمز (sign) تحددها ثقافة المؤسسة صاحبة اللغة، أو المجتمع(19). فدلالة الأسود في ثقافة ما هي غيرها في ثقافة أخرى. وقد لاحظنا أن الصينيين لا يحيل عندهم الأسود إلى الحزن، كما هو الأمر عندنا؛ بل إن العكس من ذلك هو الصحيح، حيث يتم التلفع بالبياض الناصع في حالات الحزن الشديد.  كما أن طاقة الزهور لا تؤدي رسالة واحدة، في كل الحالات، فهي ربما تمثل تعزية أو تهنئة أو هدية حب… وهكذا.

2ـ انقلاب الدلالات:

في نص عمر حمش القصير جداً (سيف عنترة) كان الأسود “عبداً ذاوياً ينحني، على خجل، بين السيقان. رنت عيناه الواسعتان إلى السيف، فسكبتُ دمائي. كدتُ أحادثه، فلم أقوَ. كدتُ ألثم شعره المجعد، فلم أقوَ.. شاقلان. ارتفعت يد وصوت: ثلاثة. وأنا مذبوح”(ص58).

لقد انقلبت الدلالات، وانكفأ الدال على نفسه، ليحيل إلى عكس ما هو متوقع منه في ثقافة الجماعة، حيث لم يعد الأسود يحيل إلى السلب، على الأقل في وعي الراوي، الذي نجرؤ على القول بأنه يحيل هنا إلى المؤلف الضمني ـ عمر حمش في النص ـ فلماذا كان ذلك كذلك؟. إن النص وحده لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال. فماذا نفعل؟. لا ريب أن عملية التفسير هنا تقتضي الاستعانة بالتاريخ، لا باعتباره سيرة المؤلف الذاتية، بل باعتباره جسداً نصوصياً يحيل إلى لاشعور المؤلف، خصوصاً ونحن نرى هذا الفيض الهائل من الدوال، التي تبحث لها عن مدلول خارج النص، الخاضع لعملية التفسير.

نحن الآن هنا أمام عنترة العبسي، الأسود الذي يمثل قيمة عظمى، في لاشعور الجماعة. ونحن الآن نراقب سيفه يباع بشاقلين، لا غير. مع أن هذا السيف هو الذي طالما رد كيد الغزاة والطامعين، وحرر السبايا من الأسر، وحرر قبل ذلك صاحبه من رق العبودية الموروث. سيف عنترة يباع في سوق غزة المحتلة بشاقلين!. ولاشعور الراوي يصرخ بألم الراهن: “يا ربي، ماذا يحدث!. العبد الأسود يذوي، وأنا أذوي، ولا عينان تشبه عينيّ، بل مرح يعلو.. هذا سيف عنترة يا ناس!”(ص58).

وهو يتأمل المشهد الفادح بهذا التكثيف:  “أربعة. أربعة شواقل.. الذؤابتان تتراقصان. القبعة تتطاير معلقة بدبوس يشجني. في عنق العبد الأسود حبل، وعلى خجل يرنو: أين أنت يا عزرائيل”(ص59).

نحن نرى هنا عنترة نفسه، لا سيفه فحسب، يُعرض للبيع في سوق النخاسة، وسط هذا الكرنڤال الصاخب، من الضحكات الصادرة عن كائنات ممسوخة. ومع ذلك فإن الشواقل لا تزداد إلا قليلاً.. يا لله!. ما أهون الفروسية العربية اليوم!. فهل يمكن القول إن مجمل الكلمات المطبوعة هنا هي ما يشكل هذا النص، أم أننا بتنا الآن أمام فيض من الدوال، الغائبة وراء عدد قليل من الكلمات، في كتابة تعطلت أمامها رقابة الوعي؟.

الراوي يراقب دلالاً همجياً، “ترتخي إلى أسفل خديه ذؤابتان. رأسه يزدان برقعة مستديرة سوداء”(ص57) بينما الجمهور ـ المغيب وعيه ـ يهلل تعبيراً عن الاستحسان، غير مدرك أن ما يعرض عليه هنا ليس مشهداً في مسرحية هزلية، بل هو فصل في تراجيديا سوداء، ينهزم فيها البطل، في مواجهة قدر قاس ومشاهدين متواطئين.

ولقائل أن يقول: إن دلالات السياق تحيل إلى دلال يهودي، بقرينة الذؤابتين. فأين التراجيديا وهزيمة البطل؟. لكن الأمر ـ عند التأمل ـ سوف يتضح لنا وفق رؤية أخرى معاكسة تماماً: فالسوق في غزة، والبضاعة ملابس قديمة. حيث لا يكون الدلال إلا عربياً. فمن أين جاءت الذؤابتان؟. لقد أنتجهما لاشعور الراوي، الحانق على هذا المشهد، والرافض لهذا الاستلاب، الذي حول الفارس العربي المشهور إلى عبد يباع مع سيفه. لكأن عنترة لم يتحرر. ولكأن كل ما سمعناه عن بطولاته كذب وبهتان. ولا يفعل هذا بعنترة إلا يهوديٌ مستوطنٌ متطرفٌ ذو جديلتين، حتى ولو ظهر للمشاهدين المخدرين بصورة عربي يبيع في “سوق فراس”.  

 2ـ الإحالات النصية:

إن هذا الفيض من الدوال يقول لنا بأن الراوي ـ ومن ورائه المؤلف الضمني ـ يتبرأ من كل هذا الاستلاب العربي، متطلعاً إلى تاريخ أكثر إشراقاً، يتحرر فيه عنترة، المعادل الموضوعي للوعي العربي الغائب حتى الآن. وإذا كان عمر حمش، في هذه السردية القصيرة، ملتزماً بالرواية عن راو ذاتي (بضمير المتكلم) لا يسرد إلا ما يراه، فلقد نراه يلجأ إلى هذا الحشد من الدوال الغنية بالإحالات النصية، ذات المحمول الأيديولوجي، تعويضاً عما تتيحه تقنيات أخرى (كالراوي العليم مثلاً) من إمكانيات واسعة للتدخل والشرح. فلنحاول القليل من الحصر:

2ـ أ: لفظة شاقل = الاحتلال.

2ـ ب: قميص ينفع لعامل طوبار = الجمهور عربي يعمل في الأشغال السوداء.

2ـ ج: هذا الدلال همجي يجأر = صورة العدو وما يقابلها من صورة الذات المتمناة.

الناس أصنام = عهد الجاهلية.

2ـ د: ملبوسات ممسوحة، أحذية مثقوبة = الفقر والهوان الاجتماعي والشخصي.

2ـ هـ: الهمجي [الدلال] يصيح بإتقان قد تعوده = استمرارية الاحتقار وانسحابه على أزمنة ممتدة.

2ـ و: يا عزرائيل = الموت المتمنى هروباً من واقع مرفوض.

2ـ ز: يا موت الصالحين اقترب = استدعاء للنص الديني القائل بأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. حيث شعور الراوي بالاغتراب الفادح عن هذا الواقع المرفوض، وتمنيه الخلاص بالموت.

إن كل هذه المحمولات النصية والأيديولوجية، تحيل إلى وجود مؤلف ضمني يخلق راوياً على شاكلته، يتمنى الموت، هروباً من واقع لا يستطيع التواؤم معه. وإذا كانت الأيديولوجيا تحتم وجود معرفة, ترفض الاكتفاء بالنظري، وتتطلع إلى ممارسة دور حاسم في تعيين طابع الحياة المجتمعية(20)، فإن لنا أن ندرك بأن الأيديولوجيين الحقيقيين يفضلون الموت، على التنازل عن ترجمة الأقوال إلى أفعال. لكن بما أن الراوي يفشل في استدعاء الموت، فإنه يجد في النوم بديلاً، باعتباره غياباً مؤقتاً ينوب عن ذلك الغياب الدائم المرتجى. فلنر كيف يفعل راوي عمر حمش ذلك: “أغوص في بئري. تلاحقني عيون عنترة. السعر يزيد، بطيئاً، قهقهة المجنون. أغوص، أغوص. أصل شاطئ بحرنا. أدخله على عجل. تدفعني الأمواج، فأعود عنيداً، أقذف روحي داخلها. أضرب رأسي في صخرة، فلا تنفجر. أبحث عن جوف حوت، فلا أجد. تسحبني القهقهة، القبعة المتطايرة، الذؤابتان الطويلتان، اللكنة غير العربية، عينا عنترة الخجلة. يتردد صدى صراخي.. يا عزرائيل.. فتدوسني أقدام في الحشد، لتوقظني، تسحبني من بئري. أحدهم يتلمس وجهي.. يا أخ. فألملم جسدي عن الحائط، وأقوم لأجر جسدي متعباً”(ص60). 

وعندما نتأمل المقطع السابق، في تقنياته اللغوية، فسوف تبدهنا حقيقة أن للكلام تاريخاً: أي أن ما قد قيل عن عنترة في السابق قد قيل، ولا يستطيع أن يستعيد نفسه الآن، إلا إذا ازداد، أو تعرض للتصحيح. وعمر حمش، عندما يتكلم عن عنترة هنا، فإنه لا يستطيع أن يمحو الصورة المرسومة له في الذاكرة الجمعية، ولا أن يلغيها. كل ما يستطيع أن يفعله عمر حمش هو أن يوظف راوياً رثاً، يقف في المنطقة الوسطى، بين كل من التاريخ والفانتازيا: التاريخ بصفته حقيقة قارّة حتى ولو كانت مخالفة للواقع، والفانتازيا بصفتها خيالاً جامحاً يحاول جعل اللامعقول ممكن الحدوث. وعن طريق هذا الراوي يستطيع عمر حمش أن يقول دون حروف: أنا ألغي وأمسح وأعدّل. وباختصار، فإن التاريخ الذي تعرفونه، لا يملك حقوق تأليف مسجلة باسمه، تمنع إعادة رؤية الأحداث وتفسيرها، من زاوية مخالفة. لكم عنترتكم، ولي عنترتي. ولئن كان لكم الحق في عنترة الحي وجدانياً، فإن منطق الإبداع يعطيني حقاً موازياً، في كشف نفاقكم، المتعامي عن حقيقة أن عنترة ما يزال يعاني الرق، ويتعرض للبيع.. ثم تتضاحكون!.. وهذا النوع من التدخلات الجريئة هو ما يسميه رولان بارت “ثغثغة”(21)، على اعتبار أن ما يفعله الكاتب هنا يشبه تدخلات الطفل (الراوي) في كلام الكبار (كتاب التاريخ الرسمي). تلك التدخلات الجميلة، التي تحاول مواجهة المنطق القارّ، بمنطق مخالف نتأمله جميعاً بشغف لذيذ، ثم نمضي لما هو مستمر ومألوف. أليس هذا هو ما يفعله الفن الجميل بنا في واقع الحياة!.

3ـ سيف عنترة.. سيف عمر حمش:

لدينا طريقة أخرى للتدخل النقدي هنا، ولكن هذه المرة من باب المعنى: المعنى الذي لا يُستخلص مما قيل فحسب، بل مما لم يُقل كذلك، أو مما تم التأكيد على نقضه وتغييبه من مفاصل الخطاب الظاهر. وهذا المنقوض والمغيّب هو ما سنطلق عليه هنا مصطلح (مضمر الخطاب). ومعلوم لدى أهل العلم بأن مضمر الخطاب أنفذ، وأقوى تأثيراً، من ظاهره، خصوصاً في الخطاب الإبداعي. 

يؤكد فرويد على أن النقض طريقة لتأكيد وجود الشيء المكبوت. فالكاتب ـ بمعونة رمز النقض ـ يحرر نفسه من قيد الكبت، ويغنيها بالمادة الضرورية لعمله المناسب”(22). والراوي يمارس عملية النقض هنا، بحق الوعي، حين ينكر واقعية ما رأى في السطرين الأخيرين، من المقطع السابق، لهدفين: أحدهما فني، يطلب من الكتابة التخييلية، الالتزام بعدم تقديم ما يتناقض مع أفعال الكتابة اللاتخييلية، على اعتبار أن عنصر الإيهام يجب أن يظل متوفراً، في أي كتابة تخييلية تتوخى الصدق الفني. أما الهدف الثاني فنفسي، يذهب إلى قمع الوعي القاسي، ملقياً بمقولاته إلى اللاشعور: تلك البركة القذرة التي سيظل الوعي يحوم حولها، وتطفو على سطحه في لحظات الغياب القسري(23).

لقد نفى الراوي أن ما قصه علينا، في سطوره السابقة، حدث حقيقي وقع في غزة. فكيف فعل ذلك؟. لقد استخدم حيلة مكرورة طالما لجأ إليها الرواة، هي الحلم. ذاهلاً عن حقيقة أن مدارس التحليل النفسي، قد ذهبت منذ فرويد، إلى أن ما يحدث في الحلم هو أقرب إلى الواقع، مما نراه يحدث يومياً أمام أعيننا، “لأنه ناتج عن النظام اللاشعوري، الذي لا يعرف نشاطه هدفاً آخر غير تحقيق الرغبة”(24).

إن ما حدث في القص هنا قد حدث مثله في الواقع بالفعل ـ أقله من وجهة نظر المؤلف الضمني ـ الذي لا يرى إلا حضور المنقوض: أي أن عمر حمش النص يرى أنه لا يحلم هنا، بل يقول الحقيقة المطابقة لما يدور في هذا الواقع المعيش دنيوياً: هذا الواقع العربي الذي يقول إن عنترة لم يعد بطلاً، لدى قوم لا يعرفون قيمة البطولة. لقد أكد رمز النقض على حضور المنقوض بالفعل. وكأننا نرى عنترة يباع مع سيفه ـ أمام أعيننا نحن المتلقين ـ في أسواق نخاسة، تديرها أيدٍ صهيونيةٌ متحكمة، كل يوم!. ومن لا يصدق، فليقرأ ما يحدث في العالم العربي من المحيط إلى الخليج.

النص الرابع: جواد أبيض(25): السرد وعلاقات القوة

1ـ الأدب وعلاقات الإنتاج الثقافي:

من أبرز ما يميز أنماط البحث النقدي، في نقد ما بعد البنيوية، التصميم الملحوظ على وضع الظواهر والمنتجات الجمالية ـ أي النصوص ـ في علاقة مع كل من الهيئات الاجتماعية والأعمال الثقافية الأخرى: أي التاريخ.  فإذا أخذنا بهذا المشروع ـ  الذي يبدو حتى الآن أنه منهج تفسير متكامل ـ فإن ذلك سوف يتطلب منا لا الجمود عند التحليل النصي وحده ـ كما فعلت البنيوية في السابق ـ بل البحث في الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية والتاريخية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك الثقافي؛ كل ذلك إلى جانب المبحث الجمالي، سواءً بسواء(26).

وانطلاقاً من ذلك، لا بد لنا من التمهيد بملاحظة سيرورة عادة ثقافية ترسخت، حتى أصبح سحرها ـ لدى مثقفي هذا الشرق العربي المنتهك ـ يشبه سحر الميتافيزيقا لدى العلوم الإنسانية. ويمكن تلمس تجليات تلك الحالة، فيما درج عليه المثقفون هنا، من اجترار ما وصلهم من مقولات ـ راجت واستهلكت في بلادها، قبل أن يقيض لها الوصول إلى هنا ـ رددوها في البداية، على طريقة المحفوظات في المدارس الابتدائية، ثم اكتشفوا من بعدُ أنهم صاروا من المؤمنين بها ـ بل قل إنهم توهموا ذلك ـ وصاروا يلهجون بها، كلما صدمتهم حقائق الواقع الدنيوي القاسية، ومن أهم هذه المقولات ما يزعم أن البقاء والانتشار إنما هو للأدب الرفيع، وأن كل هذا الهراء الذي يكتبه أناس متواضعو الموهبة، مآله إلى زوال، ولن يقدر له أن ينتشر ويُعرف به صاحبه… وأن الزمن هو الحاكم العادل على الأدب ـ كأن على الأديب أن ينتظر الجوائز بعد موته ـ وأن المثقفين هم ضمير الأمة… إلى آخر هذا الهراء، الذي لا يساوي أن يرتفع عليك، وظيفياً ومادياً وتلفزيونياً، كاتب من الدرجة الثالثة.

ولئن كان متواضعو الموهبة في الغالب هم من يكثرون من ترديد مثل هذه المقولات، فلقد لا يمنع ذلك بعض المبدعين الخلاقين ـ المهمشين في ذات الوقت ـ من الانخداع بذات المقولة، والسكون إليها، ريثما تنقضي حيواتهم وهم ينتظرون حكم الزمن. لكن ما هي حيلة المبدع الحقيقي، أمام توحش “أبواق الحكام”، غير مداعبة الأمل، وانتظار أن يخجل متواضعو الموهبة أحياناً، فيتصدقون عليهم بطباعة قصة هنا أو ديوان شعر هناك، لكن في ثوبٍ أقل بهاءً مما يفعلون لأنفسهم.

2ـ المؤلف المدني:

“عمر حمش” قاص وروائي فلسطيني من غزة، يساري النزعة، وكادر سابق في الحزب الشيوعي الفلسطيني، وعضو سابق في الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، في زمن الانتفاضة. ولقد يكفي أن تتوفر فيه واحدة من هذه الصفات، حتى يرى الجمل يلج في سمّ الخياط، قبل أن تُنشر له مجموعة قصصية واحدة.

وقد مرت علاقة عمر حمش بالنشر، بمرحلتين مختلفتين: الأولى في زمن الاحتلال، حيث لم يكن النشر أمراً صعباً بحق نصوصه، وذلك بسبب حقيقة أنه لم يكن هناك حزب حاكم ولا سلطة، في المناطق الفلسطينية، سوى سلطة الاحتلال. وفي هذه المرحلة كان من الممكن، لرجل مثل عمر حمش، أن يتسنم عضوية هيئةٍ إدارية، في اتحاد كتابٍ يعاني من ملاحقة الحاكم العسكري. أما المرحلة الثانية فقد شهدت أمرين في غاية الدلالة: اعتزال عمر للعمل الحزبي، بالتوافق مع قدوم السلطة الفلسطينية إلى غزة والضفة: هذا القدوم الذي مكن عديدا، ممن كانوا بعيدين عن أي نشاط “يغضب الحاكم العسكري الصهيوني”، من الانخراط في حزب السلطة الجديدة، والهيمنة من ثم على اتحاد الكتاب، واستبعاد عمر وأمثاله، عند تقرير من يستحق أن تنشر له السلطة (إبداعه) أو تؤخره.

3ـ النصوص والسلطة:

عندما نتأمل الطريقة التي نشرت بها قصة “جواد أبيض”، فسوف نرى مصداق ما ذهب إليه أحد أكبر ثلاثة نقاد ثقافيين، في مدرسة ما بعد الكولونيالية(27). إذ لاحظ إدوارد سعيد ـ بمنتهى حدة الذهن ـ أن الأمر في الحقيقة لا يكون دائماً وفق مشيئة المبدعين الخلاقين، وذلك لأن الأدب والنقد كليهما فعل دنيوي متأثر بعلاقات الدنيا؛ حيث أكد دائماً “على الترابط بين النصوص، وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية، والسياسة، والمجتمعات، والأحداث: فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة، والمتعلقة أيضاً بضروب المقاومة، التي يبديها الرجال والنساء والحركات الاجتماعية، والسلطات والمعتقدات التقليدية؛ هي الوقائع التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص، وهي التي تستقطب اهتمام النقاد. ولذلك فإنني أقترح [والكلام ما زال لإدوارد سعيد] أن تكون هذه الوقائع مثار اهتمام النقد والوعي النقدي”(28).

لم يكفِ عمر حمش أن يكون مبدعاً وسط حشد من متسلقي السلطة، حتى صار عليه أن يضيف إلى ذلك أنه من غزة المهمشة، وسط حشد كبير من كتاب، لا تشكل كتاباتهم منافسة مجدية. ولو كانت كتابات عمر حمش متواضعة القيمة، إذن لأمكن الظن بأنها سوف تجد لها مكانة أفضل، مما نالته قصة “جواد أبيض”، التي وضعها ناشرو الكتاب في الترتيب الثامن عشر، ضمن مجوعة مشتركة مكونة من تسع عشرة قصة قصيرة، صدرت في غزة عام2003، بعنوان “قصص فلسطينية”.

4ـ تفكيك الشفرات:

عمر حمش كاتب مقتصد مدرك قيمة الكلمة حين تكرمها، ومدرك كذلك مدى ما توقع من ضرر ـ جمالي ونفعي ـ حين تمتهنها. لذا، فلقد لا تراه يلقي بكلماته جزافاً، وحيثما اتفق. فالقصة عنده تكثيف خالص، لعوالم واقعية، تتلبس بقسط غير قليل من الفانتازيا، الموظفة توظيفاً متعباً، لا يدع حرفاً يقرُّ في مكانه، إلا بعد لأيٍّ ومعالجةٍ شديدين. فلا جرم أن كانت كتابته متطلبةً نوعاً من المتلقين، يحسن تفكيك شفراتها، واستكناه مستوياتها المتعددة. فها هو يبدأ على هذه الصورة: “بعد الجري خلف نعوش المقتولين، قررت الفوز بساعة غفلة، أقفل فيها عقلي، وأطفئ حيرة عينيّ: ساعة سفر في بحر النوم المسروق.. تقاتل بعضي مع بعضي، وتلاطمتُ. فلفًَ سريري: لفًَ بطيئاً، ثم دار كترس مسنون. فاشتعلتْ مخدتي، ثم استعَرَتْ. تمنيت القفز، فلم أقوَ. كنت جثة ممتثلة للنار. حلقي ملجوم لا يزعق، وناري تأكلني، وعقلي يعمل. أنا رماد هش، تابوت تفحم، وفيه عقلي ينشط. قلت: أهز رمادي، فيسقط عقلي: هزة، وأنهي أمري مع هذا الجنون. وقلت: فرصة العمر تأتيني في آخر لحظات العمر. عزمتُ، واستقويتُ بالله، ثم بأولياء الدهر. قلت: أصيح صيحة فأفقشُ غلافي المسودّ. وفعلتُ، فتراقصتْ صيحتي ذبالةَ نارٍ على لساني، وأدركت أنني لن أهنأ حتى في موتي. فأرسلَ جوفي دمعاً يغلي.. لحظتها جاء. كان غبشاً في البدء. ثم تيقنتُ وهو يكاد يلمسني: فارعاً يشهر قامته ـ ذات قامته ـ وعينيه الضيقتين، وكنزة ناعمة من الحرير الأبيض مزمزمة الظهر. وتبسم كعادته”(ص119).

في هذه السردية يمكن ملاحظة العلاقات التالية:

4: أ ـ وجهة النظر:

إذ نرى الكاتب يلجأ إلى استخدام تقنية الرؤية المحايثة: حيث تتساوى معرفة الراوي بمعرفة الشخصية المروي عنها. وهذه الحالة هي ما تطلق عليها البحوث السردية مصطلح: الرؤية مع. وعادة ما يرمز لها بالشكل التالي: (الراوي = الشخصية). وعندما يختار كاتب وجهة النظر المحايثة هذه فإنه يلجأ إلى استخدام ضمير المتكلم ـ كما فعل عمر حمش ـ ومن ثم فلن نتوقع منه بعد تفسيراً للأحداث، إلا من خلال الشخصية المروي عنها. فلماذا اختار عمر حمش هذه التقنية؟.

أود القول ابتداءً بأن الكاتب، عندما يكتب، فإنه لا يضع نصب عينيه ـ في الغالب ـ استخدامات محددة لهذا النوع أو ذاك من التقنيات، بل يطلق لاشعوره ليتدفق، ثم يلجأ من ثم إلى تنظيم هذا الدفق بأدوات التهذيب، قبل أن يدفع المادة إلى النشر.

لكن لاشعور عمر حمش مدرك في أعماقه، أن هذا النوع من القص المكثف، يحترم قدرة المتلقي على فك الشفرات وتفسير الأحداث، دون حاجة إلى تدخل من الراوي. ونحن كمتلقين سوف ندرك، مثلاً، أن استخدام الراوي للفظة (المقتولين) في وصف شهداء الانتفاضة، يحمل في داخله بذور انهياره. إنه يريد لفت انتباهنا، بهذه الطريقة الصادمة، إلى ما يقوله بعض ممتهني السياسة الفلسطينيين، ممن يقفون على الحياد، في معركة البقاء المحتدمة على أرض فلسطين. كيف عرفنا أن ذلك كذلك؟. من علاقات النص نفسه، حيث يواجه الراوي، بعد سطور قليلة، هذا الخطاب المستَلَب، بخطاب (أحد المقتولين)، على هذه الشاكلة: “فانفرج حلقي: (أنت ميت). فنطق من شفتيه ـ ذات شفتيه ـ (وهل الشهداء يموتون؟!). صحت: (أطفئ ناري)، فأطفأني، وهو ينهضني. فقمت خفيفاً”(ص120).

فها نحن نرى الراوي يواجه بخطابه ـ الذي يريد تفكيك محمولاته ـ عن طبيعة هذا الموت الذي سبق أن عُبر عنه بالقتل، ليحيل إلى الشخصية مهمة نقض ما قيل، في نبرة استفهام استنكاري (وهل الشهداء يموتون!). ثم يتبنى المحمولات الأيديولوجية لشخصية الشهيد بصيحته (أطفئ ناري) وتلك صيحةٌ مطالبة بإنقاذ الراوي من موته المعنوي، الذي حملته إليه مقولاتٌ تصف الشهداء بـ(المقتولين).

ها نحن نرى هنا كيف تحيل جماليات الشكل (التقنيات) إلى جماليات الثقافة (المحتوى النفعي)، مصداقاً للنظرة الثاقبة التي سبق بها هيجل عندما قال بأن “كل مضمون يحدد شكلاً مناسباً له… وعيب الشكل ينشأ عن عيب المضمون”(29).

4: ب ـ ثنائية الحياة والموت:

فالحياة والموت، عند الراوي، شيئان مختلفان عن الحياة والموت عند بقية الناس. فإذا كان الموت ـ في العادة ـ قرين البؤس وانقطاع الذكر، وكانت الحياة قرينة السعادة وامتداد الذكر؛ فإن الأمر على العكس من ذلك في نظر راوي عمر حمش. فالراوي الشخصية ـ عندما يستسلم للحظة من خدر، يتيح للاشعور أن يطفو على السطح ويحتل منطقة الكلام ـ يرى نفسه (جثة ممتثلة للنار). وعندما يحاول أن يهز رماده، ويستمد من النار حياة جديدة، تخرج له الحياة على هيئة شهيد، كان يظن قبل لحظة أنه مجرد (مقتول). وهذا (المقتول) هو الذي سيبعث الحياة وثابةً في الراوي المحترق بالنار.

ولقد نلاحظ الآن كيف أن هذا الانقلاب المفاهيمي، لم يحتج من عمر حمش، إلا إلى أسطر قليلة، يتبين لنا بعدها أن الشهيد (المقتول) هو الحي، وأن الراوي (الحي) هو الميت: (فأطفأني، وهو ينهضني. فقمت خفيفاً). فلنقرأ المقطع التالي: “واقترب صاحبي من الجواد، ففهمت نيته. وصرخت: (خذني)، وأكملت جارياً: (خذني خادماً).

انفرد للجواد جناحان ثلجيان، وصهل كما لم يصهل جواد. وصاحبي نظر ليودعني: (وهل أمسكتم بواضع العبوة؟) فاقشعر بدني، وانخفض جفناي…”(ص121).

4: ج ـ اللغة ذاكرة جمعية:

يقول رولان بارت: “اللغة سلطة تشريعية، اللسان قانونها. إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر… إن كل لهجة تتعين، أكثر ما تتعين، لا بما تُخَوَّل بقوله، بل بما ترغم على قوله”(30).

وإذا ما أردنا رؤية جانب من آليات هذه السلطة اللغوية، فلقد يكفينا في هذه السطور، قراءة كتاب الذاكرة الجمعية في النص: أقصد كل تلك المحمولات الثقافية، التي حملتها الألفاظ والجمل والتراكيب اللغوية في النص. فلنحاول انتزاع بعض الأمثلة:

4: ج ـ 1: في قول الراوي ـ في المقطع المقتبس: (كنت جثة ممتثلة للنار… قلت أهز رمادي…) لا يمكن للمتلقي الفلسطيني، على وجه الخصوص، أن لا يستحضر عند قراءته هذه الكلمات، صورة طائر الفينيق الأسطوري، الذي كلما احترق انبعث من رماده متجدداً. وإنها لصورة متجذرة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. يدرك ذلك السياسيون، فيكثرون من استحضار لازمتها، كلما أرادوا مداعبة خيال الجماهير، حتى إن بلدية غزة قامت بنصب تمثال للطائر الأسطوري، في أهم ساحة من ساحات المدينة.

4: ج ـ 2: عندما سأل الراوي طيف الشهيد عن ألم الموت: “ولكن آخر مرة كنت قطعاً… حدثني يا رجل”، كان رد الطيف: “لا شيء. وكان ذلك أهون من وخز إبرة”(ص120). ويكفي أن نتذكر حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول فيه :”إن الشهيد لا يجد ألم الموت إلا كما يجد أحدكم ألم الشوكة يشاكها”؛ لندرك سلطة اللغة، باعتبارها حافظة للوعي الجمعي.

4: ج ـ 3: في قول الراوي لطيف الشهيد: “خذني خادماً”، تتبدى لنا سلطة اللغة القاهرة، في أجلى صورها. وإلا فمن من غير المسلمين المؤمنين يرضى ـ بل يطلب ـ أن يكون خادماً للشهيد، جزاء مرافقته في الجنة؟.

ألسنا هنا نرى كيف تتحول اللغة إلى أيديولوجيا؟. وهل هناك أقوى من الأيديولوجيا في سطوتها وسلطتها وإخضاعها كل منطق لمنطقها!. ثم ـ أخيراً ـ أولم يصدق رولان بارت حقاً عندما قال بأن النص:

“هو فضاء متعدد الأبعاد، تتمازج فيه كتابات متعددة، وتتعارض، من غير أن يكون فيها ما هو أكثر من غيره أصالة [أي جمالاً]: النص نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة. إن الكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد فعلاً هو دوماً متقدم عليه، دون أن يكون ذلك الفعل [أي النص السابق] أصلياً على الإطلاق [أي بالضرورة. والعيب من المترجم]”(31).

نتيجة البحث:

لا يمكن للراوي أن يكون موضوعياً في سرده للقصة، بسبب دوافع الذات والأيديولوجيا. وإن أي موضوعية للراوي هي مجرد موضوعية مفتعلة، في أحسن الأحوال. وقد لاحظنا ـ خصوصاً في النص الأول ـ كيف استطاع المؤلف أن يجدل من هذه الافتراضات السردية ضفائر فنية تمزج بين الوطني السياسي والفني الإبداعي.

وقد تميز أسلوب الكاتب بالقدرة على الاقتصاد في الكلمات، من جهة، مع التلاعب بالحركة الزمنية ـ من الجهة الأخرى ـ بطريقة تبين إلى أي مدى يستطيع قاصٌ متميزٌ أن يكثف نصاً سردياً يزدحم بعوالم متعددة متحركة، مع أن الزمن شديد التباطؤ!. الأمر الذي أعطى المسرود دفقاً حيوياً، وأتاح للمتلقي استكشاف جماليات تقنيات السرد المتعددة.

ـــــــــــــ

الإحالات:

1ـ عمر حمش. عودة كنعان (مجموعة قصصية)، ط1، اتحاد الكتاب الفلسطينيين. القدس. 1996. ص11 ــ 14

2ـ إدورارد سعيد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب، ط4، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت. 1995. ص54

3ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. اتحاد الكتاب العرب، دمشق. 2000. ص32

4ـ أ. أ. مندلاو، أ. أ مندلاو. الزمن والرواية. ترجمة بكر عباس. مراجعة إحسان عباس. ط1. دار صادر. بيروت. 1997. ص43 – 44

5ـ تزفيتان تودوروف. اللغة والخطاب الأدبي. ترجمة سعيد الغانمي. ط1. المركز الثقافي العربي. بيروت والدار البيضاء. 1990. ص50

6ـ انظر: ميخائيل باختين. المبدأ الحواري. ترجمة محمد برادة. ط1. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. القاهرة. 1997. ص63 ــ 64

7ـ انظر: بوريس أوسبنسكي. شعرية التأليف. ترجمة سعيد الغانمي وناصر الحلاوي. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 1999. ص69

8ـ انظر: بوريس أوسبنسكي. المصدر السابق. ص59

9ـ عمر حمش. عودة كنعان. المصدر السابق. ص17 ــ 20

10ـ انظر: هومي. ك. بابا. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. ط1. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2004. ص51

11ـ يوزف بيتر شتيرن. حول الأدب والأيديولوجيا. ترجمة باهر الجواهري. فصول (القاهرة). 1985. ع3. ص12

12ـ انظر مثلاً قول: آلان روب جرييه: “من الذي يصف العالم في روايات بلزاك!. من هو ذلك القصاص الواعي دائماً، الحاضر دائماً، الموجود دائماً في كل الأماكن في وقت واحد، هذا الذي يرى في وقت واحد أيضاً وجه الأشياء وظهرها، والذي يتابع دائماً حركات الوجه وحركات الشعور، في نفس الوقت؛ هذا الذي يعرف حاضر وماضي ومستقبل كل مغامرة؟!. هذا لا يمكن أن يكون إلا إلهاً”. آلان روب جرييه. نحو رواية جديدة. ترجمة مصطفي إبراهيم مصطفي. دار المعارف،. القاهرة. دون تاريخ. ص23.

13ـ بوريس أوسبنسكي. المصدر السابق. ص75

14ـ بيرسي لوبوك. صنعة الرواية. ترجمة عبد الستار جواد. منشورات وزارة الثقافة والإعلام. بغداد. 1981. ص225 

15ـ انظر: آلان روب جرييه. المصدر السابق. ص40

16ـ جيرار جينيت. خطاب الحكاية. ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلّي. ط2. المحلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2000. ص41 

17ـ انظر: جرار جينيت. المصدر السابق. ص45

18ـ عمر حمش. عودة كنعان. المصدر السابق. ص56 ــ 60

19ـ انظر: أزولد وتزيفان. الدلالة والمرجع. فصل من كتاب لمجموعة من المؤلفين بعنوان: المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث. ترجمة وتعليق عبد القادر قنيني. أفريقيا الشرق. بيروت والدار البيضاء. 2000. ص25 

20ـ انظر: ياكوب باريون. ما الأيديولوجيا. ترجمة أسعد رزوق. عرض ومناقشة سعيد المصري. فصول (القاهرة). ع3. 1985. ص165 

21ـ انظر: رولان بارت. لذة النص. ترجمة منذر عياشي. ط1. مركز الإنماء الحضاري. حلب. 1992. ص17 

22ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. المصدر السابق. ص123

23ـ انظر: كارل. ج. يونج. علم النفس التحليلي. ترجمة نهاد خياطة. مكتبة الأسرة. القاهرة. 2003. ص103

24ـ سيجموند فرويد. تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان. مراجعة مصطفى زيور. ط5. دار المعارف. القاهرة. دون تاريخ. ص466

25ـ مجموعة من المؤلفين. قصص فلسطينية. ط1. سلسلة إبداعات فلسطينية. غزة. 2003. ص119 ــ 121   

26ـ انظر: فنسنت. ب. ليتش. النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات. ترجمة محمد يحيى. مراجعة وتقديم ماهر شفيق فريد. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2000. ص407 ــ 408

27ـ انظر: ثائر ديب (مترجم) مترجم هومي. ك. بابا. المصدر السابق. ص10 

28ـ إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. المصدر السابق. ص8

29ـ انظر: تيري إيجلتون. الماركسية والنقد الأدبي. ترجمة جابر عصفور. فصول (القاهرة). ع3. 1985. ص27

30ـ رولان بارت. 1986)، درس السيميولوجيا. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. ط2. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. 1986. ص12

31ـ رولان بارت. درس السيميولوجيا. المصدر السابق. ص85

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى