جلجامش ضد جلجامش
ناجح المعموري | رئيس اتحاد أدباء وكُتاب العراق
Almamoory@yahoo.com
ظلت قراءة الملحمة تستهويني وتوفر لي متعة غير متناهية وكثيراً ما تُفعل القراءة بملاحظات جديدة اضفت على الملحمة صفة النص المتحرك باستمرار ، ومستثيرة قدرات القراءة وسلطة التلقي على التعامل معها وكأنها نصاً يقرأ للمرة الاولى ، وعلى الرغم من ان الدراسات النصية تعاملت مع كل النصوص سواسية من حيث امكانات المتلقي في التعامل معها ، لكني أجد بان ملحمة جلجامش نص آخر ، بمعنى اختلافاته العديدة عن النصوص الادبية في قدرته على تحفيز القراءة وتحريكها في آن وتحقيق قدر أكبر من توليد المعنى وانتاج الدلالة واستدرجتني مسرحية جلجامش للشاعر سعدي يوسف ، لانني معني بالملحمة منذ سنوات طويلة وعناية أكثر بما هو جديد في مجالها النقدي او التوظيفي الجديد لها . لان الملحمة نص مغاير وانطوى على التاريخ والاسطورة والثقافة والدين فانه يوفر فرصاً لاعادة إنتاجه والاشتغال عليه من أجل إستيعاب الرؤى والتأويلات عبر صياغته نصاً جديداً ، لان الملحمة والاسطورة مفتوحان من اجل الدخول اليهما واعادة صياغتهما مرة أخرى وجديدة وكل محاولة خاضعة لقدرات كاتبها ووعيه بها وتحديداته المختلفة للمراكز الثقافية او المعرفية في النص الذي توفر على قدرات اثارة من أجل التعاطي معها ، أنطلاقاً من مبدأ وفرته الاسطورة والملحمة ، لذا نجد تنوعاً في رؤية بعض الاساطير لحظة صياغتها مسرحياً ، وتباينت القراءات واعادات الصوغ ، ومسرحية أدويب أكثر النماذج قرباً لنا.
وعلى الرغم من أهمية ملحمة جلجامش باعتبارها نصاً مؤسساً ومتمتعاً بهيمنة بين النصوص الادبية التي انتجتها الحضارات الشرقية واستمرار تأثيره على ما كتب لاحقاً في الملاحم والاساطير والقصائد ونصوص الشعر . والاطلاع على النصوص الشرقية يجعلها واضحة في تجاورها مع ملحمة جلجامش وتحاورها معها والقبول بها نوعاً أدبياً متميزاً . وقراءة ملحمة جلجامش من قبل شاعر مثل سعدي يوسف يتمتع بمستوى أدبي وفني عال ولا أختلاف عليه هي التي حفزته على قراءة الملحمة او اعادة قراءتها ثانية ومن جديد والتعامل معها مسرحياً وحتماً ستكون كتابته الجديدة ذات رؤية مغايرة / ومختلفة والا ما سبب اعادة الكتابة لها . وسعدي يوسف واحد من الشعراء الكبار أولاً وله ما يكفيه مجداً من الارث الابداعي ثانياً . بمعنى هناك ضغط في التواصل الثقافي وتحفيز للتبادل مع الملحمة بوصفها مشروعاً عراقياً وعلينا نحن وظيفة أكبر في قراءة تفاصيلها والحفاظ عليها في حركة الاتصال المستمرة وتوسيع مساحة تلقيها ، من هنا حفزتني الدوافع لقراءة مسرحية ” جلجامش ” لسعدي يوسف والتي لم تكن الاولى في العراق كمحاولة شعرية ، واصدر قبلاً كل من الاستاذ عبد الحق فاضل ملحمة قلقميش وكتبها الشاعر عبد المحسن عقراوي شعراً عمودياً وصاغها ايضاً الشاعر يسري خميس وحتماً هناك محاولات أخرى في هذا المجال . والتنوع في الاهتمام دليل على أهمية هذا النص وقدراته المرّنة في تحريك الاهتمام .
وتأتي محاولة الشاعر سعدي يوسف آخر التجارب في هذا المجال وأنا أعرف جيداً إهتمامات الشاعر بالحضارة العراقية وادابها واهتمامه بها ، وربما هو الاول من بين الادباء العراقيين الذين اهتموا بالاساطير فترجم لها في دراسة مازالت تكتسب أهميتها وهي ” الميثولوجيا الاشورية ” ومعرفته الدقيقة للانظمة الدينية في مراحلها المتنوعة ، وهذا ما كشفت عنه مسرحياته التي تضمنتها ” جنة النسيان ” الصادر عن دار المدى .
وتكون المسرحية المعدة اكثر قرباً من النص الاصلي لوجود تماثلات بين الملحمة والمسرحية ، وهي كثيرة ، ولعل أهم ما يوفره الاعداد المسرحي هو القدرة على إختزال الكثير من النص عبر توصيفات مركزة تختصر وتنفتح على اثارة الاحتمالات وتفعيل التأويل واثارة التوليد. لأن النصوص التوصيفية/ وخصوصاً في المشاهد الاستهلالية تتمتع بامكانات فكرية ، وهي وسيلة الرؤية الاخراجية في التعامل مع العمل ومثال ذلك ” أسوار اوروك . غبش . جلجامش يرتدي ثوباً بسيطاً” .
ينطوي هذا التوصيف المتعالي على مالم يتضمنه النص المعد . لان للشعر امكانات كثيرة وخصوصاً لدى شاعر مثل سعدي . حيث إختصر كثيراً من الواح الملحمة عبر الاستهلال التوصيفي والمتعالي . ولم يكن متعالياً بسبب استهلاليته وانما لانطوائه على طاقة تدليل واضحة ، كاشفة عن الوضع النفسي الخاص بالملك جلجامش . وإختياره اسوار اوروك مكاناً يكفي لايضاح مخاوف الملك / الطاغية بسبب ما اقترفته يداه وهي معروفة ولا ضرورة للاشارة لها ، على الرغم من تلميحات النص لها بشكل سريع وخاطف . مخاوف جلجامش واضحة ، وقلقة ضاغطة عليه . ووجوده عند اسوار اوروك تعبير رمزي كاف للتدليل على مدينة اوروك وتحصيناً من أجل ان تظل مصانة وبعيدة عن تجاوزات الاعداء لان اوروك مثيرة بمجدها وما وصلت اليه ولذا كثيراً ما تعرضت لهجومات المجاورين لها وجلجامش خائف على اوروك لانها مدينته ومملكته وملكه الخاص . وقلق الملوك / الابطال مبعثه سياسي تحوطي او توسعي لكن جلجامش معروفة مخاوفه التي تبدأ بالحراك لحظة الغبش وكما قال جليلبر دوران : السواد مرتبط بالاضطراب والتلوث والضجيج ، وان نسق العواء والصراخ وافواه الظلام مشاكلة للظلام .
كما ان العتمة تضخم وانها صدى للاصوات ولليل رمزية زمنية دالة على الظلمات متشاكلة مع كثير من الرموز الدالة على الشؤم والنحس ، فالظلمات هي دائماً سديم .
وتتكرس في اعماقه ليلاً . انه ملك يحاصره الليل ، لانه – الليل – رمز للثبات / السكون / العالم الاسفل / زمن حركة الشيطان / ووقت مناسب لتسلل الاعداء . وكما قال جليلبر دوران : السواد مرتبط بالاضطراب والتلوث والضجيج ، وان نسق العواء والصراخ وافواه الظلام مشاكلة للظلام .
كما ان العتمة تضخم الضجة وانها صدى للاصوات . والليل رمزية زمنية دالة على الظلمات متشاكلة مع كثير من الرموز الدالة على الشؤم والنحس ، فالظلمات هي دائماً سديم .
كما ان الليل زمن قمري زاحف على الزمن الشمسي المقترن بالحياة وفاعليتها . ويتكرس هذا الموقف واضحاً عندما يكون جلجامش مرتدياً ثوباً بسيطاً والكامن وراء ذلك :
1- تعبير رمزي على قلقه ومخاوفه التي ارتقت الى مرتبة عالية لم تسمح له بارتداء ما يناسب الملوك من ملابس .
2- فراغ اوروك وانعدام الحركة فيها تماماً خوفاً من بطش الملك الطاغية .
3- قصدية الدلالة النصيّة المعبرة عن بساطة الملك وابتعاده عن الترف المظهري- وهذا مخالف لما عرف به جلجامش. لكني ارجح المعنى الرمزي الدال على مخاوفه ، وهو – جلجامش – لم يكن زاهداً باللذائذ ، لان نص سعدي اشار الى اهتماماته باللذائذ والترف
واوروك الاسوار ….
الم ارفعها ، حجراً حجراً ، حتى ائتلفت احجاري
كالازهار
قدت جيوشاً
وبنيت قصوراً
وحصوناً
ورفعت ، بأجري ، معبد عشتار …
ويبدأ جلجامش صوتاً مفتتحاً المسرحية للاشارة الى مركزيته في النص اولاً والحياة في اوروك ايضاً . فيقول:
هذا ليل اخر يمضي
تعبير النص منطو على ما اشرنا له من مخاوف وهواجس مثارها السلطة وآلية الحفاظ عليها . انه بحاجة الى سلطة اجتما – سياسية غير تلك التي فوضته بالملوكية ومكانها السماء واعني بها الالهة وحصر الاله انليل
ليل آخر يمضي والملك هو الملك على حالته :
لكني ، وانا نصف المدفون بأرضي
سأظل ، وحيداً انتظر الليل الاتي
بهواجسه
ونواياه
بسحائبه
ورؤاه
إحساس بالتعطل الكامل والانكماش في حياة هامشية . ضاغطة عليه ومعطلة لقدراته وكأنه جلجامش اخر ، مختلف . ويبدو انه مكون من تشكلات متنوعة ، عديدة ، النص المسرحي كاشف عنها ، حتى تبّدت ملامح شخصيته متناقضة ومتعارضة بعضها مع الاخر . والليل ملاحق له وطارداً لولا اسوار اوروك وسيلة الملك الوحيدة لتقليل مخاوفه لحظة رؤيتها او وجوده قريباً منها ، لانها
– الاسوار – رمز كاف لتبديات قدراته الحضارية والعسكرية وكاشف عن بعض من احلامه .
واكتفت المسرحية في مشهدية الاستهلال بمحاصرة الملك الجبار / الطاغية / العنف بالليل فقط وما ينطوي عليه من رؤى ، لان الليل لا يحمل معه الا الهواجس / الخوف / القلق ويطلق الملك صرخته :
لم يتبق لدى سوى الليل ، الليل ، الليل
انه محكوم بالثابث والسكون ، ومعطل تماماً وهو الملك الذي عرف ما موجودة في الارض وما في تخومها . ” فماذا تحمل لي الايام ؟”
يلاحظ بان الاستهلال النصي مركز ومكتف بما توفر لدى الشاعر لاختصار الكثير من اجل عرض اكثر العقد النصية اثارة للجدل والاختلاف في اختيار آلية للتعبير عنها حيث اصبحت شخصية الملك امام المتلقي واضحة ومكشوفة عبر تناقضاتها وشكل الاستهلال بؤرة التصاعد الاولى . واضاء لنا اهم الجوانب في شخصية جلجامش المتناقضة والاشكالية ايضاً ، مثلما رسم لنا توصيفاً مهما عن الملك ومستوى طغيانه وسعيه للتوسع الرمزي
” لكني ، وانا نصف المدفون بأرضي ”
ويعني النص ” بأرضي ” ما تأكد لاحقاً في حوار الملك عن تجربته وخبرته ومعارفه ألم ار ما في الارض / وما في كل تخوم الارض /
انها ملكه وثروته،وهي دلالة على نرجيسته لان الدكتاتور، أي منهم مصاب بهذا المرض ويتضح انحياز النص في رسم الحدود الاطارية لشخصية جلجامش متتبعاً ما اشارت له المدونات المعدة عنه ، حيث اتفق الجميع على قوة الملك وبطولته وتطرف الشاعر سعدي يوسف اكثر من الذين سبقوا
او لم اقتل بيدي ، يدي العاريتين ، اسود الغاب
وثيران النار
وقع الشاعر سعدي يوسف بما وقع به غيره من الذين استنسخوا شخصية جلجامش او كتبوا عنه ، عندما توارثوا الاقرار ببطولته وهو ملك ضعيف [هذا ما توصلت له في دراسة ستصدر عن دار الندى] واضفى النص المسرحي عليه خصائص اسطورية ، منها تمكنه من قتل اسود الغاب بيديه العاريتين كذلك ثيران النار ومن حق القراءة ان تنتج ما تؤمن به او ما تراه ممكناً في النص وما توفره الشخصية من امكانات الاضافة في نص اخر جديد . لذا تحول الثور السماوي / السحري / الى ثيران من النار وتفاصيل النص الملحمي الاصلي يكشف بوضوح بأن جلجامش لم يكن مثلما أشار له اللوح الاول وهذا ما تثيره مسرحية سعدي يوسف :
ورفعت ، بآجري ، معبد عشتار …
وماذا ؟
جلجامش أقوى
كيف؟
وهذا ليل آخر يمضي
ويجيب الملك عن تساؤله العام بانه الاقوى ويردفه بتساؤل يريد اجابة كشف واعلان ويمضي بعد الـ ” كيف ” الاخيرة الى الاعلان عن ” ليل آخر يمضي ” وهو اعلان جديد يفضي لتأكيد ما ذهبنا اليه من تأويل عن الحالة النفسية المضطربة والقلقة التي كان يعيشها الملك / الطاغية ، ومعروف بان الطغاة يبدون قساة واقوياء عبر وظائفهم ، لكنهم في حفيفة مكوناتهم ضعفاء ، وجبناء ايضاً . وقد ألح الشاعر سعدي يوسف على هذه الثيمة السريعة لكنها مركزية في النص لانها ذات طاقة دلالية عالية ” وانا ” انتظر الليل الاتي ” هذا ما قاله الملك وهو يعيش ليلاً ويتوقع مجيء اخر وهكذا ، نجده مشدوداً بلحظة الليل وما تنطوي عليه من معنى رمزي / متنوع ، اراده الشاعر مركزاً يقود الافضاء الذي يريده في الكتابة الجديدة للملحمة . مركز يقود القراءة والكتابة نحو ما اتفقت حوله كل الكتابات السابقة ولم يكن المركز / الليل / التعبير الرمزي مستمراً بهيمنته المكرسة وانما انحل وتميز العمل بالتماثل العام والمغايرة فتفاصيل بسيطة لكنها دلالياً مهمة وهذا ما سنحاوله في التأويل الذي اضاء لنا الملك ضد الملك
جلجامش اقوى ؟
حقاً ! لكني بين الضعفاء
ان كنت الاقوى ، فلأكن الاقوى بين الاكفاء ..
قادة جيش يرتعدون اذا جئت
فهل قادة جيش الاعداء ؟
وبتتالي الحوار الذاتي / المنلوج يكرس نص سعدي يوسف سيرة ملكية واعتقد بانه اخترق نمطية التبادل الحواري المألوف في النص والنصوص الاخرى.
يجيب وتستدعي اجابته اسئلة اكثر اثارة للتأويل والكشف . فهو الاقوى بين الضعفاء وبين قادة جنده . انهم مذعورون ، خائفون منه ، وهذا غير كاف لتوصيفه بالقوي وبنية التضاد كامنة وواضحة وجعلت من جلجامش ضداً لجلجامش . وانا واثق بان سعدي يوسف لم يطلع على الاساطير التي شكلت المراكز النصية الاساسية التي تم الاعتماد عليها اعادة انتاجها نصاً ملحمياً وهو الموجود الان في التداول .. البنية الذهنية الاكدية في مرحلة استقرار دويلات المدن فيها ومن بعد دمجها وتوسعاتها الامبراطورية في زمن سرجون الاكدي شعرت بحاجة الى بطل قومي ، لذا استعارت جلجامش واضفت عليه ما تريد من صفات لقادتها وانموذجهم سرجون فكان جلجامش الذي هو اضعف مما نتصوره في النصوص السومرية . وقراءة الاساطير الخمس ضرورية لمن يريد قراءة الملحمة من اجل اتضاح القلب والتغيير والكشف عن خصائص الشخوص الصاعدة الى الملحمة والفوارق في النصوص .
والفتيات المذعورات يمتن / اذا هجست خطواتي في الساحة .. / والشبان يفرون الى القصباء ، / فأي وباء أحمله ؟ / أي وباء ؟ /
في النص إضافة واضحة على اصل الملحمة في بعض منه واهم ما فيه صراحة الملك بوبائيته الكاشفة للتناقض الواضح في شخصية جلجامش ، ولعل أهم انفتاحه في المسرحية هي التمثيل الواضح الجامع بين ننسون والبغي مع الالهة عشتار انطلاقاً من وعي الشاعر بوجود النسق العشتاري المعروف بوظائفه الليلية الخاصة بالرغبات وممارسة المتع اللّذية والشهوية ، لذا برز دور هذا النظام في الملحمة وايضاً في النص المسرحي واعتقد بان توصل الشاعر يمثل معرفة مهمة بالعناصر المكونة للالهة عشتار وادراك لخصائصها المتبدّية بالوظائف الليلية .
“وتظهر قامة ننسون ، وهي تشبه عشتار .. وترتدي ثوباً بسيطاً ” و ” البغي تدخل . تشبه عشتار تماماً ”
التماهي بين ننسون وعشتار واضح في حكمتهاوقدرتها اللاهوتية العالية وخصوصاً في تفسير احلام الملك . وتميزت ننسون بعناصرها الاساسية في الملحمة ، لكن الشاعر اعتمد على حلمين فقط لانهما بالنسبة للمسرحية اكثر علاقة مع ما اختاره الشاعر لاعادة الكتابة . لكنها – ننسون – مختلفة عن الذي عرفت به من اهتمام بشكلها وولع بالتزيين والبهرجة ويبدو بان الشاعر وجد بين الاثنين جلجامش والام في حجاب الجسد اشارة الى الوضع العام النفسي / والسياسي الموحد بينهما ، لان ننسون لم تكن في عزلة عن ابنها .
واذ ذاك دخلت ننسون حجرتها / وارتدت حلة تليق بجسمها / وأزينت بحلى تليق بصدرها / ووضعت على رأسها تاجها / الملحمة ص 102 .
وواضح بان الزي جزء حيوي من شخصية الملك وامه في النص الملحمي ، لكن الشاعر سعدي تخلص منه ليحقق معنى جديداً بالنسبة للملك ، وهو مختلف . وكأن الشاعر استفاد من التطورات اللاحقة في شخصيته وخصوصاً بعد اغتيال انكيدو وبدا وسخاً واشعث الشعر . لانه اراد ذلك في بداية مسرحيته للوظيفة الاساسية التي حاول الاقتراب منها .
لكن البغي صرحت بوظيفتها العشتارية :
سادتي
للمفاتن فطنتها
وانا امرأة
ومقدسة مثلما تعرفون ، بمعبد عشتار ايضاً
اذن ، انا اؤمن بالحب
بامرأة تصنع الحب
اني وعشتار واحدة
نحن في معبد واحد
المسرحية ص 96-97
كاشف هذا النص كاشف بوضوح عن السيادة الامومية ، وهيمنة ثقافتها كسلطة متمركزة في مدينة اوروك ، هذه السيادة هي المستخدمة اولاً واخيراً في الملحمة لكنها ظلت في الداخل وغيبتها القراءات تماماً ولم تنتبه لها وتعاملت الملحمة باعتبارها نصاً أدبياً اهتم بقضية شغلت الانسان وهي قضية الموت والموقف منه وكانما هذا الاشكال الحياتي والفكري قضية خاصة بالبنية الذهنية العراقية ، بينما هي غيرذلك ، حيث اهتمت بها كل شعوب العالم والصراع في الملحمة هو لحظة إحتدام التناقضات في البنية الذهنية العراقية وانهيار سلطة الام الكبرى واعتلاء الرجل لمراكزها . وما قالته البغي اعتراف واضح بالطاقة التي يتمتع بها الجسد الانثوي وقدراته في تغيير كثير من الموازين، حتى الثقافية والتكوينية ومثلما حصل مع انكيدو حيث كان الجنس ولا يزال كما قال د. يوسف حوراني هو الطريق الامثل للتعبير عن علاقة الانسان بالمطلق والالوهة ، فهو أوسع نافذة يطل منها الانسان على بعده الكوني خلال قابليته لاستيعاب الحنين الى الاكتمال والاستمرار …
ان ممارسة الجنس هي تحقيق لنمو ” الانا ” والامتناع من الممارسة وقهر الرغبة في ذلك يعنيان التخلي والتنازل من قبل الفرد . ولهذا أحس الانسان ان أهم ما يمكن ان يقدمه كتضحية في سبيل الالوهة هو الخيس ورغباته والامنيات فيه ومنه .
وحسمت كاهنة الرغبات الموقف عن وظيفتها الدينية المقدسة لدرجة انها تماهت تمامامع الالهة عشتار وكانت ديانتها الحب وتفعيل الجسد من أجل الخصب والحفاظ على الحياة . لقد تماثلت مع عشتار لانهما متساويتان بالعناصر والوظائف لذا تمكنت البغي من انكيدو واعادت صياغة عناصره وحصل التحول من الحيواني الى الانساني . وهنا تُحقق الوظيفة الدينية المقدسة للجنس.
هدهدته ، وهو يرقد مسترخياً
ثم ضمخته بالعطور
وبالزيت مسدت أحلى الجدائل
أطعمته خبزتي
وساقيته خمرتي
ثم أغفى …
وحين استفاق رأيت فتى الحسن
ظلت المسرحية متماثلة مع النص الملحمي بعد إنتصار الثقافة الامومية اعتماداً على جسد الكاهنة / البغي في تحويل انكيدو الى المجال البشري . ولم يقدم الشاعر سعدي يوسف شيئاً جوهرياً مختلفاً عن النص الملحمي ، بل ظل أميناً ، وحريصاً عليه وكانت محاولاته محكومة بالنقل المختصر للاحداث والاكتفاء بالصوغ الشعري وإختزال تعدد الاصوات .
ولم يحاول الشاعر إختراق الاصل برؤيا جديدة ، تفتح فرصة للقراءة والتأويل ، باستثناء ما أشرنا له في البداية واعني بها تكثيف الاشارات الدالة على قلقه ووضعه النفسي وما استدعت من علاقات مساعدة على ذلك مثل ارتداء جلجامش لثوب بسيط وهذا التكثيف هو الذي جعل جلجامش ضد جلجامش لان سعدي يوسف لم يعمق المغايرة الكامنة في مشهدية الاستهلال ، بل خضع لنمطية عناصر النص الملحمي وفي مثل هذا ما هي الضرورة التي استدعت اعادة انتاج الملحمة ؟
………
تضمنت جنة النسيان جـ3 من المجموعة الكاملة للشاعر سعدي يوسف ثلاثة نصوص هي ملحمة الخليقة البابلية + نزول عشتار الى العالم الاسفل + جلجامش باعتبارها مسرحية واحدة . وانا اعتقد بان توحيدها معاً ينطوي على اشكالات فنية وفكرية . لذا قرأت جلجامش بوصفه نصاً مسرحياً وليس قسماً ثالثاً من نص واحد .