جينات الوطن في حاجز قلنديا     

توفيق أبو شومر | غزة – فلسطين

لا أحد يُصدق بأن المسافة بين بيتي، وبين بيتي الثاني الذي يسكنه ربعي وأهلي تحتاج إلى تنسيق أمني، وإلى لجانٍ طبية، وأوراق حجزٍ في المستشفى، ويحتاج اسمي في ملفات التنسيق الأمني الإسرائيلي إلى غربلةٍ طويلة، تستغرق شهرا قمريا ، ويحتاج جسدي إلى كاميرات تصوير وإلى أجهزة إلكترونية متقدمة ،يمكنها أن تُجريَ مسحا شاملا لكل ثقبٍ فيه، خشية أن تحتوى تضاريس جسدي رائحة البارود والمتفجرات.

وأخيرا مَنّ عَليَّ مسؤولو التنسيق ووافقوا أن أعبر المسافة الواقعة بين بيتي ومسقط رأسي عبورا سريعا محسوبا بالساعات، لأنني مريض أحتاج إلى عملية جراحية! أعدتُ النظر إلى التصريح الممنوح لي لقد كان الوقت محددا بالساعات وليس بالأيام، فهو ينتهي  قبل حلول المساء.

 لم تَحُل الساعاتُ القليلةُ بيني وبين استنشاق عبير هواء سرير ولادتي المعلبِ فيَّ منذ خمسة وستين عاما، والذي أطلق رائحته فورا عندما امتزج بعبير بيت جدي!

ابتلعتُ جرعاتٍ زائدةً من هواء مهدي وغرفة ولادتي الطينية، التي كانت تقع بين بيتي وبساتين أرضي،.

من قال إن البيوت والبساتين تتغير بالاحتلال وتندثر بالجرافات، فللبيوت جذور لا تذبل ولا تموت، لأنها تتغذي بدم القلب، وتورق في شرايين الدم، وتثمر في اللحم والعظم.

عندما سكنني هواء مهدي الأول، أحسستُ بحدة إبصاري، فرأيت بيتي الذي بناه جدي الطيني ما يزال يعترض طريق السيارة التي أستقلها،  كان بيت سريري الأول يتمدد في  منتصف الطريق الواسع ، يرفض أن يعود إلى مكانه من جديد، فقد عثر أخيرا على مالكه الحقيقي.

لم يُفلح مكياج الاحتلال، في محو آثار أقدامي على ثرى بستاني، كنتُ أشعر بدغدغة الحصي أسفل قدميّ، فأتقلص وأرتعش، بعد أن توحدتُ بسرير مهدي الأول.

عادت قدمايَ تجوسان في بستان أبي وجدي، تطآن الثرى، تضعان بصمتهما على المكان، وتتركان علاماتٍ في المكان فوق بقايا جذور النعنع والسريس والزعتر والمرميه، والنجيل والسعدة.

كان سائقُ السيارة معجبا بالنظافة والنظام وجمال أبنية المحتلين، أما أنا فقد كنتُ مسكونا بعطر نعنع قريتي، وأريج برتقالها، كنتُ أبحثُ فيَّ عنها، فأجدني إياها، تسكنني وشما أزليا، كنتُ أسمعُ بوضوح زقزقةَ عصافير لوز بستاننا الغربي، واسمع حتى وقع سقوط حبات التين والجميز على كتفيّ، فهانا قد توحدتُ في البستان، وتوحَّد فيَّ، عدتُ إلى سرير مهدي رضيعا، امتصُّ ثدي جذور البرتقال والعنب من جديد!

كنتُ مشغولا بمتابعة عصفوري الذي بُعثُ فيَّ للتو، وهو العصفور ذاته الذي تسرب من شق باب بيتي جدي، وهو يحمل في منقاره كومة من قش النخل ليبني عشه في زاوية من السقف.

مَنْ أعادَ إليَّ قريتي وبيتي من جديد؟

 أهو التنسيقُ الأمني؟ أم هو الطبيب الذي أوصى بأن علاجي الوحيد لا يكون إلا إذا مررتُ في الطريق الموصل من بيتي إلى مهدي الأول؟

أم أنه الجندي المحتل الذي نصب في الطريق الموصل من بيتي إلى بيتي كاميرات التصوير والأسلاك الشائكة، والبوابات الآلية؟

أم أنه سائق السيارة الذي كان يسرد أسماء قرانا الأولى، كمحفوظة مدرسية مكررة ليتمكن من النجاح في امتحان ذكرى الاغتصاب والاحتلال، ليفوز في النهاية بقوت يومه؟

 أم أن مَن أعادني إلى مهدي الأول، هو بيت جدي وسريرُ مهدي، وموقد جدتي، وبقايا شعر والدتي، وخصلات ضفائر أختي التي تغلِّفُ بابَ غرفة سرير نومي ، ومصحان قهوة والدي، وطاحونة عمتي، ونصل طورية خالي؟

هل نجح المحتلون في إقصاء بيتي عني؟ هل نجحوا في طمس معالمه بإجراءاتهم القمعية في الدخول والخروج، وهل تمكنوا من محو خريطة بيتي من ذاكرتي بالحواجز المملوءة برائحة السلاح والبارود، وبتفاصيل الإذلال والاضطهاد؟

وهل يمكن لحاجز قلنديا أن يجعل المسافة بين بيتي وبيت أسرتي،أبعد من المسافة بين قارتين؟

وهل قضائي أكثر من أربع ساعات محدقا في الأسلاك الشائكة ومسارب الإذلال في حاجز قلنديا، لأستلم فقط تصريح المرور من بيتي الثاني إلى منزلي الأول، وخلعي ملابسي وألصاق هويتي على الزجاج البعيد لتراه المجندةُ، حتى لا تلمس هويتي الملوثة برائحة بيتي ، وبقايا سماد تربة أرضي العالقة فيَّ من يوم ولادتي جسدها وثيابها؟

هل كل هذه الإجراءات كفيلة بإزالة خريطة بيتي من مساحة ذاكرتي؟

 وهل أفلح تجار الرقيق في حاجز قلنديا في استئصال جذور الوطن من تفاصيل جسدي وقسمات وجهي ؟

إن حراس سوق الرقيق في المعابر والحواجز الثابتة والمتنقلة، وقائدي طائرات الاستطلاع، وجنود المظلات وسائقي الدبابات، وقناصي العيون والأجساد، لا يعرفون بأن جينات الوطن نُطَفٌ وبذورٌ أزلية، لا تندثر بفناء الأجساد، بل تنتقل من   جينة فلسطينية، إلى جينة فلسطينية أخرى عبر الهواء، يحملها الأثير  فوق الحواجز والجدران، فهي تُلغي مفعول  رائحة البارود والدخان والفسفور الحارق ، فهي تتسامى فوق الحواجز، تتشابك وتتمازج وتتزاوج وتتلاقح وتتناسل جيلا بعد جيل بحجم مساحة الوطن، إلى آخر نطفة فلسطينية!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى