قراءة نقدية في نصوص الشاعرة المصرية عفت بركات

عمارة إبراهيم | شاعر وناقد مصري

و” اليوم عاد كأنَّ شيئًا لم يكن .. “^

مدينتي : 

تركنُ لنومٍ طويلٍ  ،

أبوابُّها الموصدةُ تصحبها 

لعالمٍ أصمَّ ودماءٍ باردةٍ  ،

تسير بظهرِها للبحرِ ،

تخافُ بَلَلا لروحٍ ..

آنَ لها الابتهاج  ،

تُحيلني لماضٍ أليمٍ  ،

لطفلةٍ فارقتني بعنفٍ  ،

ولم أستطعْ  نسيان  .

           ،،،

الشاعرة مرت عبر تجربتها الشعرية التي بدأت بكتابة القصيدة  العمودية ،ثم تطورت إلي كتابة قصيدة التفعيلة، ثم اتجهت مؤخرا إلي كتابة الشعرية ذات الفضاءات الواسعة التي لاتتكئ علي رسم الأشكال الشعرية “متي تكتب عموديا ومتي تكتب تفعيلة ومتي تكتب شعرا حرا” ومارست كتابة الشعر بتقنية الأحوال التي تنسجم مع أدوات بنائها،لتترك لحركية الأفعال إدارة اللغة وإيقاعها وضروراتها الجمالية التي تشبعت من ثقافتها وثقافة بيئتها وتحدد إيقاعها من خلال أنساق الأحوال العامة في البناء العام دون اللجوء إلي عصفية الذهن التي تسعي إلي إيقاع منظم لا يتوافق مع تدفق الأفعال التي ترسم مجمل بناء الأحوال ودوالها.

وتتميز عفت بركات في تجربتها بالاتكاء علي الهم الإنساني؛ العام والخاص وهي لا تتبني طلوعا خاصا موجها، يحدد ماهية دوافع الذات الأنثي في سياق محدد لها مثل الاتكاء علي عاطفة المادة التي تتميز بها الأنثي في معظم الأحيان وتظهر في كتبات نثرلا تملك أدوات الشعرية من قريب أو بعيد ،ليكون الاتكاء هنا علي تفاصيل إثارة الجسد برسم عوالمه المادية في كثير من الكتابات التي نقرأها عند ما يسمون أنفسهن شواعر ، بل ارتكاز التجربة عندها يتكامل في نسبيته الخاصة مع القضايا العامة التي تتحد عند كل معايشة لها مع الأحوال التي تميل نحو الانصهار في بوتقة ثقافة البيئة التي تقيم فيها لترسخ قيم ثقافتها وعقيدتها الشعرية في المجمل وفق هذا التأثر التي بدت عليه الشارة في معظم أعمالها الشعرية.

لتتحد كل هذه العوالم في معايشة خاصة في البناء العام للنص الشعري الذي ينسجم مع الأحوال في طريقة التراكيب التي تعتمد علي لغة تتناسب وتنسجم عبر حركية الأفعال الدالة عبر دفقات أحوالها لتبرز كتابة جديدة ومغايرة عن الكتابةالتي تحددها  ذهنية تنتج تنظيما لغويا يؤسس منتجه الجمالي علي الإيقاع الخليلي علي حساب الشعرية الحقيقية التي تخرج عبر مسارات الشعور والاحساس والمعايشةبعيدة عن  تابوهات خاصة وفق معايير الذهنية التي لا تميل نحو ضرورات الشعرية الواقعية التي تعتمد ليها الحداثة وتطورها بل ترتكن إلي  كتابة لا تمثل مسارات جمالية أخري يسعي إليها الشاعر الذي يبحث عن نفسه في كتابة مختلفة تحمل له الخصوصية ولا تقلد غيرها من الكتابات الشعرية التي وقفت عند حدود ما قدمت لمشاهير الشعراء عبر تاريخ الشعر الطويل الذي توقف عند شوقي والقليل معه من جيله غير أن المسارات  الشعرية الجديدة وتطورها ترتبط ارتباطا توافقيا في قضاياالإنسان عبر البيئة البشرية التي خرجت عن مألوف التنوع إلي بيئة واحدة تجمع عناصرها العامة  والخاصة التي ترتبط بقيمة الإنسان ومجمل قضاياة العامة والخاصة.

هكذا بدت لي تجربة عفت بركات بواقعها ،لترسم معالم فضاءاتها الجمالية المتعددة عبر تقنية التحديث الذي يتوافق مع التطور الحياتي ، رغم أن التجربة هي تجربة الذات الأنثي التي تتناول قضاياها الخاصة أو العامة لكن في سياق فني لا يمثل فهما عاما يرتكز علي تقريرية الذات في خصوصيتها مثلا، كما إنها لا تنحاز إلي التصنيفات أو إلي الكتابة  التي تنحاز لأيديولوجيات محددة أو سياق المنابرالتي لا تقف عند فن الكتابة الحقيقي بل أصوات تعتمد علي المنبرية والإيقاع المرتب ذهنيا. تقول عفت بركات في مقطع من قصيدتها ” إلي أسطورة”، من ديوان “كما يليق بملكة “.

أيُّهَا العَاصِفُ : 

دعْ  كلَّ النِساءِ اللَواتِي 

تيمَّمَن  بِك 

واصغْ لِفرَاشَاتٍ تتبَعُنِي ،

اليومُ : 

أتَزيَّا أبهَى سمَاوَاتِي

أُصفِفُ أقمَارًا على جَسَدي ،

وأحتفِي بِميلادِكَ وحدِي ،

تستخدم الشاعرة أسلوبا مباشرا لكنه يرسم معالم الفوران الشعري الذي ينسجم مع رتب الخطاب الشعري هنا لتغلف نزعة نداء المخاطب من التحديد للضمير أو الاسم المخاطب بل منحته صفة “العاصف”، الذي يتوافق مع كينونة وسمو “الملكة” بالإشارة إلي عنوان الديوان ” وكما يليق بملكة “بنزعة الذات المؤنسة وهي ترسم حدودا وأيضا فضاءات لها رغم وصفها  للمخاطب بالعاصف، ثم تتوغل في مدارات أحوالها لتعانق شعريتها فعل الأمر “اصغ ” لفراشات تتبعني اليوم قبل أن تلتحفني تيارات عصفك وموج بحرك؛  لتعود إلي ضمير المتكلم بفعل المضارع “أتزيا” أي ترتدي أبهي سماواتها وكأن الملكة التي تتوج علي عرش جمالها تملك فضاءات السموات وجمال طبيعتها بمدارات أقمارها لتحتفي بميلاده وحدها. ورغم أن الكتابة الجديدة ترسمها بنية الأحوال ذات الدفقة الواحدة أو أكثر ، لكنها  تتميز بوحدة موضوعها رغم تعدد فضاءات الصور الشعرية كما أن الإيقاع  العام  بتواتره اللغوية والحالية يكون في تجانس وتناغم هذه الوحدة العامة . تقول عفت في قصيدة “تنهيدات مؤجلة” من ديوان “أوطان تشبهني”.

للطفولةِ : أن تمرَّ من هنا ، 

تصطحبُ جنِّيةَ المتوسط ..

بخصلاتٍ كستنائيةٍ ،

وعينين تعبَّد فيهما الرُّوميُّ 

هاتفًا :” لا تنخدع بجمالي

نورُ وجهك يأتي من ضوءِ روحي ” *

سيتمدَّدُ كورنيش اللسان 

من صهدِ تنهُداتٍ مُؤجَّلةٍ ،

ويهيجُ الزَّبدُ عازفًا للصخور

” ضوءَ القمرِ” * ؛

لتغني أسمهان معلنهً 

مقاماتٍ أخرى للغزلِ ،

تستعيد الشاعرة ذكريات الطفولة حيث بدأت نشأتها في مدينة ساحلية تقع علي شاطئ البحر المتوسط. كانت تتخيل أنثي البحر”جنية  البحر” بخصلاتها الكستنائية، وعينين تلاحقان من دون مكاشفة ثم تعود إلي رتب خطاب الملكة المتوجة بجمال هو من ضوء روحه مستسلمة للحظتها ولكشف حقيقة هذا النور والجمال وهما يتوجانها ملكة ،غير أنها الان تبوح بوهج هذا الحب النوراني فتستخدم ضمير المخاطب لتؤكد أن جمالها الذي يشاهده هو من نور وجهه الذي يحط ويذوب في روحها العاشقة.  ربما يتمدد منها اللسان حتي يصبح كورنيش هذا الحب ومن صهد تنهدات كانت مؤجلة حتي يهيج الزبد عازفا للصخور ضوء القمر.

الشاعرة هنا تبدع في رسم صورة الذكريات التي اعتنقت حقيقة معايشتها في صور شعرية تشي بأفعالها من حدود الواقع  لكن بضفيرة الشعر في بنائه المتطور فكيف تجعل من اللسان كورنيش النيل يتمدد من صهد تنهدات كانت مؤجلة؟ وكيف رسمت لنا هذه اللحظة المرئية وكأننا نشاهدها الآن بصورة رغوة الموج الهادر وهو يرتطم عازفا للصخور ضوء القمر.

وتستمر الشاعرة في رسم عوالمها الخاصة بلغة واقعها وأحوالها مستخدمة مفردات تتوافق مع انسجام بنية الأفعال التي توغلت في تجربتها الشعرية من طقوس الشاعرة لم تخرج عن حدود بيئتها وثقافتها لتستفيد حتي بمفردات هذا الواقع الانساني مثل مفردات ـ البحر،الكورنيش،الموج ، الصخر،ضوء القمرـ  كما أن أثر الطفولة وعايشتها لهذا الأثر كان له الدور البارز في تجربة عفت بركات، كما أن الإيقاع هنا ارتكن علي نغمية حركية الافعال الدالة وهي منتج معايشة أحوال الكتابة عبر معايشة حقيقية فارت وأنتجت هذه التجربة التي تستحق الوقوف عندها للتأمل العلمي الذي نؤكده بأن تجربة عفت بركات الشعرية هي تجربة فن الشعر الحقيقي الذي لم يقف عند التقليد أو النسخ مثل الكثير من المدعين في كتابة الشعر في مراحل كتابته القديمة أو الجديدة،فهي لا تنتمي لشاعر أو شكل بل قامت باعتناق مذهبية التطور في البناء وفي الأحوال وفي اللغة وفي التشكيل لتتفرد بصورة شعرية تنسجم كليا مع معطيات أدواتها وأحوال كتابتها.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. وافر شكري للمبدع د.ناصر أبو عون وفريق العمل
    الحقيقة جريدة تهتم بمستجدات الثقافة والإبداع والنقد،لتمثل منبرا ثقافيا عربيا مهما.
    محبتي
    عمارة إبراهيم

  2. شكرا جزيلا جريدة عالم الثقافة ممتنة لك دكتور ناصر ابو عون وكل المسؤلين عن هذا الجهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى