مقال

إلى المعلم في يوم المعلم

رضا راشد| كاتب مصري
قرأت أن يوم الخامس من أكتوبر من كل عام هو يوم المعلم، وبغض النظر عن السؤالات التي تتداعى على الذهن كثيرا من كل صوب وحدب من مثل: من الذي جعل هذا اليوم هو يومَ المعلم؟ وما المناسبة التي من أجلها جُعِل هذا اليومَ يومَ المعلم؟ وهل تلك المناسبة تتعلق بحدث خاص بنا(نحن المسلمين أو العرب) أوبحدث يتعلق بغيرنا ؟! فإن الوقوف مع هذه السؤالات الآن لن يجدي كثيرا لأننا غرقنا في وحل التبعية منذ زمان طويل.

أقول: بعيدا عن طريق طرح هذه السؤالات فقد رأيت أن أنتهز هذه الفرصة لأسجل هذه الخواطر التي جاش بها قلبي؛ رسالةً أوجهها إلى أخي المعلم في يومه.

وإنني إذ أوجه هذه الرسالة إلى أخي المعلم لا ألقيها عليه من برج عاجي، وإنما نصيحة أنصح بها نفسي أولا وإخواني ثانيا؛ نصيحة تنبع ممن هو في الحقل التعليمي نفسه، يصطلى بنارها، ويعانى مشقتها، ومع ذلك يعد عمله في هذه المهمة شرفا لا يدانيه شرف، ونعمةً لا يستطيع أن يكافئها شكرا لله عز وجل .

أخي المعلم
إياك ثم إياك أن تجعل ما تأخذه من دراهم معدودة ثمنا لما ينبغي أن تلقيه على مسامع طلابك من علم وحكمة وعظة وتربية؛ فإنك أن فعلت ذلك – ولك بعض العذر – فقد أرخصت نفسك وأنزلتها من علياء مجدها إلى حضيض التدني.، وإنما يغنيك عن ذلك أن تجعل من مهمتك التعليمية والتربوية رسالة احتساب لا وظيفة اكتساب؛ فإنك إن تجعل التعليم رسالةً يَهُن عليك ما تلقاه فيها من مشقات ويرخص لديك ما تعطيه لطلابك، ولا تُلْقِ بالًا لقلة ما تناله لقاء كثرة ما تعطيه، بل سيكون لسانُ حالك حينئذ لسانَ مقال الأنبياء والمرسلين حين كان يقول أحدهم (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) .

أخي المعلم
اعلم أن الله استودعك من طلابك عقولهم وقلوبهم معا، فعليك أن تَغْذَوَ عقولهم علما وقلوبهم تربية وخلقا. وأنك إن تفعل ذلك – ونِعِمَّا هو – فقد اتخذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معلما مربيا كما قال الله تعالى :(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).

أخي المعلم :
احرص على أن تجعل ما يجري على لسانك من كلمات تتلقفه آذان طلابك – صدقةً جاريةً يجري عليك خيرها بعد موتك؛ فهذه إحدى ثلاث لا ينقطع منها عمل المرء بعد موته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..أو علم ينتفع به”.

أخي المعلم
احرص على ان تستقبل حصتك الأخيرة في عمرك الوظيفي (إن كنت شارفت على الستين من عمرك) كما استقبلت حصتك الأولى يوم أن كنت شابا فتيا في العشرينيات من عمرك .استقبل حصتك الأخيرة كما استقبلت حصتك الأولى:( حيوية، ونشاطا، ومحبة، وإقبالا )، وإياك أن يعتريك الملل أو ينتابك السأم (متحججا بأنك كثيرا ما شرحت فلا ضير إن استرحتُ الحصة الأخيرة) ؛ لأنك لا تدري لعل الحصة التي ستدخلك الجنة لم تؤدها بعد، ولعلها تكون هي الحصة الأخيرة، فلا تضيع جهدك الماضي بتقصيرك الآني، واعلم أن الأعمال بالخواتيم.

أخي المعلم
احرص على أن لا تفرغ جعبتك من جديد تقدمه لطلابك كل يوم، وذلك بالقراءة الدائمة المتجددة في مجال تخصصك وفي غيره؛ لأن هذه القراءة هي التي تزودك بما ستقوله لطلابك. فقديما قالوا:( اقرا تقل، فإنما الكلام من الكلام) اي أن الكلام الذي ستقوله إنما هو مستولد من الكلام الذي قرأته. وإن أنت لم تقرأ كل يوم جديدا فستفرغ جربتك وستجدك تردد اليوم ما قلته أمس، وتكرر غدا ما قلته اليوم، وسيكون حديثك لطلابك مملا وعليهم ثقيلا، وسيضطرون إلى الانصراف عنك بآذانهم وقلوبهم، وإن أرغمتهم الحصة على الحضور بأجسادهم؛ فلكأنهم حين فضورهم خشب مسندة: لا يحضرونك قلبا ولا يصغون لك سمعا.

أخي المعلم
اعلم أنك إذا نسيت ما قلته لطلابك اليوم – وغالبا ما يحدث ذلك- فلن ينسوه هم لك؛ فاياك ثم إياك أن ينقض كلامُك اللاحقُ كلامَك السابقَ، واحذر أن تقول اليوم كلاما يخالف كلامك بالأمس. وإنما يكون ذلك إذا كنت كاذبا، فقد قالوا قديما:(إذا كنت كذبا فكن ذكورا)، فالتزم الصدق رداء لقولك؛ لأن الصادق لو كرر الحديث ألف مرة فلن يتغير. أما الكاذب فإنه يلون حديثه كل مرة بلون غرضه، والأغراض تختلف فمن ثم يأتي حديثه كل مرة عن الأمر الواحد مختلفا.
أخي المعلم 
اعلم أن أسماع الطلاب معقودة بلسانك، وأن أبصارهم معقودة بفعالك ترصد عنك ما يكون منك كما ترصد الكاميرات ما يكون أمامها، ثم إنهم يقارنون بين ما سمعوه منك قولا وما رأوه منك فعلا، فإياك أن يخالف قولك فعلك، فإن فعلت تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

أخي المعلم
لا تبخل على أولادك (طلابك) بنصيحة متوهما أن الأمل منقطع في جدواها، وإياك أن تستسلم لنزغات الشياطين في أن هؤلاء الطلاب لن يجدي معهم النصح؛ فإن النصيحة إلا تنفعهم اليوم (لعدم قبول محلهم لها) فعسى أن تنفعهم غدا إذا استقام أمرهم وثاب إليهم رشدهم، فإن الكلمة الطيبة كالبذرة الطيبة. فالبذرة الطيبة قد تمكث في الأرض سنين عددا لا تنبت؛ لأنه لم يسقط عليها الماء، فإذا أمطرت السماء يوما أنبت العشب، وما هذا العشب النابت إلا نتاج بذور مكثت في الارض سنوات انتظارا لسقوط المطر = وكذلك الكلمة الطيبة يستقبلها قلب الطالب (المسرف على نفسه في الضياع) فلا ينتفع بها لكنه لا ينساها، وإنما تظل كامنة في أعماق ذاكرته، حتى إذا كان بعد حين فثابت إليه نفسه واستيقظ من غفلته وعاد اليه رشده؛ فإنه سرعان ما يستدعي هذه النصيحة من خزانة ذاكرته فينتفع بها بعد سنوات من سماعها في وقت ربما لم يخطر على بال قائلها أن بذرته الطيبة(أي نصيحته المخلصة) التي ألقاها منذ سنوات قد آن -اليوم فقط – أوان إنباتها (أي نفعها).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى