حين يزهر الصبر

هند يوسف خضر | سوريا
عندما قرر والداه الانفصال عن بعضهما لم يدركا أنها الشرارة التي بعثرت عالمه الصغير، كسرت قلبه الذي ما زال طرياً، لم يعرف من الدنيا سوى بريقها العابر و حقنة من بضعة ذكريات حفرت عميقاً في رأسه وغادرت إلى غير رجعة…
اسئلة كثيرة بدأت تطرق رأسه الصغير مع من سيعيش، أخذ قراراً بالبقاء مع والدته، لم يمضي وقتاً طويلاً حتى غادرها ، أحس أنها غارقة في بحر من الأحزان، تتأمل صوراً كل مساء وتبكي، لم يعرف لماذا ، لم يستطع سؤالها، في الليل ألقى على مسامعها كلمة اريد الذهاب إلى والدي ، لم تجبه بشيء لكنها أحست أن ثقلاً كبيراً سقط عن ظهرها ، فهي لا تستطيع تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياته، مع إشراقة شمس الصباح أخذ حقيبة صغيرة تحوي بعضاً من ملابسه، وغادر المنزل وانطلق إلى جهة لا يدركها، خطواته مرتبكة، عيناه تنظران في كل الاتجاهات وهو يقول في داخله: إلى أين أنا ذاهب..يا ترى إلى الجنة أم الجحيم.
في الطريق إلى بيت والده وجد حديقة، جلس على مقعد فيها أخذ نفساً عميقاً فغفا عليه دون أن يشعر، داعب الريح وجهه البريء، فأيقضه من نومه ، نظر إلى أقصى زاوية من الحديقة فوجد ما يشبه ملاذا له ، قطعة كبيرة من القماش تغطى مقعداً ، دخل إليها ، شعر بدفء المكان قرر عدم الذهاب إلى بيت والده، بدأ يتذوق قسوة التشرد وما من شاهد عليه سوى حديقة اتخذ منها مأوى للياليه الطويلة، لم يكن البرد خصمه الوحيد وإنما الوحدة أيضاً فلم يعد هناك من بيت يحميه…
لم تكن عقدته في فقدان دفء المنزل بل في شعور الخذلان، لقد اكتشف أن العالم تركه وحيداً، كان يجلس في الحديقة يشاهد العائلات، يسمع ضحكاتهم وأحاديثهم وكيف يغمرون أولادهم بالحب فيتمنى لو يرجع به الزمان يوماً إلى الوراء، عانى فترة من التشتت و بعدها قرر مواجهة العالم و مصاعبه، ذات صباح استيقظ وقال : إن لم أعمل من أجل نفسي لن يعمل أي شخص من أجلي، لم يستسلم لليأس بل راح يبحث عن عمل، عمل في مطاعم صغيرة، تنظيف السيارات وبيع الصحف، كان يتعب كثيراً لدرجة عندما يستلقي على المقعد لا يشعر بشيء ويغط في نوم عميق…
استقر أخيرًا بالعمل في مطعم صغير، في كل مرة يحصل على نقود قليلة لقاء عمله يشعر أنه انتصر على الظروف، ذات مرة انتبه لوجود مكتبة بالقرب من المطعم، حدق بها مطولاً، سار بخطوات غير متوازنة نحو واجهتها، راح يقرأ أسماء الكتب المعروضة، أصبح كل يوم يكرر نفس المشهد أثناء فترة استراحته، انتبه إليه صاحب المكتبة فقد كان رجلاً طيباً ومن الواضح أنه من أهل الخير، يلقب بأبي حسام، تعرف عليه و بعد أن سمع قصته دعاه إلى الجلوس معه في الداخل
الرجل: يا ولدي يبدو لي أن الحياة قد غرزت مخالبها تحت أظفارك الناعمة وأشهرت سيفها في وجه أحلامك دون رحمة
عامر: نعم يا عم، لقد فعلت هذا – بل أكثر – لو أن ظروفي أفضل لكنت الآن في المدرسة مع رفاقي أكمل تعليمي وأحقق حلمي ولكن…
سقطت دمعة من عينيه
مد الرجل يده ومسح دمعته قائلاً: الرجال لا تبكي، ما رأيك أن أساعدك؟
عامر: كيف ستساعدني يا عم إن كانت كل الدنيا ضدي؟
الرجل: لا عليك، سأصارحك لم يرزقني الله بولد لأعتني به و أحقق له أحلامه والآن بعثك القدر، ربما ليتحقق حلمنا معاً، أنت ستأتي لتعيش معي في منزلي حيث الدفء والأمان، سأكون لك الأب الذي انحرمت منه، وأنت ستكمل تعليمك أما في فترة الصيف ستساعدني في إدارة أمور المكتبة وستكون لي الابن الذي لم يولد مني ولكننا سنكمل الطريق… ما رأيك يا ولدي؟
نهض عامر من مكانه باكياً بشدة، حاول تقبيل يده لكنه أبى ذلك، ضمه الرجل إلى صدره، عانقا بعضهما بقوة و كأن كل منهما أضاع شيئاً…
بدأ عامر مرحلة جديدة، ودع الحدائق وانتقل للعيش في كنف الرجل الطيب، عاد إلى المدرسة، أكمل تعليمه حتى تخرج من الجامعة، بدأ يكتشف عالماً جديداً مليئاً بالمعرفة من خلال الكتب التي كان يطالعها في المكتبة، أصبح على يقين أن مستقبله لا يقف عند معاناة الماضي وأن الحياة مهما أغلقت أبوابها أمامنا ستعاود فتحها مجدداً…
بعد مرور زمن طلب الرجل من عامر أن يضع توقيعه على ورقة، قبل أن يسأله عن مضمون الورقة قال له العم:
هذا سند تمليك فقد سجلت المكتبة باسمك يا ولدي
صعق عامر من هول الصدمة، حاول الكلام لكن الرجل قاطعه:
أريد أن أطمئن عليك… قد تبدو أيامي معدودة
عامر: لا تكمل أرجوك، أنا لا أستطيع العيش بدونك
الرجل: حسناً.. دعنا نكمل الإجراءات الآن..
أمسكا بيد بعضهما بقوة فقد أزهر صبرهما معاً رغم صحراء الحياة.



