يوميات كورنيش الاسكندرية (٦)

محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام

 

شرفة بنات حارتنا !!

الثقافة السائدة فى المناطقة الشعبية تقوم دوما على قيم أولاد البلد التى تعظم معانى الشهامة والوفاء والإيثار ووو ….وكلها قيم أصيلة لها دلالات دينية وأخلاقيه تحلى بها أبناء المناطق الشعبية على مر العصور .. وأزعم أننى تأثرت كثيرا بها ومازالت تشكل عندى منطلقات أساسية فى حكمى على المواقف والأشخاص فمن اقترب منها أراه أصيلا ومن افتقدها أراه غير ذلك ..
ولذلك كنت ومازلت أنا وكثير من أبناء جيلى نرى أن بنت الجيران التى لا نعرف لها وصفا ولا تفاصيل بأنها عرض وشرف يستوجب الدفاع عنه والغيرة عليه.

نعم .. فالمنتج بشرى لأولاد تلك المناطق قد يعشق المرأة لكنه لا يقترب منها، يتابعها ولا يلمسها، يكتب فيها ولا يبوح لها، يعشقها ويحافظ عليها، يتحاور معها على الورق ولا يرفع فيها عينيه ولو حتى خلسة.

المنتج البشرى لتلك المناطق يرى أنه قد يغفر لنفسه ميله ناحية بنت الجيران ولكنه يدفع حياته ثمنا لكتمان هذا الميل، فهو يقبل أن يتعذب، يتألم يموت على ألا يتجاوز حواجز القيم وأسوار العيب، وتلال الحياء التى نشأ عليها.

وهكذا كانت تنشئتي المحافظة ومعظم أقرانى فى منطقتنا الشعبية بوسط الإسكندرية حتى صحونا يوما على سيارة ضخمة تحمل أثاثا وأدوات.؛ إنها  أسرة غريبة علينا عرفنا فيما بعد أن عائلها توفى وترك الأم و٤ فتيات وصبيا وكان للفتيات وأيضا الصبي حظ وافر من الجمال فعيونهن جميعا زرقاء. وبشرتهن سمراء وأجسامهن ملساء، وإطلالتهن بهاء. إذا مشين توقفت الأرض عن الدوران، وإذا تحدثن صمت الكون طربا وحياء، وإذا مررنا غمرن الدنيا ضياء
و لاحقتوهن العيون والأبصار؛ فلهن هالة من البهاء جعلت لوجودهن مراسم كالملكات ينتظر موكبهن الملأ ويندهش بها الناس، ويتعجب لها المؤمن بقوله سبحان الله !!
وكان لمسكنهم الجديد هذا شرفة على شارعنا المتواضع
واستطعن من خلال إطلالات متقطعة أن يلفتن نظر الجميع ويقلبن لدى الشباب مفاهيم كثيرة تربوا عليها وآباؤهم الأولون فى المحافظة على الجيران.

فأنوثتهن كانت طاغية وأصواتهن ناعمة وأزيائهن فاضحة وجرأتهن نادرة حتى أصبح جمالهن حديث الصباح والمساء، وبه اكتسب شارعنا شهرة واسعة وذاع صيته حتى أننا كنا عندما نستقل تاكسى عائدين لمنازلنا ويسألنا قائد السيارة عن مقصدنا كنا نمزح معه ونقول نسكن بشارع الـ ٤ بنات.

وهكذا من خلال شرفتهن هذه تحول شارعنا لمقصد يشد له الرحال ويطوف حوله الشباب ويتعلق به عشاق الجمال.

وعلى الرغم من ان شقيقهم الصبي كان فى عمرى تقريبا إلا أنى وصديق عمرى الذى تربيت معه كنا نلفظ هذا الولد بل ونكرهه دون ذنب يفعله حتى إن صديقى هذا كان يتربص به ليعنفه ويضربه بسبب وغير سبب !..فى شعور عدائى مبالغ فيه و لم أجد له مبررا حتى الآن. عموما شعورنا هذا لم يلتفت له أحد وسط الحفاوة التى كان يستقبله بها أهالى منطقتنا كبيرهم قبل صغيرهم !!

وهكذا تحول شارعنا لمكان مرغوب فيه يتجمع فيه الشباب وتنظم فيه المنافسات والتى كثيرا ما كانت تنقلب لمعارك وخصومات بسببهن فإذا خرجن للشرفة ازداد حماس الشارع وتعالت الأصوات وسعى الشباب كلٌ بطريقته ليكشف لهن عن تميزه فى اللعب أو سطوته على الآخرين أو خفه دمه وقفشات لسانه حتى ولو على حساب كرامة أقرب الناس اإليه !! المهم أن يحصل الشاب على ابتسامه من هذه أو اهتمام من تلك ..
وكان يوما أسود على الشارع كله عندما يتجمعن بملابس الصيف الكاشفة أو يقمن بنشر ملابسهن الصغيرث على مناشر الغسيل فترتفع حرارة الشارع ويتحول لحلبه صراع بين ثيران يطمعون بخيالهم المريض بالفوز بشرفة التحكيم الأنثوية.

هكذا كان حال شرفة بنات شارعنا اللاتى كثرت حولهن الحواديت والرويات ورغم أن معظمها كان من نسيح خيال شباب له طموحات شيطانية إلا أن معطيات الأسرة والصورة الذهنية التى تكونت عنهن كانت تسمح دوما بتصديق الإفك فيهن !

ولأن شأن هذه الأسره اعتبره أهالى المنطقة شأنا عاما يتصدر مانشتات أخبارهم فقد رصد المهتمين بامرهم ذات يوم غياب إحداهن عن الظهور
وكثر الكلام كالعادة عنها وبررت أسرتها حينها غيابها ؤن الفتاة قد تزوجت !! الأمر الذى رفض الأهالى التسليم به.
وراحوا يعسعسوا وراءه حتى اتوا الناس بنبأ اليقين وقالوا إن رجلا ثريا خطف الفتاة وأخبر أهلها بزواجه منها عرفيا! وإن الأم عندما علمت وذهبت لابنتها ورأت بعينيها حياة الرغد والرفاهية التى ستعيش فيه أقنعتها بحياتها الجديدة وباركت للرجل زواجه من ابنتها القاصر!! رغم أنه يكبرها بنحو خمسة عشر عاما

ويبدو أن هذا الزواج المبكر كان إيذانا لحشد الخطاب لهن ففى بضع شهور قليلة كنا نسمع بين الحين والآخر عن خطبة وزواج حتى أنه طال الأم فى نهاية المطاف حيث تزوجت هى الأخرى من مدرس ألعاب يصغرها بنحو ١٠ سنوات.. أما الصبي فقد سافر للعمل بدوله خليجية من خلال زوج إحدى شقيقاته دون أن يستكمل المرحله الثانوية
وأغلقت الأسره مسكنها وحاصرت الأتربة شرفتهم ونسج على فتحات بابها العنكبوت خيوطه.. وعلى حالتها هذه ظلت هذه الشرفة سنوات طويله يتلكأ المارة عند الاقتراب منها يرمقون أطلالها ولسان حالهم يقول
دار يا دار يادار .. يادار قولي لي يادار
راحوا فين حبايب الدار فين فين قولي يادار
…وهكذا عادت كل أمور المنطقه لسيرتها الأولى إلا أهلوها لم يعودوا بعد!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى