دروس ربانية من المدرسة الرمضانية (2)

رضا راشد | باحث في الأزهر الشريف

الصيام وصحة الأبدان

للبدن في ميزان الشريعة مكانة عظمى؛ إذ به يقوم المرء بما نيط به من مهمة تعمير الكون والسعي في الأرض، قال تعالى《 هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها》
[هود:٦١]، ولهذا جعلت الشريعة الإسلامية من الحفاظ على البدن مقصدا من مقاصد خمسة جاءت لتحقيقها، فشرعت القصاص والدياتِ؛ سياجَ حمايةٍ للنفس من الجناية عليها أو على ما دونها من أعضاء .

وللبدن مقومات بقاء، أهمها الطعام والشراب وغيرهما ..ولكن انتفاع المرء بهذه المقومات مشروط بالاقتصار منها على حد الضرورة، فإن أسرف المرء في طعامه غدا الطعام داءً لا غذاءً، وسَمًّا لا قواما، لكنه السم المدسوس في العسل، وما أخطر السم إذا غُلِّفَ بشهوةٍ معسولةٍ .

إن الطعام لن يكون غذاء حتى يصادف معدة خالية قد تهيأت لاستقباله واشتاقت لقدومه، فإن كانت المعدة ملأى كان قدوم الطعام عليها كقدوم الطفيلي على قوم هم له كارهون، ومنه نافرون، وعنه نابون.

ومن هنا أجمع الأطباء وتواضع الحكماء واتفق العقلاء منذ قديم الزمان على أن إدخال الطعام على الطعام متلفة للجسم.

فقد سئل الطبيب اليوناني القديم جالينوس – وكان نادرا ما يمرض-:
لم لا تمرض؟ فقال: لأني لا أدخل طعاما على طعام. ووافق جالينوسَ الإمامْ الشافعيُّ في قوله:
ثلاث هن مهلكة الأنام
وداعية الصحيح إلى السقام
دوام مدامة ودوام وطء
وإدخال الطعام على الطعام
[المدامة:الخمر]
ومن هنا كان حكم طبيب العرب الحارث بن كلدة بأن “المعدة بيت الداء” وقد عدته بعض التفاسير حديثا نبويا .

ولا تعجبن من أن تصير المعدة =التي هي وعاء الطعام، الذي هو قوام حياة المرء وصحة بدنه = بيتا للداء؛ إذ الحكم أغلبي، نظرا إلى حال أغلب الناس ممن تغلبهم نفوسهم فيكثرون من الطعام، فيغدو بذلك داء لا غذاء.

وهذا الذي اتفقت عليه بدائه العقول قد حثت عليه الشريعة الإسلامية في هذا العبارة الموجزة التى جُمِعَ فيها الطبُّ كله؛ وهي قوله تعالى: 《وكلوا واشربوا ولا تسرفوا》 [الأعراف: ٣١]

وتكفلت السنة النبوية ببيان حد الإسراف في قوله صلى الله عليه وسلم: “بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة -وفي رواية فإن غلبت الآدميَّ نفسُه-: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه” .

وغير منطقي أن يتوهم المرء أنه يستطيع تقسيم بطنه أثلاثا متساوية، ولهذا جاء الحديث الآخر بيانا لمقياس ظاهر لهذا الثلث؛ بأن ترتفع الأيدي عن الطعام وما زالت النفس تشتهيه، وهذا لا يكون إلا بعدم الشبع، قال صلى الله عليه وسلم: “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع”.
(لا نأكل حتى نجوع):هذا هو مقياس خلو المعدة من الطعام،(وإذا أكلنا لا نشبع): هذا هو مقياس الإسراف والحد الفاصل بين كون الطعام غذاء وكونه داء.

ولكن :
أنى لحكم العقل هذا أن يجد له سبيلا إلى أن يكون واقعا ودونه عقبات جمة تتمثل في أن للطعام شهوةً ذات سلطان آسر على العقل؛ وهو ما يبدو في قوله صلى الله عليه وسلم :”فإن غلبت الآدميَّ نفسُه”؛ فهو محكوم بسلطانها واقع في أسر قبضتها؛ ومن هنا قالوا: آفة الرأي الهوى، وكم للعقل من أوامر تضيع هباء منثورا، بمخالفتها غرائزَ النفوس؛ ولهذا كان الكيس من لم يغلب هواه رأيَه 《وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى 》 [النازعات: ٤٠ ]

للنفس شهوة لها على العقل سلطان آسر، ولهذه الشهوة رسل إلى النفس ماثلة في هذا الحواس التى تنبعث إلى النفس بلذة الطعام:منظرا، أو مسمعا، أو طيب رائحة، أو حسن مذاق…إلخ.

هنا تكمن المشكلة ويقع التنازع بين حكم العقل في التقليل من الطعام محافظة على صحة الأبدان، وبين هوى النفوس في تلبية دواعي الشهوات إكثارا من الطعام..فما العمل إذن؟

كان لا بد من أن يتدخل الشرع معاضدةً للعقل: أحكاما، من بعد أن كان عاون الشرع العقل: إرشادا وتوجيها، كما تبين في الآيات والأحاديث السابقة. ومن هنا شرع الصيام علينا وعلى الأمم من قبلنا 《..كما كتب على الذين من قبلكم》دليلا وبرهانا على أنه لا غنى للبشرية في كل مراحلها عن الصيام: ميزان اعتدال لصحتهم، وحائلا دون اعتلال أبدانهم.

وكان تشريع الصيام على ضربين: استحباب وفرضية .

فاستحب صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع؛ ليعتدل بصيام الاثنين النصف الأول من الأسبوع، وبصيام الخميس النصف الثاني=واستحب صيام الأيام القمرية(الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر ) لتكون ميزان اعتدال لصحة البدن خلال الشهر. وتأمَّلْ مكان هذه الأيام من الشهر، حيث جعلت في منتصفه : تخلية لما زاد من الطعام عن حاجة البدن في النصف الأولى= وتهيئة لما يكون في النصف الثاني من الشهر.

فإن لم تتغلب رغبة النفس في الثواب على رغبتها في الطعام، فلم تستجب للصيام المستحب، لم يكن هناك بد ولا مفر من فرض الصيام دواءً أخيرًا، وحماية للمعدة من أن تكون بيت الداء ففرض الصيام شهرا من اثنتي عشر شهرا ترتاح فيه المعدة من عمل دائب طوال السنة ويتخلص في الجسم مما زاد عن حاجته، ويستعيد به الجسم نشاطه وحيويته…ولهذا قيل : “صوموا تصحوا”.

أرأيتم كيف كان الصيام صحة للأبدان ؟!
وذلك درس من أهم الدروس الربانية التي تفيض بها المدرسة الرمضانية .
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى