ثعلبة.. وجوه في طريقي (5)

منى مصطغى | كاتبة وروائية وتربوية مصرية

بكل ما اتفقنا عليه من ماديات، هذا غير النفقة ومؤخر الصداق، إن أردت أن تتجنب هذا كله، فطلِّقها فورًا!

لم نصدق أن يحدث هذا من أبيك، فهو مَن اقترح عقد القران قبيل سفرك، وقد فسرنا هذا الطلب وقتها أنه حريص على رضا، وأنه مجرد عام دراسي يمر وتتزوجان، ولا أحد بعدها يتدخل في حياتكما، إلا أن والدك اقترح عقد القران بعد أن خطط للطلاق في ذهنه، يريدك مطلقة حتى تقل فرصتك في الزواج، وتستمرين في السفر، لا يَثنيك عنه شيء، ولا يَمنعه أحد من هذا الكنز الذي فُتِح له على حد تعبيره، صدِّقيني يا سعيدة، نحن أشفقنا عليك وقتها كما أشفقنا على رضا، كلما جاءنا خبر من أحد أنك تسألين عن رضا، زاد همنا وحزننا ودعونا لك، لا أُخفيك أن العائلة كلها تعاطفتْ مع رضا، فقد استحال شخصًا آخر، جسد تقوده أشلاء روح كما أراك الآن، كل من أحبَّه اقترح عليه الزواج؛ حتى يُنهي هذه الفترة الكابية من حياته، وهذا رقم المحامي الذي ذهب إليه والدك؛ ليرفع قضية طلاق لك من رضا بالتوكيل الذي تركتِه له، تأكدي أنني لم أكذب عليك، تعاطفت مع رضا، ووافقت أن أكون زوجة له، رغم علمي بما كان يحمله لك من حب، بعد أن ذهب أبي إلى أبيك وحاول معه مرات عديدة أن يَثنيه عن قراره، بل اصطحب معه إمام المسجد؛ ليوضح له الجُرم الذي سيرتكبه في حقك، وفي كل مرة كان يرد بتبجُّح قائلًا: الدين يقول: أنت ومالك لأبيك، وأنا أعلم بمصلحة ابنتي منكم، وكان يتهمنا بالطمع، أنتم تريدون مالها، ما المشكلة أن يتأخر زواجها خمس سنوات تستريح فيهم ماديًّا، وسيكون الخُطَّاب وقتها بلا عددٍ؟! ماذا فعل المتزوجون؟!

جدال عقيم لا نخرج منه بنفع، بعد ذلك جاءت خالتي أم رضا تخطبني، ترددت في البداية، لكني وافقت؛ حيث لا أمل من والدك، ولثقتي في أخلاق ودين رضا أنه إن لم يُحبني فلن يظلمني! ردَّت أختي: ألم تطلب من أبي نصف الأموال التي ترسلها سعيدة بحجة أنك زوجها قانونًا؟! 

ضحك رضا ضحكًا كالبكاء، وقال: هل تصدق سعيدة عني هذا، بالطبع لم أفعل ولا تسمح لي رجولتي أن أفعل، هو مَن أراد سفرها بحجة تجهيزها للزواج، أما أنا فعندما طرَقت بيتكم فما كان ينقصني شيء، هناك ما هو أكثر من ذلك أستطيع قوله، ولكني أثِق أن سعيدة تُصدقني أنا وأماني؛ لأننا صادقون، ولو أردت مالًا لطلبت من سعيدة مباشرة، وما أظنُّها كانت تردني، وإليكم إمام المسجد والمحامي، فقد كانا معنا خُطوةً خُطوة، ويعلمون ما دبَّره لي والدكما من أذى كاد يقضي على مستقبلي!

بقيتُ صامتة لا عن رغبة في الصمت، بل عن عجزٍ عن التحكم في لساني أو حنجرتي، وكأن الجميع كان ينظر إلى قلبي وليس إلى وجهي، أتت لي أماني بكأس من الليمون، أمسكت أختي بيدي تُدلكها؛ لتتأكد أن أطرافي ما زالت حية! قال رضا في حزن لا يُفلته سامع: أَزيلي الحزن عنك، فسيتغذَّى على مُهجتك، ولن تحصدي إلا الدمار الجسدي والقلبي، سلِّمي أمرك لله، ربما لو تزوَّجنا كان بلاؤنا أعظمَ، واعلمي أني كنت صادقًا معك حتى لحظة توقيعي على وثيقة الطلاق، والله وحدَه المطلع على القلوب، أنت إنسانة مميزة، وجعل ربك ابتلاءك في طمع أبيك، اصبري واحتسبي، وسلي الله مخرجًا يرضاه ويُرضيك به، هنا فقط علمت أنني خسرت رضا للأبد، كلماته الهادئة المطمئنة المعتمدة على يقينٍ في الله، أوحتْ إليّ أنه أنهى تجربتنا مع عقله على الأقل، وما تبقى لي عنده إلا ذكرى ستمحوها الأيام أو لا تمحوها، إلا أنها لن يكون لها نصيبٌ في واقع حياتي!

عدت إلى البيت، تسلَّلت إلى فراشي في هدوء، نمت ثلاثة أيام متصلة، كانت أختي توقظني كل حين تجبرني على شرب الماء، وتتأكد أن جسدي فيه نبض، ثم تتركني أواصل النوم، وكأنني أرفض الحياة، وأذهب إلى عالم الموت، علَّني أجد مَن يَرفُق بي، استيقظت في فجر اليوم الرابع، رفعت رأسي، أسندت ظهري إلى سريري، نظرت في هذه الإضاءة الخفيفة المتسللة إلى الفراش من النافذة والباب، فوجدت شعرًا بجواري يكسو الوسادة، فزِعت وأمسكت به متسائلةً: ما هذا؟ مَن الذي يضع شعرًا على وسادتي؟ أهو سِحر؟! استعذتُ بالله من الشيطان، وقمت بجسد نحيل مترنح، وعيون تكاد لا ترى إلا ومضًا، أضأتُ نور المصباح، نظرت إلى الفراش لأتفحَّص سبب وجود هذا الشعر على وسادتي، وقعت عيني على المرآة قدرًا، فعلمتُ أنه شعري! خفتُ مِن ذلك الشبح الماثل في المرآة، إنه يُشبهني، لقد صرَخ معي خوفًا! أهذه أنا؟!

قلت لها:

كم تَضج الدنيا بالظلم، يظلمنا الظالمون مرتدين ثوب الرحمة، ثوب الأبوة، ثوب الولاة، وحتى ثوب المحبين يَتلبَّسهم إبليس، ويُزين لهم سوءَ عملهم، فيرونه حسنًا، لا تبتئسي حبيبتي، رحمة ربك واسعة، تشمل الحجر والشجر، أتقصُر عنك يا سعيدة؟ حاشا لله، أخذتها في حضني، مسحت على رأسها وكتفيها، وقلت لها: هيَّا بنا إلى المدرسة، فقد تأخرنا، وغدًا الخميس بداية عطلتنا الأسبوعية، سآخذك لتَنامي عندي مع بناتي، ونُكمل حديثنا إن شاء الله، تذكَّري فقط أن نستأذن من مشرفة السكن الآن ونحن خارجون إلى المدرسة، اتخذت لها مكتبًا قريبًا مني أثناء لقاء أولياء الأمور، وكلما وجدتُ أُمًّا أو أبًا سيُرهقها في الحديث، جلستُ بجوارها ورددتُ عنها، حتى انتهتْ أثقلُ ساعات مرَّت عليَّ منذ رأيتُ رأسها وحتى وصلنا إلى بيتي!

عرَّفتها على صغاري وزوجي، وأحسنتُ ضيافتها، ولم أسألها عن شيء، غير أنني أخذت صغاري ووضعت لهم فراشًا في غرفتي؛ حتى تأخذ راحتها، وخشية أن ينكشف رأسها أثناء النوم فيخافوها، أو يتلفظوا بتلقائية الأطفال بما يُجدد جراحها، ومع صلاة الفجر استيقظنا، وتعمدتُ أن أُصلي بهنَّ جماعة في الغرفة، ثم نجلس للشروق نذكر ربَّ الرحمة والمغفرة، ونتدارس بعض معاني الأدعية؛ حتى يتسع صدرها، وتنقشع غيوم الحزن مِن ذاكرتها، وبعدما صلينا ركعتي الشروق، أحضرتُ فطورًا خفيفًا إلى غرفة الأولاد حيث تجلس، وبدأت أُمازحها، لكنها قالت: سأكمل لك الأحداث.

 عندما سمعوا صراخي، أتوا جميعًا إلى غرفتي، ففزِعوا من الشعر الملقى على الأرض والعالق بيدي، ذهب كل أحد منهم مذهبه، فمنهم من قال: سحر، ومنهم من قال: ضَعف لعدم الطعام … استدعت أمي خالي، فنقلني إلى بيته، فلم يكن على علاقة حميمة بوالدي، ليبقى هو عندنا، وبعد الفحوصات الشاملة أكد الأطباء أنني تعرضت لضغوط نفسية أدَّت بي إلى هذه الحال، وأن الشفاء مُحقق إلا أنه يحتاج إلى وقت، وبالفعل بدأت العلاج وحتى الآن لم أتحسَّن!

لم تكن هذه هي المشكلة وحدها، فالمشكلة كانت فيما يجب حسمه من قرار: هل أعود إلى العمل بالكويت أم لا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى