حكايتي مع شياطين طفل الستين

عبد الرزاق الربيعي

أردت بهذا الديوان الذي يحمل الرقم ( ١٩) في تسلسل دواويني، أن أحتفي ببلوغي الستين لذا، فمخطّط الديوان ينتقل بين ثلاثة محاور هي: الشعر، الزمن، الطفولة، ومن عناصر هذه الخلطة، بعد مزج مكوّناتها الثلاثة، خرج عنوان الديوان”شياطين طفل الستّين”، فالشياطين مرتبطة بالشعر، وشياطين عبقر بموروثنا الشعري العربي، فقد كان أجدادنا يؤمنون بوجود شيطان لكل شاعر، يستمد منه القصائد، “مسحل بن أثاثة” كان شيطان الأعشى، و”السنقناق” شيطان بشار بن برد، وحتى حسان بن ثابت كان له شيطان.
الركيزة الثالثة للديوان هي، الزمن فقد رمزت له برقم (ستين)، لتثبيته، وهذا ما أكدت عليه العتبات ومنها عتبة شمس التبريزي”يجب عليك أن تفهم أنّ هذا السن مجرد رقم لا يشكّل حقيقتك أبدًا، ربّما تكون طفلاً بسنّ الستّين، أو شيخًا بسنِّ العشرين”  أما روفائل البرتي فيقول”إنّه وجهي الحقيقيّ، لي ستّون عاما، وأريد أن أحملها،كمن يحمل رايةً” وبين هذا وذاك يمرح طفل الستين، ويعبث بالحروف، وحرصت أن يتحلّى العنوان بإيقاع آسر، من خلال الإستفادة من السجع بين شياطين، الستين”، هي محاولة للتشبث بالطفولة والصفاء والنقاء ومعاندة الزمن من خلال الشعر.

ومن أجواء هذا الديوان نقرأ النصوص التالية:

نجم طازج

غيمة العطر
على صحراء عمري
أمطرت
وردا
ففاح الغنجُ
فارتقى روحي
وآفاقي
نجم طازجُ
فإذا أرضي
زلزال وموجي هائج
وبصدري
جنّ
طفل أهوج
والألى أهوى
ولما دخلوا
القلب من الباب
سريعا
خرجوا

\\\\

الصمت في الشوارع

المساجد بلا تسابيح
الكنائس بلا صلبان
القيامة بلا جمهور
الألفاظ بلا معنى
الحلاقة بلا صالونات
الحقائب بلا أشرطة رحلات
التقويم بلا فائدة
انظروا..
الأطبّاء في المقابر
النمل في الذكريات
الطائرات في التراب
الكلمات في الفم
انظروا…
العناكب في أقفال المحلات
الغيوم في السماء
الناس في البيوت
والصمت..
الصمت..
الصمت في الشوارع
“تعالوا انظروا..
الصمت في الشوارع”^

^السطر إحالة إلى بابلو نيرودا
وبيته الشهير” تعالوا انظروا الدم في الشوارع”

لو يرجع الموتى

لو يرجع الموتى
من الغيب
ليوم واحد
لا غير
يوم واحد
لن يُنقص الأموات مما في
سراديب ظلام الجهة الأخرى
ولن يُفقر بيت العالم السفلي

يوم واحد لاغير
يوم لا يضر ..
لكن
سوف يكفينا
لكي نحكي لهم
ما حل بالاشجار
والانهار
والسمار
بعد غيابهم
لا غير..
تكفي
بضع ساعات
من العمر..
ولن نسألهم
عما وراء الغيب
لن نسأل..
لا دخل لنا بالجهة الأخرى
ولا دخل لنا بالنار..
أو بالورد
لا دخل ..
ويكفينا حديث عابر
يجمعنا
في مطعم
أو ساحة مفتوحة الأفق لهم
او كل يأتي
من الحراس
أسراب الملائكة الصغار
لو…
لو يرجع الموتى
لنحيا
كي نرى
أرواحنا تمشي
على أرض الحياة

////

دروبُ التبّانة^

بدروبِ طفولتِهم
كانوا يمشونَ
إلى مدرسةِ العشق الأوّلْ
الوطن الأجملْ
يمسك كلٌّ منهم
– خوف التيهِ –
أصابع صاحبه
وتلابيبَ المستقبلْ
ولأنّ الدربَ طويلْ
وبلا أشجارٍ
وظلالِ نخيلْ
كانوا
يزجون الوقتَ
يغنّون
معا:
” همّه ثلاثه للمدارس يروحون
همّه ثلاثة للمدارس يروحون”
يسيرون
على طين الدرب
كما سوّاه الرب
بآخر أيام الخلق
وكانوا ينتعلون
حروف مداسات
تخفي أسرار
جوارب مثقوبهْ
يمشون
ويتكئون
على أطراف ظلالٍ
معطوبهْ
ويجرّون
بأقدام طيور الماء
حكايا أنهار
علقتْ
بترابِ الأرجل
يتباهون بقمصان
باهتة الألوان
حقائب
من خوصِ النخل
دفاتر سمراء
بلون جلودهمُ
أقلامِ رصاصٍ
بمماحيها معصوبهْ
يبتسمون
لشمس دافئة
تشربُ أنخابَ مدى
مدّ لهم
إذ يمشونَ إليه دروبهْ
ويغنّون:
” همّه ثلاثه للمدارس يروحون
همّه ثلاثة للمدارس يروحون”
وحين يذوبونَ
مع الكلماتِ
ويصبح للخطوات
وجيبْ
يحثّون السيرَ
إلى السبّورةِ
والصفِّ
وطابور الصبحِ
على أضلاع طريقٍ
مهما طالَ
عن الأحلام
يظلُّ قريبْ
” همّه ثلاثة للمدارس يروحون
بيهم حبيب الروح
بيهم حبيب الروح”
كثيرا ما يتّفقون
وفي أمرٍ
يختلفون
فكلٌّ منهم
في سرّ مفضوح
يتساءل:
– من منّا
كان ” حبيب الروح”
لـ”مائدة “الحلوة
بنت الجار السابع؟
مَن منّا
حلّقَ ما بين الأفلاك
وسدَّد سهما
فأصاب القمرَ
المتخفيَ خلف الشباك؟
“ياداده مثل الماي
بروحي نبع”

بعد سنينٍ
نزلتْ أمطارُ الليلِ
هوتْ أعمدةُ سقوفِ
صفوف الطين المائع
جرجرها الطوفانُ
مع السبّورات
ونشراتِ الحائطِ
للشارعْ
فتفرّقت الأنجم
بدروب التبّانة
ولأن الأول
فيهم
غنّى
في الليلِ الأليل:
“همّه ثلاثة للمذابح يروحون”
قطعوا…
تحت ستارِ الليل الدامي
صوتَ عذوبتهِ
بالمنجلْ
“ياداده مثل الماي
بروحي نبع
خضر ورد وافياي
سنبل طلع”
الثاني أخذته الحرب
إلى عرش الرب
“هم ثلاثه للمعارك يروحون
شوفي داده شحلاته”
وبلا كفن أبيض
عانق ضوءُ الجنة نعشه
ذبلت أجنحةُ طيور الماء
وجفّ الماء
وظلّ الطين وحيدا
فتهاوى
من زهرة عرشه
“ياداده افرحي وياي
اشنفرح بعد
ياداده افرحي وياي
حظ وكعد
يامسعده؟”
اشنفرح بعد
يامائده”
الثالث
تحت جناح الليلِ المبلول
فرّ
بلا بوصلةٍ
نحو المجهول
“همّ ثلاثة للمنافي يروحون”
فراحوا..
بعد سنينٍ أخرى
مرّتْ حقبٌ
وفجائعْ
غاب”أبو سرحان”
هوى نجمٌ لامعْ
بغيابةِ ذئبٍ جائعْ
واعتزلتْ
مطربة الحيّ الحبّ
وأسدلتِ البنتُ ستارة
شبّاك الجار السابعْ
شاخ الـ”كوكبْ”
مثل الماء
وظلّ الصوتُ
يدورُ
بقرص “غرامافون”
وينحبْ
“همّه ثلاثة للمقابر
يروحون…
بيهم حبيب الروح
شوفيهم يمرون”

^إشارة إلى (درب التبّانة): وهي مجموعة كبيرة من النجوم سمّيت بهذا الاسم بسبب شكلها الذي يُشبه خطّاً من الحليب مُشكّلاً من الضوء عندما يتم رؤيتها من منطقة مظلمة
^^في النص إحالة، وتناص مع أغنية المطربة مائدة نزهت”همّه ثلاثة للمدارس” التي غنتها في ١٩٧٠ ، وهي من كلمات ذياب كزار(أبو سرحان) ألحان كوكب حمزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى