الشيخ أشرف عبد الوهاب سالم نبراسًا
خالد رمضان | كاتب مصري – صلالة
وعن العلم، وأثره يقول شوقي:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
لم يُبنَ ملكٌ على جهل وإقلال
ويقتفي أثره في ذلك عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فيقول: التعليم كالماء والهواء. وهو يعني بقوله هذا أنه لا حياة بلا علم كما أنه لا حياة بلا ماء، ولا هواء. وطالما أنه حياة بلا علم، فلا علم بلا معلم..ذلك المعلم الذي يخط بأنامله على صفحات عقولنا الغراء ما يفتح لنا الأبواب الموصدة، ويضيء لنا الطرق الحالكة، ويسمو بنا من حطيط الأرض إلى قمم الهناء، ويهفو بنا من عناء الحياة إلى عنان السماء، فنمتلك وقتها قوّتنا وحضارتنا ومجدنا وعزنا، فتستقيم حياتنا، ويهابنا أعداؤنا..ومن منا لا يوجد في حياته معلم أثر في وجدانه وكيانه، بل وسرى حبه في شريانه، ورسخت صورته في أعماق أذهانه، فتراها ماثلة حاضرة أمام عينيه لا تكاد تفارق خيالاته. وما كان ذلك إلا لإخلاصه في عمله، وخوفه من ربه سبحانه وتعالى.
ومن هؤلاء الأجلاء الأصفياء الأنقياء الشيخ أشرف عبد الوهاب سالم.. هذا الاسم الذي يعد علما من الأعلام، يعرفه القاصي والداني، يحبه ويجله كل من استمع له، أو تعلم على يديه وارتشف من فيوض علمه، واقتبس من نهر عطفه وكرمه. كان أول عهدي به أول عهده لعمله في معهدنا الأزهري ببلدتنا أطفيح، حيث كان وقتها شابا صغيرا أنيقا، ذا لحية مرسومة على وجهه الوسيم، تلمع عيناه بالذكاء، ذا جدة واجتهاد وسمت حسن وخلق كريم. وسرعان ما صال وجال بيننا جميعا حتى اخترق أعماق قلوبنا فتعلقنا به وأصبحنا نرافقه في حضوره، ونبحث عنه عند غيابه.
كانت له طريقة جذابة؛ فمن المحال أن تحيد عنه أو تشرد منك نفسك وأنت ترنو إليه، فتجدك منجذبا، له تتفرسه وتتأمله في تعبيراته وانفعالاته وحركاته وسكناته، فاجتذب العقول النافرة، وامتلك النفوس الشاردة. لم يكن أستاذنا مجرد معلم، بل صار أخا لنا جميعا؛ فدنا منا ونصح لنا، وأزال عنا همومنا، واحتضن مشاكلنا فمد يد العون لنا وشاركنا أفراحنا وأتراحنا فازددنا له حبا، وبه تعلقا. إذا ابتدأ حصته ابتدأها بدعاء وابتهال يضفي على الصف هدوءا وانقيادا له قبل أن يبدأ الدرس المنوط بشرحه، فحفظت تلك المقدمة منه، وصارحت معي في عملي فلازلت أبتدأ بها درسي، وحفظها عني طلابي وهم يبدأون بها حتى الٱن.. كان يشرح لنا علم مصطلح الحديث، وكان ذاك العلم من الصعوبة بمكان فصار أحب العلوم إلينا، وأيسرها علينا.
لا أنساه أبدا عندما كان يمسك بالطباشير بين أصبعيه يخط به يمنة ويسرة محددا ومشيرا إلى هذا الخط أو ذاك حتى تتغبر يداه وتصطبغ باللون الأبيض ونحن ننظر له ولا نستطيع الفكاك عنه؛ فلقد كان جاذبا لدرجة قصوى قلما تجد لها مثيلا، بل من عجيب أمره أنه إذا لم يجد قطع الطباشير كان يخط بأنامله على السبورة كما لو كان الطباشير في يديه فكنا نتعلق بما يبدو من تلك الخطوط وكأنها مكتوبة واضحة أمامنا.. لم أكن أهتم ٱنذاك بالمذاكرة إنما كنت أتذكر الإجابة من شرحه، وأين اكتتبها على السبورة في تلك الناحية أو هذه.
امتدت صلتنا بأستاذنا من داخل المعهد إلى خارجه فصرنا نصحبه ونجلس معه وننهل من معينه وكأنه صديق حميم، فكان يلقانا بوجه بشوش، وابتسامة حانية وما عبس يوما ولا تضجر من التفافنا حوله أو ارتباطنا به.. كان الشيخ أشرف شعلة من النشاط والحيوية لا يهدأ ولا يفتر عن نفع طلابه، والحرص عليهم بكل ما ملكت يداه، فكان صاحب قصب السبق في أمور لم يسبق لها أحد من قبله وقتئذ، ومنها: تأسيسه لفن المسرح في معهدنا؛ حيث أتى بحفنة من الطلاب ودربهم تدريبا محكما، وعند العرض أتى بمقطورة لجرار زراعي وافترشاها بقطع من الأقمشة السميكة وبعض الحصر، ثم اعتلاها زملاؤنا واندمجوا فيما يقدمون، فتعلقت عيوننا بهم، وأخذتنا الدهشة حينما رأيناهم في صورة لم نر مثلها من قبل.
كان أيضا له قصب السبق في فكرة جديدة أتانا بها، وعرضها علينا جميعا، فإن دلت فإنما تدل على حب منهمر نابع من قلب كله خير، فجمع من أغلب طلاب المعهد قدرا من المال، كل طالب قدر استطاعته، ثم أنشأ الكانتين ( المقصف) فجعل لكل واحد سهما فيه، وعند نهاية العام قام بتوزيع رأس المال، وما صح لصاحبه من الربح على قدر اشتراكه.
جمع أستاذنا بين أمرين قلما أن يجتمعا في إنسان، المهابة والحب؛ فكان ذا شخصية أسطورية قوية؛ فإذا غضب اهتزت الدنيا لغضبه فلا تسمع نفسا خارجا أو داخلا، وإذا ابتسم فكأنما ابتسمت الدنيا بأسرها، فكان صاحب ابتسامة تشرح الصدور، وتبهج القلوب.
ومن نوادره أننا يوما ما وفي طابور الصباح قام طلاب المعهد أجمعين بتصرف سخيف حيث قاموا بالتصفير في وقت واحد حتى ضجت ساحة الطابور بالتصفير، فأتى من بعيد ووقف ولم يتحدث فعم الصمت أرجاء المكان، ثم تكلم في غضب وأقسم ليضربن المعهد كله وبمفرده، وقد كان، عندما جاء دور فصلنا ودخل علينا وامتدت الأيدي ليأخذ كل واحد نصيبه من العقاب، تقدم له زميل لنا وكان مفرط الطول خفيف الظل، والكل في صمت رهيب، ومع أول عصا لزميلنا سقطت ساعته على الأرض فنظر للشيخ أشرف ثم قال له: أهي اتكسرت، فابتسم الشيخ أشرف ابتسامة جميلة فانفجرنا جميعا من الضحك.
لقد أحببناه حبا جما لما أدركنا ولمسنا حبه لنا، وحرصه علينا فلم يرد منا شيئا، ولم يطلب منا مصلحة ولا كلفنا فوق طاقتنا إنما كل ما خرج من القلب كان يصل إلى القلب ودون استئذان.
لا أنسى حينما التحقت بالقسم العلمي ومكثت به بضعة أيام، ثم قررت العدول عن رأيي لأمر ما ونزلت بعدها للقسم الأدبي، فنزل إليّ وقال لي: لم حولت للقسم الأدبي؟ فقلت له: أنا مرتاح هنا. فسكت وكأنه يقول: لن أجبرك على شئ.
ظل الشيخ أشرف أحب المعلمين إلينا جميعا، فلم نستطع أن ننساه أبدا مهما مرت بنا السنون فمازلنا نحبه ونذكره وقد تقدم بنا العمر ووخط الشيب رؤسنا لكننا عندما نراه نراه أستاذنا ونقف أمامه وكلنا احترام وحب وتقدير له وكأننا نجلس أمامه في مقعدنا.
حفظ الله الشيخ أشرف وبارك في عمله؛ فلقد قدم لنا كل شئ، ولم نقدم له أي شئ.