الصلاة وارتقاء المنازل (في صلاتهم خاشعون)
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
ينتقل بنا القرآن بالوصف من حال (الإنسان) في سورة (المعارج) إلى درجة (المؤمنون) في سورة (المؤمنون)، وبعد الارتقاء بالإنسان من الحالة البشرية الأرضية إلى درجات عما ذكر له بأكثر من وصفه الأول “ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)” حيث لم يأت ذكر الإنسان في القرآن إلا على حالة إما من الهلع والجزع أوالجحود والكفران والتظاهر على ربه، وحب المال حبا جما، وشح النفس، وغل اليد، والإسراف، وإهلاك المال اللبد.. الخ.
ثم تأتي الصلاة فترقى به إلى معارج القبول والتزكية النفسية والجسدية والعقلية لتجعل منه هذا النمط الجديد “إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)”.
فهل سما منهج في الكون مثل هذا السمو، فارتفع بهذا المخلوق من أسفل سافلين إلى أحسن تقويم؟! ومن وصف الهلع والجزع إلى حفظ الأمانة والعهد والفرج والقيام بالشهادة، والصدقة والصلة للسائل والمحروم، والتصديق بيوم الدين؟ وهو من أثر الصلاة التي تخلفه من الطهارة البدنية والسلوكية حتى تغلب ذات الإنسان الروحية (أشبه بالملائكة ) ذاته الحيوانية المنكبة على شهوات الجسد ورغائب النفس.
ثم تأتي سورة المؤمنون لترتقي بهذه الروح إلى مقام أعلى، وتعرج به من تعبيد أحوال الجسد والسلوك إلى تزكية أحوال القلب والروح وهي ((الخشوع))، فتقدم بين يدي السورة الجزاء، والعهد الرباني بسبق (الفلاح) قبل ذكر العمل ، وهو منتهى الترغيب في الأجر وانشغال القارئ بهذا الفوز المقطوع به قبل العمل حتى تنشغل النفس بما يحققه من العمل فتزداد انكبابا عليه وإقداما وحرصا عليه..
“قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)”، وهو انتقال من الحالة السلوكية في الصلاة ب (دائمون ــ يحافظون) في سورة المعارج، إلى الحالة القلبية (خاشعون) ، ثم نلاحظ حرف الجر (في) الذي يفيد الاستغراق في حال الخشوع مع الخاشعين، كما قال الله تعالى لمريم “ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)” [مريم]؛ مع التأكيد على روح الجماعة في الصلاة كما في سائر العبادات: [اهدنا الصراط المستقيم ــ فاذكروني ــ فاذكروا الله ـــ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ــ فإذا قضيتم مناسكم].
والخشوع هو: [الخضوع والذلة والسكون، أي سكون القلب ]، وهو الأثر الروحي أو القلبي المتأتي لما كان من المداومة والمحافظة على الصلاة، فكان مرد هذا على القلب حتى صار في حالة من الخشوع، ثم يكون مرده أخرى من القلب إلى الجوارح حتى يصير لها عادة بعدما كان مجاهدة، كما يقول أحدهم “جاهدت نفسي على العبادة زمنا، ثم تنعمت بها ما بقي من عمري”.. ونلاحظ الفارق البين بين هذه الأوصاف الواردة في سورة المعارج وهي حال من التربية الأولية لهذا الإنسان الذي لم يألف بعد أدبيات العبادة حتى يمارسها فيتغير نمطه السلوكي، ثم يرقى أو يعرج حتى يصير في ركاب (المؤمنين)، فيرد على قلبة من الخشية والذلة والسكينة ما يقطع له أن يكون من أهل الفلاح “قد أفلح المؤمنون”.
وقد ورد عن ابن المسيب ابْنُ الْمُسَيِّبِ أنه رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَانِحُهُ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث (المسيء صلاته ) «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، وقد بعض الفقهاء الخشوع من فرائض الصلاة؛ ومنه ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث “ثم اركع حتى تطمئن راكعا.. ثم تطمئن ساجدا.. تطمئن رافعا”، وقد روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أُنزلت علينا عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) إِلى عشر آيات» ، رواه الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» .
وقد ورد التعبير بالإسم (خاشعون) دون الفعل، حيث الفعل يدل على التجدد والاستمرار، أما الاسم فدلالته الثبوت والاستقرار وهو ما يعني أنه أصبح وصفا ملازما لهم دون أن يكون فعلا متجددا، يمكن أن يفارقهم أو يزايلهم ، كما نلاحظ مناسبة افتتاح السورة لخواتيم ما قبلها من (سورة الحج) “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)“، ثم يأتي التعقيب عليها سريعا بقوله “قد أفلح المؤمنون”.. فالخطاب في خواتيم الحج للذين آمنوا، ثم يتحقق هذا الإيمان حتى يصير وصفا وعلما على هذه الفئة حتى توصف ب (المؤمنون) ومنه يتحقق لهم الفلاح، ويحق لهم وعد ربهم حين امتثلوا لأمره طائعين .
كما نلحظ هذا الازدواج والتكامل بين عالم الجسد وعالم الروح (القلب)، وبين سلوك البدن وخشوع القلب .. كل هذا يتحقق فقط مع الصلاة، فما بالك بمن يتمثل دعائم التربية من سائر العبادات الأخر؛كذلك يدحض هذا حجج دعاة الفسلفة المادية التي تؤطر الإنسان في أحادية الرؤية الجسدية الكيمائية، ولا تفصله أو تميزه بشيء من الخصوصية الروحية والتكاملية عن منظومة الكون.. وهو محض افتراء وازدراء لبدعة الخلق الربانية ..
كما في الآية كذلك رد على الطرف الآخر من دعاة الرهبانية والبوذية الذي يهملون عالم الجسد ويزدروا حاجاته المادية، حتى يبلغوا حالة الصفاء النفسي والارتقاء الروحي، وهو ظلم بين لبعض من خلق الله في أنفسهم، ومناقضة للفطرة، وهضم لحق الإنسان الجسدي ، فلا يصيرون إلا كما قيل “لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”. وقد ذكر القرآن بعض هذه النمطيات منتقدا ما أسرفته على نفسها، وأنها لم تستطع بما فرضته على نفسها التخلص من ازدواجية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقال”.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..”
أما الإسلام فلا يٌرقى الروح إلا من خلال سلوك البدن، وهو ما شرع من (العبادة)، وما سنه من الشعائر، حتى يخشع القلب، ثم يكون من ذلك بعد ذلك مردا على الجوارح والسلوك “ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)”[الروم].