زراعة الشرائح الإلكترونية بين سندان الربيع السيبراني ومطرقة الثورات المضادة
د. إبراهيم محمد الزنداني | باحث في الأمن السيبراني والجرائم الإلكترونية ومحاضر في جامعة فطاني ـ مملكة تايلند
لا ينفك عمالقة التكنولوجيا الرقمية بعد الثورة التي أحدثتها تقنية المعلومات عن مباغتة البشرية بكل ما من شأنه إدماجهم وتوطينهم في العالم السيبراني تارة بالترغيب وتارة بالترهيب وفي أكثر الأحيان الإغراء إن صح التعبير، وفي غمرة ما كانت البشرية تنعم بحصاد ثمار ربيع التطور التكنولوجي والرقمي سواء في المجال الطبي أو التعليمي أو الاقتصادي أو الخدمي كانت الثورات المضادة تمتطي تلك الطفرة الرقمية محولة العالم السيبراني إلى ساحة للتفاعلات الدولية تدار فيها صراعات ومواجهات وحرب مفتوحة لا مكان فيها للأخلاق والمبادئ والمعاهدات والمواثيق الدولية، أطرافها مليشيات إلكترونية ومرتزقة وقراصنة سيبرانيين يعملون إما لحساباتهم الخاصة أو لمافيات العالم السيبراني أو تحت كنف دول توفر الدعم بكافة أشكاله وتؤمن لهم ملاجئ آمنه من الملاحقات القانونية، ثم ما لبثت أن دفعت تلك الأنظمة والحكومات بثقلها في تلك الحرب المفتوحة تحت شعار حرب الكل ضد الكل، فشكلت الجيوش الإلكترونية وأنشئت إدارات للتجسس الإلكتروني واعتمدتها الدول الكبرى قوة ناعمة لإرغام وكسر الأعداء دون الدخول معهم بحروب مباشرة تكون تكلفتها المادية والبشرية باهضة الثمن وللتجسس أيضا على الدول الصديقة بينما غرقت دول العالم الثالث والحكومات المستبدة في وحل قمع شعوبها في أكثر من مكان في العالم بعد الانتشار اللا مسبوق للتكنولوجيا الرقمية بين المجتمعات وذلك عبر إحكام الرقابة على الإنترنت وشراء البرامج التجسسية وتدريب اللجان الأمنية الإلكترونية على استخدامها للتجسس على مواطنيها وإطلاق الذباب الإلكتروني للتشويش على القضايا المجتمعية والمطلبية الحساسة التي تثار في مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الذي استمرت فيه الدول ذات المشاريع الاستراتيجية تطوير قدراتها الردعية السيبرانية بل وشن الهجمات السيبرانية على دول كبرى ظنت أنها في مأمن من تلك الهجمات فسرقت بحوث علمية بمئات الملايين من الدولارات وعطلت منشئات ومصالح حيوية تجارية واقتصادية وبنى تحتية بسبب هجمات إلكترونية طالتها من دول ضعيفة مقارنة بقدراتها الهائلة ولازالت الأعمال العدائية ضد المصالح الحيوية للدول مستمرة في الانزلاق إلى أتون مستنقع خطير جدا حتى وصل الأمر حد مهاجمة أنظمة المنشآت العسكرية بهدف إعطابها وتدميرها وقطع الاتصال عن السفن أو الغواصات الحربية في أعماق المحيطات والتشويش عليها وكذا شن هجمات سيبرانية على المنشئات النووية والمساس بأنظمة الحماية فيها وتعطيلها وشل أنظمة التشغيل فيها وهذا أمر يعكس مدى عدم النضج والجنون الذي وصل بالمعنيين حد عدم اكتراثهم واستهانتهم من إمكانية حدوث كارثة نووية قد تكون هي الشرارة الأولى لحرب عالمية بدمغة سيبرانية لا تبقي ولا تذر.
وبين المشهدين الواعد والسوداوي الذي تعيشه البشرية في العالم السيبراني تتواصل الإبدعات والاختراعات التكنولوجيا الرقمية في إبهارنا فبعد الحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء والواقع المعزز ظهرت تقنية زراعة الشرائح الإلكترونية في أجساد البشر مثيرة موجة من اللغط حول جدواها وانقسمت وجهات النظر بين فريق مؤيد ومشجع ومتفاءل بـاعتبارها سبق علمي جديد سيعود بالنفع على بني البشر في كافة المجالات الطبية والاقتصادية والخدمية وفريق آخر مشكك ومثبط ومتشاءم من تداعياتها الخطيرة والمدمرة فتمكنوا بذلك من تشتيت انتباه الجماهير واستدراج وعيهم نحو نظرية المؤامرة مذكرين إياهم بالأيادي الآثمة التي تستغل كل فتح علمي للإضرار بالبشرية ومحذرين من مغبة استخدام تلك الشرائح التي ستحولهم إلى ريبوتات تتحكم بهم تلك الأيادي عبر هذه التقنية الرقمية فضلا عن أضرارها الفتاكة التي يراد من خلالها القضاء على أكبر قدر من الجنس البشري على هذه المعمورة.
وما لا يمكن إنكاره أن الفريق الأخير قد نجح في إثارة حفيظة شريحة كبيرة جدا من الناس بحيث عادت وتركزت جل التساؤلات والمخاوف حول الأمن والأمان والخصوصية وهو ما منح المشتغلين بالمنظمات والهيئات الحقوقية فرصة للإيغال في التشكيك بنوايا الحكومات والدول حال تم تداول واستخدام تلك الشرائح الإلكترونية على نطاق واسع مشيرين إلى ديدن الأنظمة الحاكمة مع كل إنجاز تكنولوجي رقمي يصبح في متناول الشعوب والأفراد ومستحضرين أرصدتها الحافلة بانتهاكات خصوصيات مواطنيها وتعقب وترصد دعاة الحرية وأصحاب الكلمة والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وجوهر القول أن تقنية زراعة الشرائح الإلكترونية في أجساد البشر لن يختلف حالها عن حال سابقاتها من التقنات التكنولوجية الأخرى فإن أثبتت نجاعة وساهمت في خدمة وتسهيل حياة البشر فإنها ستنتشر كالنار في الهشيم وسيصبح وجودها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها أو أنها ستندثر كغيرها من التقنات التي لم يكتب لها النجاح في جذب اهتمام المستخدمين، وهنا يجدر الإشارة إلى أنه حال أثبت العلم أمان وسلامة استخدامها فإنه لا بد للمشتغلين بالعلوم الشرعية والقانونية أن يدلوا بدلوهم وأن يجتهدوا في وضع القواعد القانونية والضوابط الشرعية خاصة وأن تلك التقنية إن حسن استخدامها فستنقل البشرية إلى بعد جديد من النماء والرخاء باعتباره مصدر معزز لأمن وأمان بني البشر.
باشا والله باشا .. أفكارك دائما خارج الصندوق .ز بالتوفيق بروف….