موعدان.. قصة قصيرة
د.سامي الكيلاني | يعبد – فلسطين
نزل من القطار واتجه نحو مخرج المحطة لينطلق في شوارع المدينة. جاهد بيد واحدة ليرتدي المعطف البلاستيكي الذي سيحميه من مطر كوبنهاغن الصيفي الذي بدأ بالنزول قبل وصول القطار المحطة بدقائق. ذراعه اليسرى معلقة بكتفه ورقبته بواسطة حمالة خاصة، الوضع يذكره بالمرات السابقة التي كسرت فيها ذراعه في طفولته، لكن الحمالات التي كانت تحمل الذراع مثنية من المرفق إلى الرقبة كانت من أي قماش يتوفر في البيت، أما هذه الحمالة فهي من شركة خاصة بصناعة الأدوات الطبية المساعدة، هكذا قال له صاحب المستودع، ضحك يومها “إذن يمكن أن تخدمني مرة أخرى إن كسرت ذراعي؟”، أجابه صاحب المستودع ضاحكاً “هذا إذا حرصت أن تكسر الذراع اليسرى نفسها مرة أخرى، أما إذا كسرت الذراع اليمنى فأنت بحاجة إلى شراء حمالة أخرى، وبعدها اكسر الذراع التي تريد وستكون عندك الحمالة المناسبة”.
تناول زهرة قرنفل حمراء ملفوفة بورق السلوفان من بائع أزهار عند مخرج المحطة، حمل الزهرة بكف يده المكسورة ليقدمها للحورية، قال “كثيرون يسعون من أجل حوريات السماء، أكثير عليك أن تقدم وردة لحورية الأرض الوحيدة، لحورية البحر التي خرجت تستريح من الماء فتجمدت صخرة على هذا الشاطئ؟ إنها تستحق ذلك لجمالها ولصمودها على هذا الشاطئ منشغلة بعدّ الأمواج وانتظار المراكب”.
سأل سيدة بالغة الجمال رغم عقدها السادس، كما قدّر من بعض التجاعيد في عنقها، عن الطريق من هنا إلى الحورية، فأشارت إلى الاتجاه الذي عليه أن يسلكه، أراد أن يسألها إن كانت بعيدة من هنا ويقدم لها شكراً مطولاً على لطفها يسمح له التأمل لفترة أطول بجمالها، لكنها انشغلت بالرد على هاتفها المحمول الذي رن في الوقت غير المناسب. إذن ليبدأ الاتجاه، وبعد مشي عشر دقائق أخرى سيسأل عن بقية الطريق إلى الحورية، لا يمكن أن تكون قريبة من محطة القطار، الحوريات ينأين بأنفسهن عن الضجيج، عالم البحر الأزرق العميق الذي تحمل الحورية جيناته في كل خلية من جسمها لا يتماشى مع ضجيج القطارات. سأل مرة أخرى عجوزاً عن الاتجاه فأشار له نحو الاتجاه ذاته، وسأله إن كانت المسافة معقولة ويمكن مشيها فهز العجوز رأسه موافقاً.
لو قال لأحد أصدقائه أنه يمشي تحت المطر وبذراع مكسورة تحمل زهرة قرنفل حمراء ليزور حورية من الصخر لسخر منه، لكنه مصمم على الوفاء بالموعد حتى ولو زاد المطر. سأل نفسه إن كان يسعى إلى حورية البحر أم يعيش ذكرى موعد قديم يتمنى أن تكون صاحبته معه في هذه المدينة ليزورا معاً الحورية؟ جميل أن تجرب مرة أخرى بعد هذا العمر السعي إلى موعد غرامي، الحورية التي تنتظره على صخرة هي شريكته في الموعد الغرامي هذه المرة. المطر يزداد غزارة وهو يغذ الخطى نحوها. يستحق الموعد والموعودة هذا المشي تحت المطر. وجود معطف المطر هوّن الأمر عليه، جدد شكره للصديق الدنماركي الذي أعطاه المعطف، لولاه لما كان بإمكانه أن يستمر في السعي نحو هذا الموعد، قال له الصديق الدنماركي “هذا صيف أوروبي لا يؤمن جانبه، خذ هذا المعطف، سينفعك”. الطريق أصبح أطول مما توقع والمطر لم يتوقف، لكن عزيمته لم تفتر. أقنع نفسه بأن التعرف على المدينة سيضاف إلى ثمرة الموعد الموعود فاطمأن أكثر أن ما يفعله لا يدخل في باب العبث، ومهما كان فإن الأمر محصور بينه وبين نفسه، هذه النفس الأمارة بالغرائب أحياناً والتي يمتثل لأوامرها طائعاً، خاصة عندما يكون وحيداً ولن يسجل أحدٌ عليه هذه الغرائب. فما العيب إن أمرتك النفس في هذا العمر، مثلاً، أن تتمدد على العشب الأخضر مواجهاً صفحة السماء مصلوباً تحدق بصفحة السماء غير عابئ بمن حولك، أو إن أمرتك بأن تقلّد الأطفال الذين يتدحرجون على العشب من أعلى التلة الصغيرة إلى أسفلها فتطلق لطفولتك الدفينة العنان وتتدحرج مثلهم.
أخيراً ظهرت له الحورية عن بعد، ظهر رأسها من خلف الحديقة الصغيرة في نهاية الرصيف، تذكر أن اسمها الحورية الصغيرة، وها هي صغيرة، ظنها أكبر من ذلك، لكن فرحته بالوصول إلى الموعد لم تنتقص، بقيت صاحبة الموعد وصاحبة الهالة حتى وإن كانت صغيرة. يلتمع جسدها بالبلل، بوده لو يسألها أي البللين ينعشها: بلل المطر أم بلل رذاذ الأمواج التي تضرب الرصيف قربها. تمنى لو كان بإمكانه أن يعدو نحوها فتقوم وتركض نحوه لتعانقه، سيسألها سؤاله عن البلل وسيسألها إن كان رذاذ الموج يحمل لها رسائل الحوريات من عمق البحر، وهل يحيي فيها الرذاذ القادم من البحر حنيناً لأول منزل ويجدد آلام غربتها القسرية عن المنزل الأول وعن رفقة الحوريات اللواتي لم يتحولن مثلها إلى حورية من صخر. تخيلها ستسأله بدورها “هل تستعيد المواعيد التي ضيعتها وتعوضها في مواعيد مع حوريات البحر المصلوبات على الصخور؟”.
قرر ألاّ يسألها وألاّ يخرج عن أصول التعامل مع الحوريات تأدباً.
وصلها، تقدم كما ينبغي في حضرة الحوريات، قدم لها زهرة القرنفل الحمراء التي حملها من محطة القطار، قدمها منحنياً كنبلاء العصور الوسطى الرومانسيين أمام سيدات القصور، وتفقد بيده السليمة جسدها الصخري المبتل. مد كف يده السليمة إلى جيب معطفه الداخلي باحثاً عن الخطاب الذي حضّره ليلقيه أمام الحورية، لم يجد الورقة، يبدو أنه نسيها في غرفته في المدينة الشمالية التي جاء منها. ارتجل خطاباً رزيناً بعيداً عن الأسئلة التي راودت النفس الأمارة بالسوء… يا سيدة الصخر والماء المالح، يا رمز المنفيين عن المنزل الأول، هذه زهرة من معجب جاء من الشرق، زهرة من إنسان يعيش تحت آخر احتلال في العالم، أتذكرين الفايكنغ يا سيدتي، أنا متأكد أنك لم تحبي أفعالهم وأنك من تلك الأفعال براء، أنتن معشر الحوريات لطيفات أنيقات لأن صفاء الماء العميق يمنحكن صفاء الروح. على كل يا سيدتي أصبحوا تاريخاً ولم يبق منهم إلاّ تلك القرون التي يلبسها الناس هنا للتسلية. ما ذنبك أنت؟ لقد كنتِ وقتها تحت الماء، أليس كذلك؟ هل سمعتن، معشر الحوريات، بما كان يحدث؟ هل تسمعن عمّا يحدث في هذا العالم؟ هذه زهرة من بلد المسيح، هو صلب مخلّصاً وأنت هنا ثبتوك بعيداً عن وطنك المائي، أنت مخلّصة الحوريات الأخريات، تعلمن منك حذر الوقوع في الشِّباك المنصوبة لهن، فنجون من الأسر عند بني البشر.
أخذ نفساً عميقاً ليفكّر في إكمال خطابه، وتأملها ليرى وقع خطابه عليها.
اضطرب وطار ما تبقى من خطابه الرزين المرتجل، ظهر من وسط الجسد الصخري وجه إنسي، وجه صاحبة الموعد الغرامي القديم الضائع، ثم بدأت بالخروج من الجسد الصخري كما يخرج الجنين حتى اكتملت وهو ينظر إليها معقود اللسان. انحنت الإنسية التي ولدت من الصخر وتناولت زهرة القرنفل من حضن الحورية وحملتها ثم طوقت عنق الحورية واضعة رأسها ملاصقاً لرأس الحورية، اضطرب وانعقد لسانه. أخرج الكاميرا المعلقة برقبته من غلافها ليلتقط صورة لصاحبة الموعد الضائع مع صاحبة الموعد الجديد، أسند الكاميرا بكفه اليسرى وبدأ باليد اليمنى بضبط عدسة الكاميرا.