عشق الأرض.. من أدب الأطفال
سنا نضال ديوب | سوريا
تعرفهُ الطّبيعة..تحفظهُ الأشجار..تدركهُ الورودُ جيّدِاً.
كانَ الجَدّ “صالِح” ذلِك المُناضِل بينَ حبّات التّراب..ا
يسكُنُ مسكَنُهُ الّذي لا يكاد يتجاوز غُرفةً بثلاثةِ أمتار..يضعُ في حجرةٍ صغيرة أعسانَ أرضِهِ مِن قوتٍ تقضي حاجته، وَ في تلك الحجرة المجاورة بعض الصّور العجوزة أبلقة اللّون إثر حربها مع الزّمان ،في قلبِها تلك يستوطن قلبهُ..وَ هوَ “عمّار” ابنهُ الشّهيد الّذي شقّ رمسهُ الزّمان في ذروة شبابهِ.
وَهُناكَ فِراشهُ المتواضِع المتوضِّع في الزّاوية الأخيرة..مِن نافذتهِ يرى معطفهُ السّتّيني الّذي أُلبِسَ لتلكَ الخشبتين المُتعامدتين على شكل صليب ،نِتاج أنامله لحماية مزروعاته من الحيوانات.
تمرّ عليه الأيّام وَهوَ في هذه الأرض ،
وَفي يومٍ بينما كانَ يستريح مِن عملهِ وَ يتوسّد الصّخرة المُفضّلة لهُ وَالّتي كانت ملاذه في كلّ الأوقات..لاحظَ صوتَ صفير، لم يأبه للمرّة للأولى ظنّاًَ أنّهَُ مِن بُلبُلٍ ما
نَظَرَ ثانيةً وَ إذ بطفلٍ تغمُرُ البراءةُ نَهرَ عينيه يُحدّقُِ بِالجَدِّ وَ يرفعُ رأسهُ إلى أعلى قدرٍ مُمكِن كأنّه يتعجّبَُ مِن أمرٍ ما…
_ الجَد :أهلاً يا بُنيّ العزيز ..قُل لي هل هُناك شيء؟
الطّفل لا زال ينظُر وَ لم يقُل شيئاً بَعد…
_ الجَد: أيُمكنني أنا أُساعدك في أيّ شيء؟ لا تتردّد في طلب ذلك !
-الطّفل : جَدّي..أنا أراك كل يوم هكذا ..أليس لديك أولاد كل ألعب معهم؟ أليس لديك زوجة ؟ أأنت لوحدك لمَدى عُمرك..؟!
_ الجَد (بضحكة استلطاف): تعالَ معي..
انظُر إلى هذه الشّجرة هُنا..إنّها شجرة لفاكهة تنحدر لأصلٍ إفريقيّ وأنا لا أذكر اسمها حتماً…لكنّها لم تنضج بعد
اقطُف ثمرتان منها..
هل حدثَ شيء لمظهر الشّجرة؟
– الطّفل: لا ..لم يحدُث
_ الجَدّ : في الحقيقة أنّه لا لأحد أن يحكُم مِن خارج الأمور..جذر الشّجرة المغروس تحت التّراب لا يراه أحد ..كذلك القلب الّذي يسكُننا
أنا تلك الشّجرة وَ الثّمرتان هُما الشّهيدان: ابني عمّار ،وَ زوجتي الّتي لا أمتلك لها صورة حتّى !
غيابهما عنّي قبل أوانهما لا يعني ذبولي وَلكِن لن يغدو قلبي كما كان ، وَ ستبقى زاوية في لا حياتي لا يصل إليها النّور.
الحرب حرثت أرضي قبل نضوجها،وَ ها أنا أزرع الأضعاف .لم أُخلق لاستسلم لأعاصير الزّمان .
بالمُقابل لديّ أكبر عائلة.أنا لستُ وحيداً ! أنا مُلهِمي الحَمام وَ صديقي الكلب ..أنا أجدادي الشّجر وَ أولادي الأعشاب ..أنا أمتلك أكثر من أيّ شيء ! وَ لن أُفارِق أرضي في حياتي أو موتي.. فإنّني الآن فوق ترابها وَ بمرور سنوات سأكون تحتهُ…إنّها عالَمي الّذي لا أستغني عنه
وَ لن أردّ معروفها لي إلّا بكوني أحد مكوّناتها، فعندما تُفارقني روحي سيستحيل شعوري بأنّني وَ أنّها جزءان من بعضنا إلى الواقع العمليّ بدفني في داخلها .
بُنيّ…لا تنحنِ لأيّ شيء . ابْقَ الشّامخ الثّابت. أنا لم انحنِ يوماً لهذا الزّمان إلّا حين زراعتي في أرضي!وَ ما بعد انحنائي لأهدافي إلّا حصادي
رَفعَ رأسه الطّفل مُعجباً..وَ معَ رفعهِ لرأسهِ ارتفاع إحساسه بأنّه كبِرَ خمسين سنةً في خمسة عشر دقيقة !
– الطّفل : أنا أشكرك كثيراً.فقد أخذتُ دروساً عظيمةً عن الحياة.أتمنّى لك كلّ الخير يا جدّي ، شُكراً !!
_ الجَد : العفو يا صغيري ،وَ أنا أتمنّى لك ربيع العُمر وَ بياضهُ .
وَ هَذا الزّمانُ .ليسَ كلُّ نحيل هزيل.وَ ليست هشاشةُ الجسد هشاشةَ المُهجة .تِلك الأيدي بعطائها غيوم ، عروقها البارزةُ الرّعد . وَدَقُها عَرَقُها إثر جِدّ عَمَلِها .
الجَدّ صالِح هوَ ابنُ الشّمس الّتي لم تُفكّر يوماً أن ينسحب نورها أو تبخلَ على أحدٍ بِه .
خيوطُ الشّمسَِ تجاعيدُ وجهه .الّتي تحكي أساطير الحكمة وَ السّطوع..وَ تروي قصصَ الزّمان للزّمان .