مقاطع من موسيقي الحجارة.. عزف منفرد على آلة المقلاع
بقلم _ مجدي بكري _ مصر
زيدينا طربا.. زيدينا
زيدينا طربا يا أحجار الأرض المحتلة
يا أجمل قطعة موسيقى
نترقبها منذ سنين
تمضى الأيام
وما زلنا نطرب
ما زالت فرقة أطفالك تعزف..
تحتضن الآلات الحجرية
تُصدر أنغاما غجرية
تقذف حمما نارية
لم يتعب هذا الكوال
ولن يتعب..
لم نسمع باقى الأغنية!
لاتوجد فوق المسرح
آلات أخرى
غير “المقلاع”
عبر وكالات الأنباء
وشاشات التلفاز
وموجات المذياع
تمتع كل الأسماع
الحجر يغنى ويغنى
والسطوة تنهار وترتاع
اللحن يثور
والثور يخور
والخوف يفر
ويهرب من قلب الصبية
ليسكن فى أفئدة الأعداء
يرتفع اللحن ويتتابع
تعلو أصوات قنابلهم
الحارقة.. النابلم.. العنقودية
كل الأسلحة النارية
لاتقطع عزف الملحمة الحجرية
لا تصبح إلا موسيقى تصويرية.. للخلفية.
فى أمسية
كان مهند يعزف،
لحنا حجريا منفردا..
كان “مهند” يعزف،
كان مهند يقذف
أحجارا بركانية
ومهند هذا
ـ لم يتعد الإثنى عشر ـ
هجم النازيون عليه
لطموا وجهه..
كسروا كفيه..
قالوا: يا أنت..
من علمك العزف على الأحجار؟
قال: محمد
قالوا: أين محمد هذا؟
قال: بداخل هذى الدار
كسروا باب الدار ودخلوا
نبشوا فى كل الحجرات
وأخيرا.. وجدوه
طفلا عمره تسع سنين
الطفل محمد..
كان هو الأستاذ!
الله أكبر لم تكن إلا بداية
بعدها كان العمل
كان الحجر
يا شعبنا لن تنكسر
لن تنصهر
من يمنع الأعاصير من عصفها؟
من يوقف الأبابيل عن قصفها؟
من يخمد البراكين
إن تنفجر…؟
تلك أنغام الحياة..
سنبنى الحياة
بهذا الحجر!
سامحينا
[يونيو 1986]
°°°
سناء
فى إحدى قرى الجنوب اللبنانى، قرب مقر القيادة الأمريكية ببيروت، كانت سيناء محيدلى الصبية الصغيرة قد قررت الاستشهاد فى سبيل قضية شعبها الفلسطينى ولتسهم بجسارة فى بث الرعب فى قلب العدو الإسرائيلى، واستقلت سناء سيارتها المحملة بالمتفجرات واندفعت وسط قافلة للعدو لتفجر نفسها بينهم وتقتل وتصيب حوالى مائتين منهم.. وتركت لنا شريطا بصوتها تروى فيه بكلمات معبرة ومختصرة ما ستفعله .. ولماذا؟
أواه يا ابنة الجنوب
لاندرى ماذا نقول
من بعد قولتك؟
تبعثرت كلماتنا.. تكسرت مآقينا
آهِ
فلنتوار خجلا
فلنهرب خزيا
فلندفن ذاك الرأس الأحمق
تحت الرمل.. فلنصمت..
فلنغلق أعيننا..
لا تعليق
فكلامك لا يحتاج إلى تعليق
لم تحتاجى تمهيد
أو شرح أو تشويق
كلماتك لم ينقصها وزن
أو تنسيق
فلنقتل آلاف الكلمات الشوهاء
فلنلعن تلك الخطب الجوفاء
فلنحرق كل قصائدنا
فلنسكت كل أغانينا،
فلنقذف كل خزائننا..
فى جوف البحر،
فلنهرب من كل العالم
فلنهرب..
من هذا الضعف العالق فينا
آهِ.. كلماتك تكوينا
تحرقنا،
تقتلنا.. تُفنينا..سامحينا..
نقولها من بعدما احترقت..
بعدما أردتٍ.. أن توقظينا
أن تشعلى النخوة فينا
تحركينا
ماذا فعلنا.. وماذا سنفعل؟!
ذرفنا فوق أشلائك الدموع
نعم..
قد بكينا.. وطال البكاء
وقناء سناء..
سناءٌ.. سناءْ
.. وماذا بعد؟!
سننفش اسمك فى سجلاتنا
نضمها إلى عدم أسماء
إلى عدة شهداء
سنطلق إسمك على بعض شوارعنا
وننثر فوق ثراكٍ مئات الورود
ونقسمُ أنا يوماً ما..
سوف نعود
سنسرف فى الأمنيات
سنأخذ على أنفسنا مئات العهود.. مئات الوعود
وسوف ترينا
ـ كما تعودت دوما دوما أن تجدينا ـ
نتثاءب باسترخاء ..
ونرجع إلى خمولنا لمعهود
رجاء،
أن تسامحينا
سامحينا..!
°°°
وقالوا إننى مجنون!
[1985]
سليمان خاطر.. جندى مصرى كان يؤدى خدمته فى سيناء الحبيبة ..واستفزه بعض الإسرائيليين وبصقوا على العلم المصرى وأهانوه .. فأطلق عليهم نيران بندقيته..واعتقلته السلطات .. وقيل ـ وقتها ـ إنه مجنون!!
[1]
قولوا لكل الناس..
إنى لم أجن.
هذا لأنى قد سمعتُ
رمال سيناء تئن
إنى أبيت العيش
فى وطن يهان
إنى رأيت جذوع النخل تمقتنى،
وتصرخ فى عيونى:
يا جبان!
إنى شعرتُ بأن صخور التل
تذبحنى..
والماء يغرقنى
ويمحونى الزمان..
ولربما..
ـ حين انطلقت رصاصاتى ـ
كان عقلى بَينَ بينْ
لكن أنا..
أنا صدقونى..
لم أجن.
[2]
إنى أردت الطير
لم أستطع كبح الجماح..
نعم..
أردت الطير فى بلدٍ
يراد له..
أن يكون بلا جناح..
أرادوا
أن يظل الليل يخنقنا
ولا يأتى صباح
أرادوا أن نصافحهم
ولهم فينا جراحٌ.. وجراح
.. يا قوم:
إن عدونا لا يؤتمن..
أنا لم أُجن
أنا لم أُجن
[3]
وأنا صغير
ـ هناك فى بحر البقر ـ
رأيت رؤوس أصحابى تطير
والفصل يسقط
والمقاعد،
والصور
واللهو يقطعه أزيز الطائرات
والدم ينزف من قلوب طاهرات
إنى سمعت الموت ينطق
والسكات..
ورأيت وجه أعدائى القبيح
لكل شئ يستبيح
أحسست
إنى قطرة من دمّ
فى وطن ذبيح
..وبدأت أكرههم وأكره وجههم
واليوم..
اليوم قلبى يستريح
ويطمئن
لكن أنا..
أنا.. صدقونى ..
لم أجن.. لم أجن.
[معلق أنا فى مشانق الصباح/ وجبهتى بالموت محنية/ لأننى لم أحنها حية ] «أمل دنقل»
قتلناك!!
1 فبراير 1986
فجأة .. قيل أن سليمان خاطر قد انتحر فى سجنه!! وذلك بأن ربط رقبته بحبل فى شباك غرفة السجن.
سليمان .. سليمان.. سليمان
قتلناكَ
يا آخر عقلاء هذا الزمان
ذبحناك
على حائط المبكى
قدمنا رأسك قربان
وهدمنا المعبدَ فوقك
فوقك وحدكْ
ورمينا خاتمك السحرى
فى جوف البحر
وخرج إلينا ملوك الجان
فى زى الرهبان
سليمان
سيشهد علينا الزمان
بأنا جَبٌنَا
وأنك ما كنت يوما جبان
سيشهد..
سيشهد بأنا سنندم يوما
ولكن،
بعد فوات الأوان
سنندم..
ونعلم
من منا كان المجنون؟
مَن مِنا كان يخون؟
سنعلم معنى
“من عاش لنفسه..
ما استحق أن يكون”
سنعرف
بعد أن نرى بيننا
من لبنان عشرين
سنندم
بعدما.. لن نكون
سليمان
اسمك فى كل فم
جرح ودم،،
يصرخ فى وجه كل البشر:
سليمان لم ينتحر..
لم ينتحــر!!
°°°
«البيت الأبيضُ»..
ما عاد كذلك!
أصبح أسود
مثل الليل الحالك فى بغداد
أصبح أحمــر
كالدم النازف فى الخرطوم
أصبح أصفر
كالرمل القاحل فى طبرق..
البيت سيتهاوى حتماً
من أنات الموجوعين
من صرخات المطعونين..
من دمعة طفل فقد أباه بغزة..
من ألم الطفلة تتلوى فى كوسوفا.
البيت سيتهاوى حتماً
لن تبقى أمريكا أبداً
جاثمة فوق صدور الضعفاء.
يا هذا العالم..
يا كل محاكم هذا العالم
يا كل قضاه الكون
شرقى أو غربى
أين العدل؟
من يصفع وجهك يا عربى
فلتفتح صدرك له
كى تتلقى طعناته
حتى لا تصبح “إرهابىْ”!!
أمريكا.. ما عادت “رعاية سلام”
أمريكا .. صارت راعية
للذئب الصهيونى!!