القدس: عن تثبيت الوجود كمعركة مستمرة
د.وليد سالم | سلوان- القدس
طُرح في السبعينيات من القرن الماضي ما أُطلق عليه اسم “استراتيجية تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه”. وعبّرت هذه الاستراتيجيا عن نفسها من خلال الدعم المالي لقطاعات السكن والزراعة والصحة وغيرها، ونشطت الدول العربية والإسلامية في هذا المجال، كما بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم أول مليون دولار سنة 1975 تحت عنوان آخر سُمّي “تحسين أحوال معيشة الفلسطينيين”، وسار الاتحاد الأوروبي في الركب ذاته.
لاقت سياسات دعم الصمود لاحقاً انتقادات واسعة تم التعبير عنها في “مؤتمر التنمية من أجل الصمود” الذي عقده الملتقى الفكري العربي في القدس سنة 1983، وتركّز النقد على أمرين: الأول، أن مفهوم دعم الصمود انطلق من النظر إلى الإنسان الفلسطيني بصفته كائناً ساكناً لا حول له ولا قوة، وأن ما ينقصه لا يتعدى الدعم المادي لكي يتمكن من البقاء في أرضه، والثاني أن هذا المفهوم ومعه مفهوم “تحسين ظروف معيشة الفلسطينيين” قد توجّها إلى خلق حالات صمود وتحسين أحوال المعيشة في ظل الاحتلال، وذلك عوضاً عن توجههما إلى خلق تنمية متراكمة على طريق التحرر من الاحتلال سمّاها مؤتمر الملتقى الفكري العربي حينذاك “التنمية من أجل الصمود”، وسمّاها خليل نخلة “التنمية التحررية المرتكزة على الناس”، ومع الانتفاضة الأولى أصبحت “تنمية من أجل الصمود والبناء” كما تمت تسميتها من جانب خبراء وخبيرات التنمية في فلسطين حينذاك.
يترتب عمّا سبق أن الإنسان الفلسطيني قد تجاوز على الأرض مفهوم الصمود الساكن (أو التصميد الساكن من خلال الدعم)، إلى الفعل الذي يبني تنمية تحررية موجهة نحو بناء الاستقلال، من خلال خلق السيادة الشعبية من الأسفل كخطوة أولى في مواجهة السيادة الرسمية المفروضة من الأعلى من طرف الاحتلال . تنطبق هذه العبارة على فلسطين، ولا سيما انتفاضتها الأولى سنة 1987، كما أنها تنطبق على القدس موضوع هذه المقالة الموجزة.
في القدس اتخذ خلق السيادة الشعبية الفلسطينية من الأسفل عدة أشكال منذ سنة 1967 تراوحت بين حفظ استقلال المؤسسات الوطنية والوقفية الإسلامية والمسيحية عن الاحتلال، وبين التنمية والمقاومة المبنية على المجتمع المحلي.
في مجال حفظ المؤسسات الوطنية والوقفية، حدث تآكل عبر الزمن في حفظ استقلالية شركة الكهرباء الفلسطينية عن الشركة القُطرية الاسرائيلية، كما حدث تآكل نسبي في استقلالية المستشفيات الفلسطينية عن صناديق المرضى الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك قامت إسرائيل بإغلاق المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المدينة، ومنها بيت الشرق سنة 2001، وتشدد قيودها على منظمات المجتمع المدني الأُخرى. لكن في المقابل حافظت المستشفيات الفلسطينية في القدس على خدماتها لكافة أبناء الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة سنة 1967، بدعم من السلطة الوطنية الفلسطينية وبعض الجهات الدولية. لكن الأهم هو النجاح في حفظ استقلالية الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة منذ سنة 1967، وذلك في إطار عمليات كر وفر مع الاحتلال تسميها هذه المقالة عمليات “تثبيت الوجود”. فالوجود الفلسطيني في القدس ليس معطى مستقراً ثابتاً، بل هو وجود على الفلسطيني المقدسي أن يكافح كل يوم من أجل تثبيته. وفيما يتعلق بالأوقاف نجح المقدسيون في تثبيت الواقع القائم فيها منذ العهد العثماني (الستاتيكو)، لكن بثمن باهظ من الكفاح والكر والفر، ومن النجاحات الأخيرة المعروفة على نطاق واسع يمكن ذكر النجاح المقدسي في منع التدخل الإسرائيلي في استقلالية كنائس القدس من خلال محاولة الضرائب الإسرائيلية عليها سنة 2018. حينها أغلقت الكنائس أبوابها احتجاجاً، وهو ما اضطر الاحتلال إلى التراجع. هنالك أيضاً النجاحات المتعلقة بالمسجد الأقصى، حيث أفشل المقدسيون فرض البوابات الحديدية الإسرائيلية على مداخله سنة 2017، كما أعادوا سنة 2019 فتح مصلى باب الرحمة الذي كان الاحتلال قد أغلقه وخطّط لتحويله إلى كنيس يهودي. لم تكن هذه الإنجازات في المقابل من دون ثمن، فغلاة المستوطنين المستعمرين مثلاً باتوا يستبيحون الأقصى كل يوم ، فهي كر وفر كما تقدم.
وللمجتمعات المحلية المقدسية وتنميتها وتثبيت وجودها من خلال عمليات الكر والفر اليومي مع الاحتلال حكاية أُخرى بدأت منذ سنة 1967 وما زالت مستمرة. والمجتمعات المحلية المقدسية، وعددها 21 داخل جدار الفصل العنصري الاحتلالي و29 أُخرى تقع ضمن محافظة القدس الفلسطينية خارج الجدار، هي موضوع مصادرة الأراضي والاقتلاع والتهجير والإحلال. وهي الحيز الذي يكافح هذه العمليات بصورة يومية. ويتخذ الإحلال الاستيطاني الاستعماري المدعوم بقوة الاحتلال العسكري في هذه المجتمعات أشكالاً عدة، أولها تهويد الأرض والمكان والحيز والإقليم من خلال اقتلاع الفلسطينيين وإحلال المستوطنين المستعمرين مكانهم؛ ثانيها أسرلة المؤسسات من خلال اقتلاع وطرد وإغلاق المؤسسات الفلسطينية في المدينة وإحلال المؤسسات الإسرائيلية مكانها؛ ثالثها تغيير المشهد والفضاء من خلال فرض الطابع العمراني الإسرائيلي على المدينة وتغيير معالمها الأثرية والحضارية، وحفر الأنفاق وإعادة تسمية أماكنها بأسماء عبرية، مثل إعادة تسمية باب العمود في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي باسم ” هدار وهداس” وهما مجندتان قُتلتا هناك، واختراع أماكن دينية توراتية لم يكن لها وجود مطلقاً، مثل المواقع التوراتية الـ 13 التي وردت أسماؤها في صفقة القرن، وأشارت دراسة لمنظمة “عيمق شافيه” اليسارية الإسرائيلية أنها كلها أماكن مخترَعة لم تكن يوماً مقدسة لدى اليهود قط، وإنشاء حدائق توراتية كما حدث بالقرب من الطور والعيسوية وحي البستان في سلوان وغيرها؛ رابعها عزل المجتمعات المحلية المقدسية عن بعضها البعض بمستعمرات استيطانية استعمارية، وكذلك اختراقها داخلياً بخلق جيوب استيطانية استعمارية بداخلها تتوسع تدريجياً كما يجري في حي الشيخ جرّاح، والبلدة القديمة من القدس، وبطن الهوى في سلوان، وفي رأس العمود، وغيرها من المواقع في القدس. ويشمل العزل من جهة أُخرى فصل المجتمعات المحلية المقدسية عن محيطها الفلسطيني في الضفة وغزة عبر نظام محكم من الإغلاق فُرض منذ آذار/مارس 1993.
هذه السياسات الاستيطانية الاستعمارية الشاملة قامت على أساس ضم الأرض سنة 1967، وفصل مواطنيها الأصليين عنها عبر اعتبارهم “مواطنين أردنيين مقيمين بأرض اسرائيل”، وفي السنوات الأخيرة بوشر تسجيل صيغة “مقيم غير محدد الجنسية” لدى قيام المقدسيين بتجديد وثائق السفر الإسرائيلية المفروضة عليهم للتمكن من السفر إلى خارج البلاد.
أسفرت استراتيجيات تثبيت الوجود الفلسطيني في القدس، بما فيها خلق السيادة الشعبية من الأسفل، عن نجاحات فيما يتعلق بالأوقاف الإسلامية والمسيحية وبعض المؤسسات بصورة خاصة، لكنها لم تحقق نجاحات كافية في منع الاقتلاع والترحيل من المجتمعات المحلية المقدسية. إلّا إن تطورات السنوات الأخيرة حملت نجاحاً فلسطينياً في تجميد ترحيل مواطني الخان الأحمر الواقع في محافظة القدس حتى الآن. كما أن عمليات الترحيل الجارية على قدم وساق في حي الشيخ جرّاح ومواقع متعددة من سلوان حالياً استنهضت حالة شعبية مقدسية لمجابهتها، ساندها على أرض القدس فلسطينيو الداخل، وتساندها الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية على مستوى المحافل والمحاكم الدولية، وفي الشهر الأخير اتضح أن الكل الفلسطيني في الداخل وفي الخارج تجند معاً باستعمال وسائل متعددة من أجل إنقاذ عائلات حي الشيخ جرّاح من الترحيل من بيوتها . يعبّر ذلك عن ملمح إيجابي عله يؤدي إلى تجميد ترحيل العائلات من الحي كما جرى سابقاً في حالة الخان الأحمر.
ساهم النجاح في منع الاحتلال من السيطرة على باب العمود وإغلاقه منذ بداية شهر رمضان في إنعاش الحالة المقدسية، وتوجّهها إلى صنع نجاح جديد في حي الشيخ جرّاح. ويلاحظ المرء اليوم تكاتف الجميع في القدس: نشطاء وناشطات من الفصائل معاً من دون مناكفات ولا مزايدات على بعضهم البعض، وبمشاركة مَن لا ينتمون إلى الفصائل، والشيب والشبان، والذكور والإناث، وكل الهيئات والقطاعات، وفوق ذلك المشاركة المباشرة على الأرض من فلسطينيي الداخل، إذ يصنع الجميع معاً إبداعات يومية في سجل المقاومة الشعبية.
ينتظر المقاومة الشعبية المقدسية النجاح في حماية حي الشيخ جرّاح، ثم مواقع بطن الهوى ووادي ياصول والبستان ووادي الربابة في سلوان، وكذلك النجاح في خلق تنمششية محلية معتمدة على الذات ومستقلة عن الاحتلال، أي أن معركة تثبيت الوجود الوطني الفلسطيني في القدس وتعزيز السيادة الشعبية من الأسفل فيها ما زالت مستمرة، ويبدو في الأفق المقدسي أنها لن تتوقف طالما استمر الاحتلال في مخططاته التصفوية للبشر والحجر في المدينة.