سر الابتسامة (١)
رضا راشد | الأزهر الشريف
ما راعني شيء في الأيام الماضية كمثل ما راعني شباب بيت المقدس الذين يقادون بالسلاسل إلى سجون الكيان الصهيوني، ومع ذلك تراهم مبتسمين في منظر تكرر كثيرا، حتى كاد يكون ظاهرة تستحق الدراسة والعناية .
إن السجن لا يزال يمثل أقسى أنواع التعذيب النفسي والبدني؛ إذ هو قيد على الحرية التى هي مطلب البشرية في حياتها، والتي من أجلها تقام الثورات، وتسال الدماء، وتزهق الأرواح، وما شهداء الحرية في ثورة 25 يناير منا ببعيد ..لا، بل إن الحرية مطلب الكائنات الحية من غير الإنسان أيضا: كالحيوانات والطيور؛ بدليل انك لو حبست عصفورا في قفص ذهبي، وفيه فوق ما يحتاجه من لذيذ الطعام والشراب، فإنه لا يبرح يتردد في جنبات القفص حائرا مترددا، يروم منفذا للخروج من هذا السجن، حتى إذا فتح له باب السجن أي القفص خرج مسرعا مضحيا بطعامه وشرابه، مفضلا الحرية مع الجوع والعطش، على السجن مع الري والشبع .
ولهذا كان السجن وما زال أداة القمع في يد المستبدين والطغاة ينكلون فيه بمن ناوأهم وعارضهم.
فإذا نطقت فقاع السجن متكأ
وإن سكت فإن النفس لم تطق
=كما يظل في بد العدول أداةَ ردع زاجرةً للمجرمين الذين يعتدون على حقوق المجتمع بغير حق .
ففرعون لما أعوزته الحجة في حواره مع موسى عليه السلام لم يجد سوى التهديد بالسجن وسيلة لإسكاته؛ وما ذلك إلا أن السجن عذابٌ قاسٍ تنفر منه النفوس الحرة بل وغير الحرة أيضا:《لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين 》[الشعراء:٢٩]
وامرأة العزيز لما تأبَّى عليها يوسف عليه السلام واستعصم بالله من فتنتها كان الإيعاز بفكرة السجن:《قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم 》[يوسف:٢٥]..ثم كان التهديد به 《 ليسجنن وليكونن من الصاغرين》[يوسف:٣٢] ، ثم كان القرار في النهاية《..ثم بدا لهم -من بعد ما رأوا الآيات- ليسجننه حتى حين 》[يوسف:٣٥]
لهذا كانت أصعبَ اللحظات في حياة المرء، تلك اللحظةُ التي يقاد فيها إلى السجن -والعياذ بالله-راسفا في قيود الذل والمهانة، وكانت نعمةً عظمى أن يعافى الإنسان من هذا البلاء، فيخرج من السجن؛ ومن هنا قال يوسف عليه السلام عن ربه سبحانه شكرا له :《وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن 》[يوسف:١٠٠].
فإذا كان السجنُ سجنَ عدو في العقيدة، ثم كان في هذا السجن ما لا يتصور من أنواع العذاب النفسي والبدني ما يعكس عداوة اليهود للمسلمين،ثم كان مصير المرء فيه مجهولا لا يدري: أيخرج منه حيا أم لا؟ وإن خرج فمتى؟ أم يخرج منه محمولا إلى قبره كما هو مصير الآلاف من قبل؟=فتلك طبقات من البلايا بعضها فوق بعض؛ مما يجعل من سجن أبناء يهود قطعة من جهنم تقوده إليه زبانينة البشر من حفدة القردة والخنازير .
فما بال امرئ يقاد إلى هذا السجن، ثم تراه مبتسما راضيا كأنه عروس يزف إلى عروسه ، ثم لا يكون الأمر حدثا فرديا، بل يتكرر كثيرا،، حتى كاد يكون ظاهرة فما ترى رجلا ولا شابا و ولا امرأة ولا طفلا ..يقاد إلى غيابات السجن إلا مبتسما ملوحا بعلامات النصر.؟!
إن هذا لهو البلاء العظيم وإن هذه الابتسامة في هذا البلاءالعظيم لمما تدهش له النفس ..فيا ترى:ما سرها؟ وما سببها ؟
ذلك ما يكون في المقالة اللاحقة إن شاء الله.
يتبع إن شاء الله