حينما يتحدث المدفع يجب أن يسكته القانون!
المحامي إبراهيم شعبان | سلوان – القدس- فلسطين
سالت دماء كثيرة خلال الأيام الأخيرة في الوطن الفلسطيني نتيجة للتوغل والتوحش الإسرائيلي بحجة واهية أسموها الدفاع عن النفس، حجة أجازت للدول رد اعتداء الدول عليها، وليس حجة أجازت للإسرائيليين المعتدين قتل الطفل والمرأة والشيخ وكل مدني قابع في شقته بل باسم الدفاع الشرعي المزعوم تم تفجير أبراج سكنية وبيوت خاصة مدنية وبنوك وشقق سكنية، وكأننا نعيش في غاب لم يعرف قانونا ولا أخلاقا ولا نظما.
وانضمت جوقة المرددين للاسطوانة المشروخة من الدول الغربية المنافقة والعربية المنبطحة مؤكدة حق المعتدي في الدفاع عن نفسه وشعبه وسالبة هذا الحق من الضحية التي لا حول لها ولا قوة. نسوا المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنظم حق الدفاع عن النفس، وابتدعوا نصا جديدا من لدنهم يجيز لهم العدوان والقصف والهدم والقتل كما حصل في العراق وافغانستان وفلسطين.
على مدى قرن سابق سالت دماء فلسطينية عربية إسلامية كثيرة عزيزة غالية على أيدي القوات الإسرائيلية الغازية على التراب الفلسطيني والعربي. وما انفكت هذه الدماء الزكية تبذل من أجل فلسطين وتحريرها من الغاصب رغم تخيل البعض سواء أكان عربيا منبطحا لمصالحه الذاتية الفردية، أو غربيا مستسلما للصهيونية، أن القضية الفلسطينية انتهت وقبرت، ولم يبق إلا إصدار شهادة وفاتها. ولكنها تفاجئهم وتعود أقوى من كل بداياتها.
كل الحروب على مدى التاريخ كانت بين الجيوش العسكرية وأفرادهم، أما المدنيون فلا يمسون ولا يصابون بأذى. من هنا وجدت التفرقة بين الجنود وبين المدنيين اي بين المقاتلين وغير المقاتلين. وصيغت قانونا حيث وضعت لكل طائفة أحكاما استقيت من الإنسانية كمبدا عام مسيطرٍ أساسي.
وكان التبرير الصحيح في أن الجندي تلقى تدريبات تساعده على تجنب ويلات الحرب ومآسيها، بينما المدني يجهل مثل هذه الأمور لذا سينقلب ضحية سهلة أمام أي هجوم عسكري ويدفع ثمنا غاليا، وهذا ما حصل في كل حروب العالم، حيث دفع المدنيون دائما الثمن الأكثر فداحة.
وقد عرفت المدنيات والشرائع هذا الأمر. فهذا رسول الله يوصي جنده قبل أربعة عشر قرنا في غزوة مؤتة قائلا ” لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناءً “.
وهذه تقاليد الفروسية في الغرب تأبى قتل المدني غير المبارز والذي لا يحمل سلاحا. بل إن الغرب المتوحش في أمريكا كان لا يجيز القتل من لا يحوز سلاحا. من هنا تقررت هذه القاعدة الأساسية والمفصلية في قانون الحرب الحديث الذي رسمه هنري دونان بعد رؤيته مآسي معركة سولفرينو، ونشوء اتفاقيات جنيف القديمة، إلى أن استقرت اليوم في اتفاقات لاهاي لعام 1907 واتفاقات جنيف الأربع لعام 1949 وبرتوكولي عام 1977والقانون الدولي العرفي للقانون الدولي الإنساني وهي تقضي بالفصل بين المدني والعسكري بين المقاتل وغير المقاتل. وتسبغ الحماية على كل منهما في حقله وبدون تعدٍ أو تخطٍ للحدود الفاصلة.
ولم يخرق هذه القواعد القانونية المجمع عليها سوى الدول العدوانية مثل الدولة النازية حينما قصفت مدينة لندن، والحلفاء حينما قصفوا المدن الألمانية، والدولة الإسرائيلية التي قصفت مدارس وفنادق وأبراج ومنازل وفللا ومساجد ومصانع. وقد انتهت الدولة النازية واندثرت بفضل المقاومة لها اما الحلفاء فعاثوا في الأرض فسادا في هيروشيما وناغازاكي.
أما البدعة والدولة الأخيرة فهي ما زالت تعمل سلاح القتل وسفك دماء المدنيين الفلسطينيين بذرائع مختلفة مختلقة. ومطلوب من العالم أن يصدق الرواية الإسرائيلية وبكل وقاحة، رغم مناقضتها للواقع المعاش، إكراما لعيون نتنياهو – الهارب من إدانته وسجنه – والصهيونية. واعتقدوا بسذاجة وببلاهة أنهم يستطيعون تمرير روايتهم كما كانوا يمررونها بعد كل حادث أليم في الضفة الغربية المحتلة، كما حصل حينما أصدرت الشرطة الإسرائيلية بيانا عن الشهيد إياد الحلاق، أو حينما أصدر الجيش الإسرائيلي بيانا كما حصل مع الشهيد عبد الفتاح الشريف في الخليل على يد المجرم ليئور أزاريا.
هذه سنة الإسرائيليين قبل عام 1948 وبعدها وأثناءها، ولم يتوقف هذا النهج يوما، فمرة بقفازات ناعمة، ومرة بطائرات مدججة بالصواريخ، وأخرى بدبابات وبسم زعاف وبملابس نساء وبغاويات بغايا وموطن هذه الجرائم اتخذت كل بقاع الأرض.
ولم تلتزم إسرائيل بجد وبجدية بالقانون الدولي الإنساني يوما ولم تر فيه سوى حماية حينما يقع أحد جنودها في الأسر أو حتى جاسوسا في أسر جهة ما رغم أنها وقعت على مواثيق جنيف الأربع وصدقت عليها.
فما تقوم به القوات الإسرائيلية المعتدية من عدوان على المدنيين وممتلكاتهم وبيوتهم وشققهم وأملاكهم وأثاثهم وفللهم وأبراجهم في غزة هاشم ليس له اساس قانوني مبرر ومشروع.
فهذه اماكن محمية للمدنيين الفلسطينيين بل وغير الفلسطينيين المدنيين بنصوص قانونية لا تحتمل الشك أو الجدل. فهذه جريمة حرب بكل المقاييس ولا يغير من طبيعتها ألزعم الإسرائيلي بأنها تستعمل لأنشطة غير مشروعة.
بل لم يستطع لا نتنياهو ولا غيره من زبانيته إثبات أي أمر من هذا القبيل ولو بزعم محدد واضح المعالم. على العكس ثبت بالدليل القاطع أن وكالة أمريكية للأنباء هي الأسشيوتدبرس والجزيرة لهما مكاتب في احد الأبراج التي قصفت وهدمت عن بكرة أبيها. أما الزمن الممنوح لمغادرة البرج فهو من قبيل التصريح بالقتل على المكشوف وذر الرماد في العيون، ولا يجعل التصرف والعدوان الإسرائيلي مشروعا أو مجازا أو إنسانيا.
وماذا عن الآثار النفسية والمعنوية والمادية الذي يخلفه هذا العدوان الإسرائيلي على المواطن الفلسطيني الغزاوي؟ وهل المواطن الغزاوي في جسده واطرافه وحياته وعقله ونفسيته حقل تجارب متاح لأدوات القتل الإسرائيلية البربرية؟ ماذا عن إغلاق الطرق المؤدية للمستشفيات الفلسطينية نتيجة لقصف الشوارع المحيطة بها وإعاقة سيارات الإسعاف؟ أضف أن طغمة الحرب الإسرائيلية ندمت على الوقت الضائع فآثرت قصف البيوت الغزاوية وبخاصة في حي الرمال الذي يعتبر من أهدا أحياء غزة هاشم، بدون إعلام هاتفي، علّها تجد صيدا ثمينا تفرح بها صبيانها ومجتمعها العنصري المشرئب للدماء الزكية.
فماذا تفعل مائة وستون طائرة حربية أمريكية بإشارة إسرائيلية في مربع 365 كم2، أمر اكثر من همجي وبربري ليتواجد هذا العدد من الطائرات على هذه المساحة الضيقة التي تعد من أكثف المناطق في العالم كثافة بالسكان. مع العلم أن عدد الطائرات الإسرائيلية التي هاجمت مصر وسوريا عام 1967 لم تزد عن مائة وثمانين طائرة.
اي عالم منافق متفرج مهما كان انتماؤه أو دينه أو ثقافته لا يوقف هذا النهج الدموي، ولا يهب على قدميه لوقف هذه المذابح من أطفال ونساء.
بئس من عالم غربي وعربي وإسلامي فكله مصالح سياسية ولم يستطع أن يصدر حتى بيانا لمجلس الأمن وليس قرارا ولا إدانة دولية ما عدا الكلام المعسول والتمني بوقف سفك الدماء، وكلها توازي بين الضحية والجلاد، وتتمنى بيانا من مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو منظمة طيران أو اليونسكو، بئس الأحلام والتمنيات.
وفي الموضوع عتب شديد لما يسمى بالصليب الأحمر الدولي وهيئته لموقفه العائم الغائم من قتل الأطفال والنساء وهدم المنازل والأبراج والفلل في قطاع غزة، وكلها جرائم حرب ولا تحتاج إلى بيان. أين الصليب الأحمر من كل ذلك، دعنا نقول أنه لا يمن ولا يتصدق علينا بدوره الإنساني البسيط فهذا في صلب ميثاقه وهذا سبب وجوده فلا يتغافل علينا.
ولماذا يخشى الصليب الأحمر إسرائيل الصهيونية ويجاملها بل ويمالئها على حساب ميثاقه ومبادئه التي خطها له هنري دونان. لماذا يزور الصليب الأحمر مستوطني جيلو حينما قصفوا ووجودهم اعتداء على ميثاق جنيف الرابع، ولماذا يحضر مؤتمر هرتسليا للأمن الإسرائيلي ويقدم أوراق عمل فيه، لماذا ينسق مع ضباط في الجيش الإسرائيلي في الهجمات المدنية والقتال بين المنازل. ولماذا يصمت صمت القبور في كل ضحايا فلسطين، ويكتفي بطلب الصدقة والإحسان من جهات الخير والبر.
أرجو أن لا تكون إجابته في حياده الكاذب واستقلاله المزعوم، ومساواته بين الضحية والجلاد وموقفه في القدس. لقد سئمنا هذه الإجابات، ولو كان الأمر بيد سلطة وطنية فلسطينية لقامت بما قامت به الثورة الإسلامية معه.
من المتوقع أن يقر وقف لإطلاق النار خلال يومين على أبعد تقدير، لكن هذا الوقف يجب أن لا يمنع الفلسطينيين من التوجه للمحكمة الجنائية الدولية رغم تثاقلها لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين على جرائمهم بقتل الأطفال والنساء والمدنيين وهدم المنازل والعيادات.
ويجب أن تدفع إسرائيل وليس غيرها تعويضات عن الأموال غير المنقولة التي دمرتها. ويجب تعويض المدنيين عن المهم ومعاناتهم خلال هذه الهجمة الدموية. يجب ان تعي إسرائيل قبل غيرها ولو مرغمة أن القانون يستطيع إسكات المدفع ويجب أن تراعي ذلك!