نواقيس الخطر (٣)
رضا راشد | الأزهر الشريف
إن الإنسان في هذه الدنيا لا تفارقه الغفلة مهما كان حذرا متفطنا؛ إذ الغفلة ملاذه من تعب يلم به أو إرهاق يستحوذ عليه، فهي مستراحه من كل تعب عقلي وإرهاق فكري؛ ولهذا كان أهل الجهل في نعيم وأهل العلم والعقل في شقاء
ذو العقل يشقى في النعم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولئن كان الإنسان بحاجة إلى هذه الغفلة في الفينة بعد الفينة: مستراحا من تعب فات، وانطلاقا لعمل آت، فإن هذه الغفلة إذا تطاولت وامتدت كانت على الإنسان وعقله أشد ضررا من السموم على الأبدان. ولهذا كانت النفوس بحاجة إلى من ينبهها من غفلتها حينا بعد حين احتياجها إلى الطبيب الذي يداوى الأبدان من علتها أو أشد .
ومن هنا دققتُ نواقيس الخطر بشدة؛ تحذيرا لأمتى من خطر، لا أقول قريب منها متربص بها، بل هو ملم بها، وهي لا تشعر به، وهذا أخطر شيء؛ فما أعظم من البلوى إلا فقدان الإحساس بها.
ومما أدق منه ناقوس الخطر اليوم بشدة: تمكنُ أعدائنا من وسائل التواصل الاجتماعي:من فيس بوك، وواتس اب، وفايبر …وغيرها من الوسائل التي نستعملها في اتصالاتنا، والتي باتت ملازمة لنا حتى كادت تصحبنا في أماكن الخلاء، ومن خلال هذه الوسائل أصبح عدونا يعلم عنا ما لا نعلمه عن أنفسنا، فكثيرا ما يجلس أفراد الأسرة الواحدة متجاورين أجساداً ولكنهم متباعدون: نظرا وفكرا، حيث يعكف كل منهم على هاتفه فيقرأ ويشاهد ويسمع ما لا يعلمه عنه أخوه أو أبوه المجاوره، بينما كل هذا معلوم لدى مالكى هذه الوسائل؛ ففي حوزتهم ملف كامل لمن يستخدمونها :بمن يتصل؟ ومتى يتصل ؟ وما مضمون كل الرسائل التي يتبادلها مع غيره ؟وماذا يحبون؟ وماذا يكرهون؟ومن يصحبون؟ ومهما قيل من أنها تحافظ على خصوصيات الشخص وأسراره، فهذا كله كلام مرسل لا قدم له من المصداقية ولا يراد به إلا الخداع وتزييف الوعي، ومن يشك في ذلك فعليه أن يشك في عقله.
إن وسيلة كالفيس بوك مثلا تستطيع من خلال حسابك أن تعلم كل شيء عنك، وأن تصل من هذا المعلوم إلى مجهول من خلال تحليل بياناتك وأصدقائك، وتفاعلاتك: مقالاتٍ ومنشوراتٍ، وإعجاباتٍ، وتعليقاتٍ، ومشاركاتٍ.
وأظهر دليل على ذلك ما يحدث لرواد الفيس بوك من هذه الألعاب التي يستثيرون به شهية رواد الفيس بوك من قبيل:
(*)ماذا تحب أن تكون في المستقبل؟
(*)ما سمة شخصيتك؟
(*)من أقرب الناس إليك في الفيس بوك؟إلخ
يشترك الشخص في اللعبة، فيطلبون منه الدخول إلى بياناته في صفحته وتحليلها، ثم يجيبون عن السؤال الذي طرحوه..ومن تتبع هذه الألعاب لاحظت أن الإجابات متكررة؛ إذ ليس هذا هو الهدف بل الهدف الاطلاع على ملفك كاملا.
إنني لا أشك قيد أنملة في أن من وراء هذه الألعاب أجهزة مخابراتية مملوكة لأعدائنا يستخدمون هذه الألعاب للحصول على أنفس المعلومات.
إن الخطوة الأولى في طريق النصر هي ان يعرف الإنسان عدوه؛ ولهذا كانت أجهزة المخابرات هي أهم الأسلحة في الحرب، وكان يخصص لها من ميزانيات الدول ما لا يخصص لغيرها، وكانت المعلومات المطلوبة لا تخرج عن دائرة المعلومات العسكرية، ثم تطورت، وأصبحت المعلومات العادية لا تقل أهمية عن المعلومات العسكرية.
والآن: تمكن أعداؤنا من معرفة كل شيء عنا وهم متكئون على أرائكهم في مكاتبهم المكيفة دون ان يتكلفوا مليما واحدا ، لا، بل ويتربحون المليارات من الدولارات نتيجة استخدامنا هذه الوسائل التي غدت أهم وسائل التجسس.
إن الأمر خطير وينذر بكوارث جسيمة، وليس عندي من حل للخروج من هذا الخطر، وإنما حسبي أن أنبه على هذا الخطر مستحثا المخلصين من أبناء الأمة للتفكير في التفلت من هذه القبضة الحديدية والتحرر من أسر هذه الوسائل.
وقد بلغت فاللهم فاشهد.