العَطَش.. قصة قصيرة
د. حسن محمد العمراني | مصر
انتفض من نومه على صوت كراكات الحفر والتنقيب بجوار منزله الصغير. هو لا يعلم ماذا يحدث بالخارج تحديداً، ولذا قرر أن يتفقد الأمر. رآهم يقيمون سياجاً حريرياً حول الأرض الملاصقه لعشته القديمة التي لا تتجاوز مساحتها سوى بضعة أمتار آلت إليه بعد ترسيم الحدود مع الجار. لم يعد يذكر آخر مرة تم فيها ري هذه الأرض. وقف يستطلع الكراكات وكلمات امراته ما زالت تتردد في أذنيه: ” نريد أن نبني خُنَّاً للبطات الصغيرات، حتى يفرخ فيه البيض”. وقف يقلب الأمر وقد تداخلت المعالم في رأسه: ماذا يفعل؟ الوقت يداهمه. الكراكات صارت تضرب في العمق، والأرض تردح تحت اشعة الشمس الحارقة، وتكاد تتفجر بألسنة اللهب. فكيف سيبني سوراً يفصل ما بينه وبين أولئك الجيران ليصنع بداخلة مأوى لبطاته التي صارت تتدافع على بعضها البعض وتضع بيضها في العراء، وليس حوله سوى بعض الحطب وعيدان النباتات التي جفت على سوقها، فأضرم فيها العمال النار حتى تنكشف الأرض أمامهم. همَّ يجمع بعض الحصى ويلتقط في حِجرِه ما عنَّ له من شظايا الطوب المتناثر على قارعة الطريق. أفلح أخيراً أن يجمع بعض العيدان ويحزمها ربطةً ربطة ويغرسها متضافرة في المسارب التي شقها بمعوله المتهالك، لكنها ما زالت تحتاج لبعض الطين اللازب حتى تتماسك. لم يستسلم للتفكير طويلاً، فما قام به سيؤدي الغرض. شرع يطارد بطته الشاردة ليدخلها دارها الجديدة، وهي تتملص من بين يديه.” ها قد انتهت مسألة البطة …يبقى لدينا ذكر البط. ” أخذ يعيد على نفسه كلمات أمه ويتفاصح بها ضاحكاً فى عُبِّ قميصه: ” لن يفرخ البيض إلا إذا وضعته في بطن الزير أو قعر القِدر…عليك أن تفرشه بالتبن أو القش الناعم حتى يصبح الفراش وثيراً…كما يجب أن تعزل البطة وذَكَرَها عن باقي الطيور”. شرع يسأل نفسه” أين لى بذَكَرٍ لهذه البطات؟ هدته ذاكرته لحديث إمراته: “لابد من استلاف ذَكَر البط من جارتنا وإلا فسد البيض”. “نعم..جيراننا!” “كيف تاه عني ذلك؟!” أردف قائلاً، وانطلق دون أن يعقب. بيْتُ الجيران على مرمى البصر لكن الشفق بدأ يفترش السماء والكراكات لا تمل ولا تكل. أحضَرَتْ له العجوز المسكينة ذَكَر البط وهى تلهث: ” احْذَر يا ولدي…فقد غافلني منذ فترة والتَقم ذراعي بمنقاره وأنا أُطعِمه” طمأنها، وما إن استدار عائداً لداره حتي قفز ذكر البط وشرع يمرح ويعربد في الجوار. جرى وراءه وهو يقوم ويقع، ثم انغرس على ام راسه في الطين. ” ها قد أمسكْتُ بك أيها المشاغب”. من أين جاء هذا البلل غم أن المياه لم تنبلج بعد من البئر التي مازالت تحفرها الكراكات؟ لم يأبه بذلك، بل حاول الإحكام على ضالته مُقيِّداً جناحيه المقصوصين من الخلف. فكم هو متجبر هذا الذَكَر وكم هي مسكينةٌ بطتنا الصغيرة! وشيئاً فشيئاً استطاع أن يدخله إلى مخدعه. ما إن استقر الأمر وآوي إلى مضجعه حتى سمع جلَبةً كبيرة. هرع إلى العش. العمال يسابقون الزمن ويراهنون على فجر اليوم التالي. لم يتمالك نفسه… اختلَّ توازنه… سقط في إحدى الحفر بينما هَوَتْ عليه الكراكات وانطلقتْ تقذف الأحجار على العشة الصغيرة. تطايرت البطه بجوار صاحبها داخل الحفره، وانهالت عليهما كرات الطين، بينما ولَّى ذَكَر البط هارباً، وبقعة الوحل تتسع وتتسع، فاستحال عبور الطريق.