منظمة التحرير تابعة أم متبوعة؟
سعيد مضية | فلسطين
منظمة التحرير ومقولة “المجتمع المدني” والواقع الفلسطيني
في حقل السياسة تخوض المنظمة غمارها نشاطا سياسيا مطعما بالتنظيم والوعي. ونظرا لكونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وحيث أن السياسة المغيرة للواقع تتم بالجماهير ومع الجماهير من أجل الجماهير، فإن ذلك يوجب على منظمة التحرير الفلسطينية، ويعطيها الحق لاداء مهمة تنظيم وتوعية الجماهير الشعبية الفلسطينية. الفهم الخاطئ يزعم أن جهة سياسية ما تدافع عن… ، أو تحمي مصالح كذا؛ وفي الواقع العملي فأي تنظيم سياسي لا يبرر وجوده إلآ بالنشاط مع الجماهيرصاحبة المصلحة.
السياسة الواعدة تستنهض الجماهير وترفدها بالوعي، تؤهلها لأن تتحمل مسئوليتها وتقرر مصير الوطن. الكتل الشعبية هي المحولة للتاريخ؛ وتكون التحولات أعمق بقدر الكتل البشرية المنخرطة فيها؛ وبذا فالنشاط في اوساط الجماهيريمثل المهمة الأولى والرئيسة لقوة التغيير الاجتماعي، التي يرمز لها باليسار. وتجاهل هذه الحقيقة الأولية، أبجدية النضال الوطني والاجتماعي، أحد أعراض أنيميا اليسار الفلسطيني.
والتحرير في بلد مرتبط بالعصر الوسيط ، مثل فلسطين، يقتضي مقاربته على جبهتين متداخلتين: التحرير الاجتماعي والتحرير القومي، وكان خليل السكاكيني قد توصل في ثلاثينات القرن الماضي إلى وجوب إسناد نضال التحررالقومي بنسخة من التحرر الاجتماعي تجتث ظواهر تخلف العصور القديمة. يحتفظ هذا النهج المزدوج بأهمية حاسمة ، نظرا لأن استبداد العصر الوسيط جرع الجماهير الشعبية صنوف القهر والهدر اللذين احدثا تشوهات بالوعي الاجتماعي . تبخيس الجمهور إحدى تركات التخلف بدون تصفيتها يصعب تشكيل حركة شعبية ديمقراطية. المهمة هي مبرر وجود اليسار داخل الحركة الوطنية.
كان لينين قد طرح على شيوعيي الشرق في مؤتمرهم عام 1919 مهمة انتشال شعوبهم من التخلف اولا ، ونقلهم الى الحضارة؛ حذرهم انهم لن يجدوا في كتب الشيوعية الحلول لمشاكل مجتمع ما قبل الرأسمالية. اصطدمت مشورة لينين بالقواعد الصلدة للانضمام الى الأممية الشيوعية، ولم ينتبه الماركسيون العرب لنصيحة لينين، فتخلفوا في تحديث الحياة الاجتماعية. تواصلت قيم التخلف ومعاييره ونماذجه الاقتصادية والتعليمية – الثقافية وهياكله السياسية تترصدهم مصدات تصدمهم، تؤوّل بخبث التغيير الاجتماعي مبادئ هدامة تخل بالقيم وتهدم المجتمع.
هل تشكل منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الذي تحرك أذرعه وتوجه الأنشطة السياسية لمختلف قطاعات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده؟ هل هي إحدى منظمات ما يسمى المجتمع المدني ام هي مؤسسة دولة ؟هل تمكنت خلال ما يزيد على نصف قرن على تشكيلها الاقتراب من إنجاز مهمة تحرير مجتمعها الفلسطيني أو حتى ولوج دربها؟ في مقالة للرفيق طلعت الصفدي نشرت بتاريخ 3/8/ 2011، تحت العنوان “عفوا السيد الرئيس ، المجلس المركزي لرسم السياسات، وليس للخطابات”، والمضمن في كتابه “صراع في بحور الظلام ليس للفرد قيمة “، كتاب تميز بجراة الطرح وصراحة النقد وثراء الخبرة في السياق؛ فهو عضو بالمجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير وعضو قيادة حزب الشعب. كتب في المقالة: “المجلس المركزي في كل دورة يتكرر المشهد ، وتغيب مراجعة القرارات السابقة، ويسقط من جدول الأعمال تقييم الفترة بين اجتماعين، وتَراجعَ النقد البناء لتصويب المسيرة ، ويتحول المجتمعون الى مستمعين غير فاعلين. هل يمكن تغييرنمط هذه الاجتماعات وتفعيل طاقات وخبرات أعضاء المجلس المركزي…؟ لماذا لا يشارك الجميع في صناعة القرارويتحمل المسئولية الوطنية والتاريخية لتنفيذه، حتى لا يتحولون الى مقعدين او شهود زور؟”
الرفيق يتحدث بلغة حداثية لنهج سياسي حداثي أين منهما الممارسة الفعلية المتعثرة بالفشل والإحباط لمنظمة التحرير الفلسطينية. طبيعي أن تكون النتيجة حسب استخلاص الرفيق “تكلس القيادة الفلسطينية واطرها السياسية المختلفة ونزوعها للتفرد”، لأنها خطفت المنظمة وسيلتها للعلاقات الدولية، ومنعتها من اداء وظفتها الشعبية، حيث الشعب مجرد رعايا!! يحق التساؤل: هل اتاحت إدارة متكلسة فرصة لتشكل مجتمع مدني مستقل؟ وهل هناك إمكانية في المستقبل؟ والأهم من ذلك كله هل صمدت إدارة متكلسة امام إدارة تتقن التفكير والتخطيط الاستراتيجيين، إدارة تغتني اجتماعاتها وقراراتها بالعقول الغنية بالأفكار العلمية والتجارب الموثوقة؟ الوقائع تجيب!
تجارب الماضي الأليمة تبين أن الإطاحة بنظام استبدادي يحل النصف الهين للمشكلة؛ وأصعب منه خوض صراع ضد تراكمات الهدر الدهري. فلكي يتكيف الفرد مع الهدر الذي لا فكاك منه، يتواطأ معه مبتلعا احكامه، يتمثلها ويحتفظ بها وسيلة لتحقيق التوازن النفسي والرضى الخادع عن الذات. استخلص مصطفى حجازي إثر تحليل نفسية وفكر “الإنسان المهدور” في كتاب اصدره عام 2006 حمل نفس العنوان أن “الهدر الممارس من قبل الأنظمة الأبوية يجمد وظيفة العقل ويشل الإرادة… قضية التحرر الإنساني، تنطلق من تصفية ترسبات الهدر وتعافي النفسية الاجتماعية لاكتساب الصحة النفسية. حالة من تقبل الهدر والتعايش معه تستدعي صدمة تعيد الوعي بالإنسانية المضيعة، وتكسب الصحة النفسية ، بمعنى عودة الوعي ” . التواطؤ الذاتي مع الهدر الخارجي الذي لا يستتب إلا من خلال اجتياف احكامه والامتثال لها؛ وبالتالي إعادة إنتاجها ذاتيا، هو الأخطر” [319]:
القيادة الفلسطينية، أبوية الطابع ، وهذا ما أقر به عضو باللجنة المركزية لحركة فتح، وحدد قيادة عرفات وقيادة محمود عباس بهذا التوصيف . ونقول أن أبوية القيادة طابع فلسطيني منذ الشروع في مقاومة الهجرة اليهودية أوائل القرن العشرين. وهي قيادة أسلمتنا الى النكبة ثم الى هزائم وانتكاسات ظلت تلاحقنا، وبتنا على مشارف تصفية وجودنا كله . حلل البنية الأبوية، وكشف طابعها المتخلف الدكتور هشام شرابي في بحثه العلمي ” البنية الأبوية إشكاليات التخلف في المجتمع العربي”. انطلق من رؤية للمجتمعات العربية كافة تعاني نفس تركة التخلف وتكابد استبداد الأنظمة وتبعيتها للسيطرة الامبريالية. طور شرابي وصية لينين التي بقيت مغْفلة ومنسية قرابة المائة عام.
الدكتور شرابي كان محاضرا بجامعة جورج تاون، مهموما بالنتائج الكارثية لهزيمة حزيرن، وسقوط وطنه الأصلي- فلسطين – بكاملها تحت وطأة احتلال إسرائيلي اقتلاعي. في صيف 1967اطلع على الماركسية لغرض تطوير محاضراته للعام الأكاديمي القادم: “لا أعرف تجربة هزتني من الأعماق ونفذت الى أسس تفكيري… كان من نتائج التجربة أنها كشفت عن مقدرة الثقافة المسيطرة في إخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات…”. باشر شرابي سيرورة التطهر من الفكر البرجوازي وقيمه. بهذه الذهنية وبحصيلة التمرس في منهجية العلم ومن شرفة مطلعة على واقع العالم العربي، وضع مؤلفين مرشّدين حللا عوامل الوهن بالمجتمعات العربية وحفرا عن جذر التخلف، وطرحا سبل الخلاص. وضع اولا عام 1973 كتاب- “مقدمات لدراسة المجتمع العربي” ، أتبعه عام 1988 بحثا معمقا تناول مختلف جوانب مجتمع التخلف الاجتماعي والتابع للسيطرة الامبريالية ، ” البنية الأبوية إشكاليات تخلف المجتمع العربي”، ونشرت ترجمته الى العربية عام 1992.
تبدي الأبوية موقفا دونيا تجاه الخارج، وموقفا مزدريا للجماهير في الداخل. يحشد النظام الأبوي حوله الجماهيراحتياطي عزوة ويحجزها عن أفكار التنوير والتحرر الاجتماعي. يستحيل تشكل مجتمع مدني في كنف النظام الأبوي: “السيد الأبوي يجحد إنسانية القاعدة الاجتماعية المقهورة؛ يفقد التعاطف مع المعذبين في الأرض والإحساس بمعاناتهم وآلامهم، ومخاوفهم وحاجاتهم. حيال هذه الحالة يصبح الكيان الوطني مجرد كيان شكلي هزيل مهدد بالانفجار في أي لحظة يتغير فيها نظام القوى.”
برز وهيمنة نتيجة القيادة الأبوية على نشاط منظمة التحرير ثلاثة معالم خطيرة قوضت النهج الثوري في توجهات فتح ، حتى وهي تمارس الكفاح المسلح:
التوجه الأول، فصمت الرابطة العضوية بين الصهيونية والامبريالية، وظلت تعول على ضغوط أمبريالية ترغم إسرائيل على قبول دولة للفلسطينيين غربي نهر الأردن والتعايش معها. أفرغ مشروع المنظمة من مناهضة الامبريالية. يصدمها الانحياز الامبريالي للصهيونية وإسرائيل ، لتعود وتعلق الأمال من جديد إثر تصريح مبهم تفسره طبقا لتفكير رغبي. في كامب ديفيد الأول لم يحفظ بيغن جميل كارتر ، إذ سحب مصر من جبهة العداء لإسرائيل وورفض ضغوطه بحزم للتنازل لأصحاب البلاد الأصليين؛ بعد ذلك أشاع الصهاينة وأنصارهم في الإدارة الأميركية أن الرئيس كارتر ينوي في فترته الثانية ممارسة الضغوط على إسرائيل لصالح الفلسطينيين؛ فتم إفشاله في الانتخابات نجح منافسه ريغان على موجات المحافظين الجدد، أعتى أنصار الصهيونية.
لكن القيادة الفلسطينية لم تكف عن اوهام التدخل الامبريالي للضغط على إسرائيل. في مؤتمر أنا بوليس الذي دعا اليه الرئيس الأميركي بوش (27نوفمبر 2007) بهدف التوصل الى حل الدولتين رفض الطرف الإسرائيلي برئاسة إيهوداولمرت الاتفاق المبدئي على دولة للشعب الفلسطيني.
والتوجه الثاني، تجميد ادوار المنظمات الاجتماعية – هيئات المجتمع المدني المفترضة- من خلال نظام كوتات يعين الهيئات القيادية لمنظمات الطلبة والنساء والكتاب والصحفيين الخ ويوزعها على الفصائل وفق نسب محددة تضمن تمرير قرارات القيادة الفتحاوية. الهيئة الاجتماعية لا تحرك جماهيرها للتحرر، فقط تتمظهر عزوة ودليل هيمنة للجهة المتحكمة. لم تجر على الساحة الفلسطينية شراكات في ورشات سياسية تثقف وتحشد ، من خلالها تتحاور الاطر السياسية تحت الأضواء بروح الاحترام والتعاون.
نجم عن التوجهين توجه ثالث جمد الحراك الشعبي. فقد حرص الفصيلان الكبيران، فتح وحماس ، بما تيسر لهما من شعبية، على حجز الجماهير احتياطيا للاقتراع الانتخابي اواستعراض النفوذ السياسي لتعظيم حصتها في الكوتا، لغرض الهيمنة؛ لم يتوقف التحريض ضد شركاء الهدف، حتى وهم يشاركون في الحكم؛ “النظام الأبوي المحدث لا يسترشد بالعلم ولا يقبل المشاركة ، يتحايل كي ينفرد بالقرار، …وسواء كانت (البنية الأبوية) علمانية ام دينية لا تستطيع تغيير المواقف لأنها لا تعرف ولا تريد ان تعرف إلا حقيقتها ولا تريد إلا فرض حقيقتها على الآخرين بالعنف والجبر إن لزم الأمر”.. تعمق شرابي في الحفر عن جذور التخلف وتاريخيته وتحليل مظاهره الاقتصادية والثقافية والسياسية وطرح سبل الخلاص. الأبوية بنية المجتمعات العربية منذ ما قبل الإسلام؛ وفي العصر الحديت تعرضت لتبدلات نتيجة التماس مع الامبريالية؛ فغدت بنية أبوية مستحدثة أو محدثة، تم تحديثها بتاثير خارجي. “الأبوية المستحدثة أو المحدثة دلالة على توفر عامل خارجي حفز التطور الداخلي، دفعه الى التحول. فما ان تنطلق عملية التحديث حتى يختل التطور الذاتي الداخلي ويعتل المجتمع.” ، عبارة عن مطعوميفعل الممانعة لأمراض التحديث والتنوير. أبرز مثال على نظام يتحرك داخل إطار التبعية بمسوغ التمويل والارتهان ل”المجتمع الدولي” هو السلطة الفلسطينية.
في كنف نظام أبوي لم تتم ورشات عمل تطلق الطاقات الثورية للجماهير وتغني نشاطها العملي للتغيير وتغتني بمنجزاته. أسفر تجميد الحراك الشعبي عن تعطيل دينامية التحرير، نظرا لاندماج التحرر من السيطرة الأجنبية بتحرير الجماهير من القهر والهدر المزمنين، وزجها في الحركة الشعبية الديمقراطية الواعية ورفد تفكيرها برؤية علمية تضيق حيز الخرافة والجبرية في التفكير وتضوي مسيرتها على درب التحرر والتقدم. حذر مصطفى حجازي، وهو باحث في التخلف – ميدان النفسية الاجتماعية- حذرفي كتابه “الإنسان المهدور ” من أن” ألإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول الى فضلات بشرية والانضمام الى الفئات المستغنى عنها ؛ او التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال”.
معطل حتى إشعار آخر
في كنف نظام أبوي لم تتم ورشات عمل تطلق الطاقات الثورية للجماهير وتغني نشاطها العملي للتغيير وتغتني بمنجزاته. أسفر تجميد الحراك الشعبي عن تعطيل دينامية التحرير، نظرا لاندماج التحرر من السيطرة الأجنبية بتحرير الجماهير من القهر والهدر المزمنين، وزجها في الحركة الشعبية الديمقراطية الواعية ورفد تفكيرها برؤية علمية تضيق حيز الخرافة والجبرية في التفكير وتضوي مسيرتها على درب التحرر والتقدم. حذر مصطفى حجازي، وهو باحث في التخلف – ميدان النفسية الاجتماعية- حذرفي كتابه “الإنسان المهدور ” من أن” ألإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول الى فضلات بشرية والانضمام الى الفئات المستغنى عنها ؛ او التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال”.
الكتاب، شأن مؤلف الشرابي ، تعرض لمؤامرة صمت؛ فقد ادانا جميع الأنظمة العربية المحدثة، بالتسبب بالهزائم وإجهاض التنوير. التخلف حسب تقدير شرابي، “يكمن في أعماق الحضارة الأبوية المستحدثة ويسري في جميع أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتقل من جيل لجيل كالمرض العضال ؛ وهو أيضا مرض لا تكشف عنه الفحوص وتعجز عن تفسيره الأرقام والإحصاءات ؛ إنه حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نتقبله من غير وعي ، ونتعايش معه ونتقبله كما نتقبل الموت، نرفضه ونتناساه في آن”. تمركز التخلف داخل منظمة التحرير الفلسطينية, كما تمركزت جميع أعراض الأبوية في أجهزتها.
النظام الأبوي يفضّل الولاء على الكفاءة؛ استغل الوصوليون والانتهازيون وعملاء الاستخبارات الأجنبية ، خاصة الموساد، هذه الطبيعة المتخلفة، وبالولاء الزائف أمكنهم التغلغل في أجهزة السلطة الأبوية وشغلوا مراكز حساسة في جميع الأقطار العربية. أشاعوا قيم الفساد والترهل والعطالة في اجهزة الدولة . حسب توصيف شرابي. نظام السلطة الحقيقي هو نظام وجاهة ومكانة، بدلا من اتخاذ السلطة موقعا للخدمة يحولها إلى وسيلة لتعزيز النفوذ الذاتي ونفوذ العصبية التي ينتمي إليها، والتي كان لها الفضل أساسا بوضعه في هذا المنصب . وتتحول علاقات السلطة داخل المؤسسة، بالتالي إلى علاقات نفوذ بدلا من أن تكون علاقة أداء وظيفي. ” المثقف الأبوي مستحدث وظيفته الولاء ودعم النظام ، ولا يحفل بمهمة التغيير المتطلبة ثقافة عملية وقدرة تخطيط وتنظيم. الثقافة لدى المثقف الأبوي وسيلة نفوذ وهيمنة”، ”
هكذا تحل علاقات الولاء محل علاقات الأداء… يغدو المنصب وكأنه ملكية خاصة. والنتيجة إشاعة السخط بين الجماهير وتوسيع عزلة السلطة والحط من هيبتها . لم يتورع نتنياهو ، إثر نجاحه الانتخابي عام 1996، وتشكيل الحكومة عن إعلان ازدرائه للفلسطينيين، قال انه لن يعيرهم أدنى اهتمام . وبالفعل أعترفت فتح في بيان لاحق انها تفاوضت على قضايا وتوصلت ثلاث مرت الى اتفاق حول القضية الواحدة ولم ينفذ الاتفاق.
خلاصة القول ان منظمة التحرير الفلسطينية فقدت حيويتها وكيانها كمؤسسة تحرير اجتماعي وقومي، فلا هي سلطة سياسية مستقلة ولا هي مجتمع مدني؛ اقتصر دورها كيانا هلاميا له تمثيل مراقب بالهيئة الدولية ، قبل أن يستبدل بدولة غير مكتملة العضوية.
تزامن صدورالترجمة العربية لكتاب شرابي عام 1992 بظهور نتائج التنقيب الأثري بفلسطين تدحض الرواية الصهيونية. في أسار النظام الأبوي لم تحفل القوى الفلسطينية كافة بهذه النتائج، ولم تتسلح بمضامينها لدفع أكاذيب نتنياهو والحركة الصهيونية. أصدر توماس طومسون كتابه ” التاريخ المبكر لشعب إسرائيل من المصادر الأركيولوجية المدونة” عام 1992، كشف فيه بجرأة ” إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تقوم على الخيال”. تعمد إفساد الزفة المقامة حينذاك حول توحيد القدس. فصل العلّامة من وظيفته الأكاديمية.
أطرى مضمون الكتاب عالم الآثار كيث وايتلام في مؤلفه النفيس حامل الدلالة ” اختلاق إسرائيل القديمة شطب التاريخ الفلسطيني”، أجمل نتائج التنقيب الأثري بمعزل عن حكايات التوراة، و استندت الى منهجية العلم. لم تدخلها السياسات العربية في برامجها السياسية وتجاهلتها الثقافة الوطنية. ظهر عام 1996 كتاب اوايتلام، تحت عنوان صارخ الدلالة “اختلاق إسرائيل القديمة شطب التاريخ الفلسطيني”، كشف التلاعب الاستشراقي – الصهيوني بالتاريخ الفلسطيني. ترجمت الكتاب سحر الهندي ونشرعام 1999 في العدد 249 من عالم المعرفة”. أطبق الصمت حول الكتاب وتم إغفاله. في ذلك العام أصدر المحافظون الجدد بالولايات المتحدة تقريرا قدموه لنتنياهو وهو يستعد للانتخاب . في الحال تجاوب نتنياهو وضمنه برنامجه الانتخابي وخططه العملية كرجل دولة ينفذ توصية التقرير الرئيسة: عدم لانسحاب من الضفة ورفض الدولة الفلسطينية . راح نتنياهو يطور مشروع الاستيطان ويرفع وتيرة العداء العنصري لشعب فلسطين، ويتوعد أنصا ره بتهجير أصحاب الديار قسرا خارج وطنهم .
أما رجال السلطة والمعارضة المزعومة فلم يوظفوا معطيات العلم في نقض الرواية الصهيونية. لم ينقض العرب، أنظمة وحركات شعبية، الرواية الصهيونية بمعطيات العلم، ولم يخاطبوا بها الرأي العام العالمي في الغرب، حيث حكايات التوراة تشكل جانبا من ثقافتهم.
وتعرض لعنت شديد البروفيسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ القديم بجامعة تل أبيب، توصل في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”، الى أن اليهود لا ينتسبون لعرق واحد تمتد جذوره في فلسطين وظل متمسكا بالعودة الى “وطن اليهود التاريخي”. أكد ساند أن “مركزية الخرافة التاريخية التوراتية كامنة في الهندسة الإيديولوجية الصهيونية، وفي اللاهوت المتمسك بصنمية النصوص، وكذلك في اعتبارات الاستراتيجية الامبريالية، وفي التعبئة الإيديولوجية المكثفة لأجيال من المسيحيين المخدوعين بسياسات الامبريالية والمتحمسين لحروبها العدوانية”.
الماركسية تغتني بمعطيات العلوم الطبيعية والاجتماعية، خاصة حين يلتزم البحث بالمادية الجدلية، ويشغل التجريب العلمي جانبا من الجهد البحثي. البحوث العلمية في الاجتماع البشري او في الطبيعة ذخيرة فكرية للماركسيين يمكنهم تطويرها لتضوي النشاط السياسي المحول للواقع. الدراسات العلمية في موضوع التخلف الاجتماعي بجوانبه التربوية والنفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في ميدان التراث الإسلامي دعمت رؤية شرابي للتحرر الإنساني من التخلف متعدد الجوانب. بما أن التغيير الاجتماعي ينجز بالجماهير لمصلحة الجماهير ويتكرس بحراسة الجماهير الواعية والواثقة انها صاحبة الحق في تقرير المصير الوطني، فعلى عاتق دعاة التغيير الاجتماعي تقع مسئولية تحرير الجماهير من الاستلاب وتحصين مناعتهم النفسية .
حسب تاكيد حجازي،”فقط المناعة التي توفرها المستويات العليا من الصحة النفسية هي القادرة على المرونة العالية واللياقة التكيفية، والفاعلية في مواجهة التحديات والشدائد”. تتمثل الصحة النفسية في صحة الوظائف الحيوية وعملها بكامل طاقتها على مختلف الصعد؛ كما تتمثل الصحة النفسية النمائية في مشروع وجود متنام ومتجاوز لذاته على الدوام على مستوى الوظائف والأداء والانتماء[315]. يجب أن لا نمل التكرار بأن النضال لا يتم نيابة عن الجماهير، إنما بها وبمشاركتها الفعالة، وبحمايتها لكل منجز يكسبه النضال. ومن غير الجائز إكراه الجماهير؛ فشل التربية السياسية وإغفال التثقيف المتواصل عبر النشاط العملي يغري بعض العناصر على إكراه الجماهير للمشاركة في إضراب أو مظاهرة أو حملة وطنية. التثقيف السياسي مهمة على عاتق قوى التغيير الاجتماعي ، وهي تنطوي في المرحلة الراهنة على أهمية اولية نظرا لتدفق ثقافة الليبرالية الجديدة تحمل ثقافة الكراهية والقسوة والعنصرية والجريمة المنظمة وتفوق البيض، كل ذلك لتسهيل هجوم الاحتكارات تفترس الاقتصادات الوطنية وتحصل الأرباح الأسطورية، والخروج مخلفة الفقر والبطالة في المجتمعات المنكوبة، حيث ينهمر سيل الهجرات عن الوطن.
والمفارقة المؤسية أن يخاطر باحثون أثريون لينقضوا حكايات التوراة المفبركة إثر مكابدة علمية شاقة ، تعرضوا إثرها لعقوبات قاسية، منها الفصل من الوظيفة الأكاديمية وغلق أبواب العمل في المؤسسات الرأسمالية؛ هذا بينما يقصر أصحاب الحق عن نفض الأغبرة عنها والانتفاع منها في مقاومة أخطار وجودية محدقة. الضرورة ملحة لأن يعيد السياسيون العرب والفلسطينيون، الموالاة والمعارضة، وكذلك المثقفون نشر مؤلفي شرابي وكيث وايتلام وغيرهما من البحوث في العلوم الإنسانية وإدخالها في التقافة السياسية، والاسترشاد بمضامينها في حملة التغيير الاجتماعي ونقل المجتمع الفلسطيني وكل المجتمعات العربية الى فضاءات الحضارة الإنسانية.
يتنامى توليد طاقة الحراك الشعبي باضطراد تشحنه بالوعي وترشيد النظرية الثورية تمارسها حركةٌ ثوريةٌ . تستدعي الضرورة حزبا ثوريا مولد طاقة –دينامو- يطرح ثقافة عملية على الجماهير المتطلعة لتغيير أوضاعها ويشحنها بآمال النصر. في هذه الأجواء يتصدر اليسار الحركة التقدمية ويعيد لمنظمة التحرير دورها القيادي .
المواد الفكرية جاهزة لتخرج اليسار من حيرته وارتباكه. لم يتبق غير مبادرة قيادات اليسار لنفض الكسل الذهني واستئناف البحث في الجديد الطارئ في الحياة الدولية وفي المعرفة. فالتصدي لهجوم الليبرالية الجديدة وثقافتها اللاإنسانية المتواصل منذ نصف قرن، حيث ازاحت الليبرالية القديمة ومؤسسات المجتمع المدنيمن الوجود. ثقافة التحرر الإنساني تضطلع بمهمة حماية جماليات العقل والذود عن إنسانية البشر وضمان حقهم في الحياة الآمنة والتطور الوطني المستقل.