أسرى الأمل في فلسطين: جوع وموت في سبيل الحرية والكرامة

المحامي جواد بولس | فلسطين
قد تكون المآسي اليومية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية المحتلة أكبر شاهد على حقيقة غياب ما يسمى “الضمير العالمي”، وتسامح أصحابه مع تجاوزات الاحتلال الاسرائيلي اليومية، واعتداءات جنوده على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم. لم تعد عناصر جيش الاحتلال هي القوة الوحيدة التي تقتحم المدن والقرى الفلسطينية وتعيث فيها الفساد وتزرع الخوف بين سكانها وتعتدي عليهم بأساليب قمعية وترهيبية غير مسبوقة، بل صارت تنافسها وتسبقها كتائب قطعان المستوطنين المسلحة، التي بتنا نتابع جرائمها بقلق ونشاطاتها الدموية المكثفة في مناطق فلسطينية متفرقة من جنوب الأراضي المحتلة حتى شمالها.

يتشبث الفلسطينيون بحقهم في الحياة فوق أراضيهم وفي وطنهم، ويصرّون على انتزاعه بكل وسائل النضال المقدّرة لهم، والتي تكلّفهم أحيانًا التضحية بأرواحهم أو حرّياتهم حين يزجّ بهم في سجون الاحتلال. ومن حق أولئك المناضلين علينا، وعلى كل صاحب ضمير ونخوة وكرامة، أن نتذكرهم وهم يواجهون زمن المحنة، وأن نقف إلى جانبهم، فالحر أخ الحرّ .. بالنطق وبالاسناد طبعًا، اذا “لم يسعف الحال”.

يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي حاليًا ما يقارب (4700) أسير من بينهم (31) أسيرة و(190) قاصر، لم تبلغ أعمارهم الثمانية عشر عامًا، وحوالي (800) سجين إداري. يحمل كل أسير من هؤلاء قصة تستحق التوثيق والكتابة عنها؛ فتاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية هو في الواقع سجّل نابض وثّق وما زال يوثّق تفاصيل كفاح الشعب الفلسطيني من أجل نيل حريته والعيش في دولته المستقلة بسلام، أسوة بشعوب الأرض؛ ومن جهة أخرى، يفضح، هذا السجل، جرائم الاحتلال وتواطؤ معظم دول العالم معه وسكوتهم المستفز عن موبقاته وتمكينه ليصبح أطول وأشرس الاحتلالات في العصر الحديث.

لن تكفي مقالة واحدة للتعريف بما قاساه ويقاسيه الأسرى الفلسطينيون وراء قضبان قمع الاحتلال الإسرائيلي، لكنني سأسلط الضوء في هذه العجالة على حالتين استثنائيتين تتداعى فصولهما المأساوية، هذه الأيام، وراء قضبان القهر دون أن تحظيا بما تستحقانه من رعاية واهتمام محلي وعالمي. فالأولى هي حالة الأسرى المرضى الذين لا ينالون حقهم في الرعاية الطبية الملائمة داخل السجون الاسرائيلية؛ فيمرضون ويعانون ويرحل بعضهم من عالمنا، جراء سياسة الاهمال الطبي من قبل المسؤولين فيما يسمى “مصلحة السجون الاسرائيلية”، تاركين وراءهم عائلات تتأسى ورفاقًا ينتظر بعضهم نهاياتهم المرّة بكبرياء وبمقاومة، كما يليق بمن يحسبون أنفسهم مشاريع شهداء وهم أحياء. والحالة الثانية، هي فئة الأسرى الاداريين، حيث أعلن ثلاثون منهم في الخامس والعشرين من الشهر الفائت اضرابًا مفتوحًا مستمرًا عن الطعام.

لقد خبّرتكم قبل عام عن حالة الأسير ناصر أبو حميد، الذي زرته، حينها، في سجن عسقلان بعد أن أجرى له أطباء مستشفى ” برزلاي” عملية جراحية استأصلوا فيها من رئتيه ورمًا خبيثًا. لم تشفه العملية، فخلال هذا العام تدهورت حالة ناصر بشكل ملحوظ، اذ تبين أن مجرورات المرض الخبيث منتشرة في جسده، ولا يوجد ما يستطيع الأطباء فعله. أو كما كتبت مؤخرًا إحدى طبيبات مستشفى “أساف هروفيه” بعد أن أجرت فحوصاتها الطبية لناصر : “لا أرى وجود أي امكانية وحاجة لاخضاعه لعلاج كيماوي، فهذا لن يساعده؛ أوصي بتأمين علاج حاضن واسنادي له”. ثم أضافت، بلفتة انسانية استثنائية، لا يحظى بها الأسرى الفلسطينيون عادة من جهة معظم الاطباء الاسرائيليين، فكتبت: “أوصي بالاخذ بعين الاعتبار امكانية الافراج عنه، كي يمكث مع أهل بيته في أيامه الأخيرة”.

كتبت .. وماذا يعني لو كتبت؟ ممثلو نيابة إسرائيل الرسمية أعلنوا رفضهم الافراج عنه متذرعين بوجود مواد قانونية لا تجيز لهم ذلك.

قد تكون قصة عائلة ناصر أبو حميد عيّنة موجعة لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ومثالًا بارزًا لحدود التضحيات التي يختار دفعها فلسطينيون كثيرون في سبيل تحرير أرضهم والذود عن كرامتهم ؛ فالاسير ناصر أبو حميد هو من سكان مخيم الأمعري، الذي يتوسط، كنغزة في خاصرة التاريخ، مدينتي البيرة ورام الله، وهو واحد من بين خمسة أشقاء يقضون في سجون الاحتلال أحكامًا مؤبدة، أي لمدى الحياة، وذلك بعد ادانة كل من نصر وناصر وشريف ومحمد بتهم أمنية، وثم ادانة شقيقهم، اسلام، في العام 2018، مثلهم بالحكم المؤبد. كما ويذكر أن شقيقهم، عبدالمنعم أبو حميد كان قد استشهد في العام 1994.

لقد تمنّت أم ناصر، عندما علمت بمرض ابنها، أن ينتصر عليه ويقهره “كما قهر الاحتلال”. هكذا قالت في حينه؛ لكنّها تعرف اليوم ما يعرفه الجميع، وتتمنى، وهي المرابطة بعزة وبصمود على ضفاف المستحيل “أن يخرج ناصر محرّرًا ولو ليوم واحد” وأن يموت في حضنها “في بيته، وأن يدفن بكرامة في تراب الوطن”.

كم من الشر يجب أن يختزن “السجان” كي يرفض تحقيق مثل هذه الأمنية ؟ وماذا يمكن أن يقال ويكتب بعد سماع أمنية أمّ لا تحلم إلا بأن تحتضن جسد ابنها للحظة قبل أن يصير نجمة فلسطينية تضيء سماء الملائكة والأحرار في العالمين؟

يوجد في سجون الاحتلال زهاء ثمانمائة أسير اداري. تعتقلهم اسرائيل بناء على ما تسميه “معلومات سرية” وبدون مواجهتهم بتهم عينية؛ ويتم تقديمهم إلى محاكم صورية لا تكفل لهم أدنى شروط المحاكمة النزيهة وحق الأسير بالدفاع القضائي السليم عن نفسه ودحض الاتهامات الموجهة اليه. رفض الأسرى الفلسطينيون في الماضي قبول سياسة الاحتلال في ممارسة الاعتقالات الادارية وقاوموها بأساليب مختلفة حيث كان الاضراب عن الطعام، سواء الفردي أو الجماعي، أبرز تلك الأساليب وأكثرها صخبًا وإثارة وربما تاثيرًا من حيث نجاحهم في تسليط الضوء على التجاوز الاسرائيلي ولفت نظر المجتمع الحقوقي، المحلي والدولي، لعذابات ضحايا تلك الممارسة الاحتلالية الاسرائيلية المقيتة.

في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر الفائت أعلن ثلاثون أسيرًا اداريًا شروعهم في اضراب مفتوح عن الطعام. وقد يكون دوري، في هذه العجالة، أن أطلع القراء على ما جاء في بيانهم الأوّل الذي وجّهوه لأبناء شعبهم الفلسطيني ولجميع الأحرار والمناصرين في العالم، فقالوا : “على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولأعداء الانسانية نقول: على هذه الأرض ما يستحق النضال كي نتمكن من الحياة .. مطالبنا: هواء نقيّ، وسماء بلا قضبان، ومساحة للحرية، ولقاء عائلي على مائدة. بينما يطلب الاحتلال سلخنا عن واقعنا الاجتماعي وعن دورنا الوطني والانساني، وتحويلنا إلى ركام.” ثم يتوجهّون إلى أبناء شعبهم وضمائر العالم ويخاطبونهم معلنين : “نحن أبناء الأرض ، ورثة أبو عمار، والحكيم ، والياسين، والشقاقي والقاسم، ورثة الشهداء . نحن رفاق ناصر أبو حميد الذي فضح مجددًا، بوجعه وبمرضه، حقيقة الاحتلال الفاشي، نقول بثقة وبغضب: واهمٌ كل من يعتقد أن اعتقالنا سيحوّلنا إلى حطام .. فرغم القتل البطيء نعلنها صرخة رفض للظلم، ونعلن أن النضال ضده هو غذاء أرواحنا المحلّقة في سماء الوطن. وعبر هذا النضال، وباسناد شعبنا المقاوم، سنصنع غدًا مشرقًا. أيها الأحرار في كل مكان، نحن نخوض هذه المعركة ضد سياسة الاعتقال الاداري آملين أن تتدحرج بانضمام كل المعتقلين الادارين لها، فهي حلقة هامة في سلسلة النضال لانهاء هذه الجريمة البشعة، وما يميّزها أنها تحمل على أكتاف مجموعة مناضلين ارتضوا خوضها لاعلاء الصوت ضد ظلم الاحتلال، وعلى طريق انهاء هذه السياسة التعسفية، فالارادة تصنع المستحيل.”

من المبكّر أن نتكهن كيف سيتدحرج والى أين هذا الاضراب؛ فمنسوب الغضب واليأس في فلسطين مرتفع حتى درجة الغليان والانفجار، بينما تزداد موبقات سوائب المستوطنين المنفلتين بوحشية دموية، محاولين اشعال الحرائق ومستغلين أجواء هذه الأسابيع التي تسبق موعد الانتخابات القادمة للكنيست؛ فمؤشر ازدياد قوة الفاشيين يتطلب مزيدًا من الدماء الفلسطينية، وكثيرًا من الشر الذي، كما قلنا مرارًا، لا يعرف إلا أن يتمظهر بطبيعته العادية ، صفراء كالموت وبيضاء كالعدم.

بالمقابل، لا يمكن أن نغفل انه ولأكثر من خمسة عقود يحاول جنرالات الاحتلال القضاء على حلم الفلسطينيين بكنس الاحتلال، واجهاض اصرارهم على مقاومته ولم ينجحوا؛ فها هي السجون وجدرانها تشهد على تلك العزائم التي لم تقهر وعلى أرواح رفاق ناصر أبو حميد الذين سقطوا قبله بأمراضهم فبقيت زفراتهم وعودًا حرّة ترفرف في الفضاء وأنفاسًا تتجدد في أحضان أمهات يعرفن كيف يبكين بصمت وبكبرياء وهن يرددن، ما قالته أم ناصر في احدى مقابلاتها الصحفية، على لسان ولدها: “حرّ أنا رغم القيود بمعصمي .. أحيا عزيزًا ولا أذلّ لمجرم”.

هكذا تختصر لنا من أسميتها مرّة “وردة من الأمعري” حكاية أمهات أسرى الحرية الفلسطينية، وقصص مئات الأسرى الفلسطينيين، المرضى والإداريين؛ فهي، وإن بكت، تقول وتحيا عزيزة..

وسيبقى القول ما قالت الأمعرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى