التحليل السياسي: بعد سكوت المدافع
د. خضر محجز | غزة – فلسطين
يقول ماركس في الثامن عشر من برومير: “إن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم؛ لكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجَهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي”.
إذن فالبطل التاريخي ليس مطلق اليدين. وربما ـ حتى لا يوجد البطل الذي هو مطلق اليدين، إلا في أساطير الآلهة ـ لكنه محاط بالشعب الذي ينتظر الخلاص، والظروف التي تعاند الخلاص.
فالبطل التاريخي ممثل حركة ذات مغزى، تضم أقساماً كبيرة من المواطنين. وهو عظيم لأن عاطفته الشخصية، وهدفه الشخصي، يتوافقان مع هذه الحركة التاريخية العظيمة، لأنه يركز داخله جوانبها الإيجابية والسلبية، لأنه يعطي هذه النضالات الشعبية تعبيرها الأوضح، ولأنه حامل رايتها في السراء والضراء.
إنه ليس ممثلاً للأيديولوجيا، ولا ناطقاً باسمها، بل باسم القسم الأعظم من الناس، وهم البسطاء، الذين تتلخص الأيدلوجيا عندهم في كلمات: حرية الاعتقاد، والتحرر من الخوف، وتوفير المسكن والمطعم، والاطمئنان على مستقبل الأولاد.
تتأتى عظمة البطل التاريخي من قدرته الفذة على المواءمة بين الممكن والحلم.
قلت سابقاً إن صلاح الدين كان بطلاً تاريخياً. ولم يسألني أحد: لم؟
لقد جمع صلاح الدين أقصى ما يمكن للأمة في زمنه أن تجمع من الوسائل. إن لديه حلماً هو حلم الجماهير، غير القادرة على تحقيقه، ويوُاجَه بعالمٍ يعاند حلمه: عالم عربي في حالة ضعف، وأوروبا موحدة تقاتل بضرواة.
ماذا يفعل؟
لقد وحد عالمه بكل الوسائل، فتخزن لديه أقصى ما يمكن من فائض القوة، في مرحلة كانت أوروبا تنفض يدها من مملكة القدس، التي صدق حكامها أنهم ملوك القدس. فاقتنص صلاح الدين اللحظة وهجم. وحقق حلم الأمة في حطين، وبعدها حرر القدس.
لكن ما حدث بعد ذلك أوشك أن يبدد هذا الانتصار: هبت أوروبا بكل ثقلها، وملأت البحر سفناً ورجالاً وحديدا، وبدأت تستعيد ما ضاع منها.
هنا تبزغ العبقرية مقابل حمق الأيديولوجيا. كان لا بد لكي نحتفظ بالنصر أن نتخلى عن بعض المكاسب، ولو إلى زمن مختلف.
هكذا تم توقيع صلح الرملة الذي تخلى بموجبه صلاح الدين عن كل الساحل الفلسطيني. وبقي محتلاً إلى عهد بعيد حيث ابن قلاوون.
الآن حقق الفلسطينيون نصراً خطيراً، يوشك أن يقلب الغرب وإسرائيل عليهم.
لقد بدا الفلسطينيون خطراً حقيقياً يستدعي دعماً أكبر لوحشية أكبر لدولة إسرائيل، التي لا يمكن تصور أن تقبل بالبقاء تحت التهديد، الذي ذاقت بعض آثاره.
لكن يبدو أن البطل التاريخي غير موجود لاقتناص اللحظة
اتفاق يترجم النصر إلى مكاسب سياسية، يقنع العدو بأننا لا نشكل خطراً، إن منحنا بعض ما نطلبه.
لهذا قلت إننا إن لم نفوض الرئيس استحلاب هذا النصر، فقد صار النصر هزيمة، باعتبار ما سيلد من أخطار تقترب.
اللهم إني أعلم أن أقول هذا الكلام لمن لا يستفيدون منه، لكنه ميثاقك الذي أخذته على أولي العلم.