لماذا أنا ضائعٌ إلى هذه الدرجة من البؤس؟
فراس عمر حج محمد | فلسطين
صباحكِ الخير، ومساؤك الرضا، وأسعد الله كل أوقاتك، أرجو أن تكوني ذات مزاج جيّد، يسمح أن تحتملي حماقاتي في هذه الرسالة. اليوم ليس يومَ عطلتك، ولكن آمل أن تجدي الوقت لتقرئي، لعلّ قراءتك تبدّد بعضاً من غيومي.
في الحقيقة لا يكفّ عقلي عن التفكير بالأشياء التافهة والسطحية، لا أعرف كيف يفكر العظماء إجمالاً، إنهم بلا شكّ يفكرون على نحو مختلف.
عملي أصبح شاقّاً، وصارت قدرتي على احتمال الآخرين وحماقاتهم تتضاءل يوماً بعد يوم. آمل ألا أفقد السيطرة على نفسي يوماً ما. لا أحب أن أكون شرساً وحادّا، أريد أن أقدّم واجبي. كثيرون ممن حولي يعيقني فلا أستطيع أن أودي عملي كما أرى.
يوم الخميس كان يوماً قلقاً، كل شيء من حولي كان متوجساً، كنت على أهبة الانفجار، لولا رحمة الله التي تداركتني مراراً. العمل مع المعلمين ومديري المدارس والطلاب والمسؤولين “الحمقى” كله مشاكل، بل كل الوقت مفخخ بالمشاكل، وقابل للانفجار في أي لحظة. للمعلمين ومديري المدارس طرائق شتى في إعاقتي عن العمل، إنهم بالفعل لا يعرفون الانتماء، وهم يقصّرون في أداء واجباتهم، ومن يلتزم قليلون جداً. إنهم ندرة هذا العصر، لاسيما بعد غياب الرادع والعقوبات، وكثرة المنافذ، فكورونا وفّرت مساحات شاسعة لخراب الضمائر.
ثمة صورتان تتنازعانني في العمل، وإحداهما تطغى على الأخرى، الكاتب يطغى على المشرف التربوي ويسيطر عليه، هكذا يقول أحدهم، وأتعامل مع المعلمين بخبرة الكاتب والمثقف والعارف.
يغرقني هذا الفريق بالذم الشبيه بالمدح، فأنا إذن فاشل في كيفية توجيه المعلمين لما يفيدهم. هذا النوع من المعلمين ومديري المدارس حدد سقفه وجعله واطئاً، هو يزحف على استه، والمعلمون أيضاً معه زاحفون. لا يريدون أن يرتقوا إلى آفاق من المعرفة المتحررة من الوهم. مَنْ المُخوّلُ إذاً برفع المستوى، إذا كلنا سنعمل ضمن هذا السقف الواطئ جداً؟ سيأتي يوم لنجد أن المعلم والطالب والمدير والمشرف التربوي والمسؤول “الأحمق” يزحفون على أُسُتِهم، ولا يعرفون أن لهم أرجلاً خصصتها الطبيعة البشرية للمشي أو القفز أو التمتع بجمال القامة المنتصبة.
فأنا كما أرى نفسي لست مجرد “مشرفٍ تربويّ”. إن لي أفكاراً تربوية وعقلية تربوية خاصة، أودعتها مقالاتي التربوية التي اطلعتِ على معظمها.
فأنا أكاديمي وكاتب تربوي، أدعم المهنة بالتفكير والكتابة ولا أقف عند حدود التعليمات القاصرة، مع أنني لا أخالفها، ولكنني على استعداد دائم لإضاءة ظلمتها، وإكمال قصورها.
عليّ الاعتراف أمامك الآن أنني أعاني من هذه المعضلة، الكلّ يشدك نحو الأدنى والأسخف والأتفه، لن أمدح نفسي، فمادح نفسه كذاب بالتأكيد، ولكن ما حيلة المرء إن لم يجد من يقدّر قدراته حق قدرها، لقد سألت نفسي وأنا أغرق في محاسبتها: متى يضطر الإنسان إلى مدح نفسه؟ لا ريب أنه يلجأ إلى ذلك عندما لا يجد من يقدره بشكل جيد. ها أنا بين يديكِ مفاخر بنفسي وأمدحها. أنت الوحيدة التي لن تقولي: مادح نفسه كذاب، لأنك تعرفينني معرفة أكيدة.
ضاعت مني على ما يبدو صورة المشرف التربوي، وصرت كاتباً متعالياً بالمعرفة على الزملاء، لذلك يطالبونني بأن أنزل إلى مستوى أقلّ خلال المناقشات والتدخلات التربوية التي أقدمها أمام الطلاب والمعلمين.
زيارة يوم الخميس كانت محبطة بشكل لا يوصف. هل فعلاً كنتُ بهذا السوء؟ لا أدري. إلى الآن أفكر جيدا بالموقف كله.
على أيّ حالٍ لو صدق هذا الذي يدعيه المعلمون والمديرون أكون قد شوّهت صورة المشرف التربوي، وصار لا جدوى لي في الميدان، هل أصبحت أنا كذلك، كزميلي المتقاعد “لا حاجة فنية لي”. يبدو أن المؤشرات خطيرة.
لقد أخبرتكِ في إحدى هذه الرسائل، أنّ شخصيتي ككاتب أيضا تسيطر عليها شخصية المشرف التربوي، اللغة القاطعة اليقينية، الرأي الحاد الذي لا يحق لأحد أن يحطمه أو يتجاوزه، لغة الأمر والوجوب في مقالاتي كأن الكاتب أو القارئ الموجهة له تلك الكتابات تلميذ بحضرة أستاذ أو معلم بحضرة مشرف تربوي. هذه ملحوظات الدكتور عادل الأسطة، وصديقي حسن عبادي الذي يُديم تذكيري بها كلّما جرّنا النقاش إلى منطقة الكتابة وأسلوبها.
ها أنا إذن لا كاتب ناجح، ولا مشرف تربويّ ناجح، ضعت بين شخصيتين، كأنني أقع في فخّ “حماقة الغراب”، فلا هو أصبح طاووساً ولا ظل غراباً عندما حاول تقليد الطاووس. مع فارق في الحمق كبير جداً؛ أنني لم أقلد أحداً من الكتّاب أو المشرفين التربويين، دائما أردت أن أصنع لي شخصية مهنية خاصة مدعومة بــ “التفكير المكتوب”، وتعتمد على تطبيق القوانين والتعليمات بطريقة حازمة دون التذرع بذرائع غير مهنية وغير إنسانية، وأردت للمعلمين والطلاب وحتى الزملاء المشرفون أن أقدّم كامل خبرتيّ في الثقافة والتربية دون مَنٍّ أو تبجّح.
بل إنني أفرح كلما أسديتُ لأحدهم خبرة أو معروفاً أو خدمة. كذلك كوني كاتباً كنت دائماً على استعداد لمساعدة الكتّاب الأصدقاء، بقراءة مسوّدات كتبهم ومراجعتها وتدقيقها وتحريرها.
وأنتِ أعلم الناس بهذا كلّه. ولم أسع يوماً إلى تقليد أحدٍ من الكتّاب، إنهم مدارس في أساليبهم وكتبهم، وأنا أردت أن أكوّن مدرستي وأسلوبي. مخايل الفشل واضحة الآن!
هل تعلمين أنني أغبطك على عملك، إنه مختلف كليّا عن عملي؛ فلا شيء فيه يدعو إلى الانفصام، وأغبطك على كتاباتكِ التي تخلصت من المراوحة بين مكانين يتنازعان الحضور في الكتابة، ليتني لم أكن مشرفاً تربوياً مع أنني أحبّ هذه المهنة حبّا غير عادي، وفخور بكوني مشرفا تربويا، على الدرجة نفسها بكوني كاتباً. يبدو أن من الحبّ ما أهمّ وأغمّ وفضح إن لم يقتل. لا حاجة أن أقول لك: إنني لا أتخيّل نفسي إلا كاتباً، وأيضاً لا أتصور نفسي إلا مشرفاً تربوياً.
أعتقد أن أحدنا على خطأ؛ إما أنا وإما المعلمون، هل علينا أن نفهم بعضنا بشكل أكثر شفافية ومصارحة. المعلمون في المجمل لا يحبّون أن أزورهم، وحتى مديرو المدارس، أجد نفسي ضيفاً ثقيل الظل، أو الدم. وكل يوم تزداد المسافة بيني وبين المعلمين والمديرين، مساحة الود والاحترام تتقلص يومياً وبعد كل زيارة. “كأنّ الودّ ظل في صباحٍ يزيد تقلصاً حيناً فحيناً”، مع الاحترام للشاعر، وليعذرني على التغيير لدواعي الكتابة!
لا شيء يعجبني فلا أسكت. هذا يزعج الآخرين، لذلك سأجد نفسي على القارعة وحيد وحدي، نبياً مكروها ملفوظاً، وأسفاري العبثية الأفكار ملقاة في سلة المهملات؛ فالمعلمون والمديرون لا يقرأون أفكاري ولا مقالاتي، ولا يعملون بالتوصيات، ويلقون التقارير في الملفات دون أي اعتبار، لأنه لا مآل لتلك التقارير سوى أنها علامة على زيارة كان فيها الكثير من القلق والتوجس وشد الأعصاب وضبط النفس، وقد أَمِن المعلمون والمديرون العقاب، فمهما كتبت، لا أحد سيعاقبهم لأنهم محميون بسلطاتهم التنظيمية الفاشلة التي خربت البلاد والعباد، أو يتمترسون خلف غوغائيتهم الفيسبوكية التي تشجع الآخرين على الرجم والسباب واللطم وفتح المناحات، أو يلجأون إلى أركانهم الشديدة التي تخلصهم من العقاب والمساءلة. ولا تجد من المسؤولين “الحمقى” أي تقدير لأي جهد بعد ذلك. في ظل هذا الجو القاتم لا أحد يستطيع أن يعمل بحب وإخلاص، فالأعداء كثرٌ، ولا أصدقاء.
هذه يا عزيزتي عناصر محبطة، فكم أستطيع أن أصمد، وأقاوم، وأنا أخسر يوميا من عمري يوما أقضيه مهموما مغموماً. لا يومَ عندي أسعد من مساء يوم الخميس، عندما أغادر مكتبي الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، فعندي يومان كاملان ومساء طويل لأتخلص من هذا الانفصام المرضي الذي حشرتني فيه مهنتي الجائرة.
أرجو أن تحتملي هذه الحماقات الباعثة على تعكير المزاج، فلا أحد أشكو له وأفضفض غيرك، لا أحد يفهمني من المحيطين بي، في الأسرة، إنهم محبطِون، ولا يفكرون بغير أنفسهم، طالت المسافة بيننا أيضاً. العلاقة بيننا قائمة على المصلحة التي تسيّر أمر استقامة الحياة بعشوائية خالية من الروح، مُلَخّصة في كلمتين: “هاتِ، واشترِ” لا شيء غير ذلك. لا أحد يريد أن يسمعك، بل لا أحد عنده وقت لك. الكل مشغول بعالمه الذي وضعته فيه الحياة، فلو تكرمتِ عليّ بوقت قصير لقراءة هذه الحماقات بالفعل سأكون لك من الممتنين. لأن لك أيضاً عالمك المعقّد أيضاً.
لا وقت على المدى المنظور لنلتقيَ، لعلي أثرثر بحضرتك أكثر. آمل أن تتاح لنا الفرصة؛ فيصلح الحال بيني وبينك، فيا “ليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ”؛ لنقول أكثر مما نكتب. على ما يبدو لي الآن بعد هذا الفائض الهشّ من اللغة واللامنطق أنك لو كنت معي لكنت أكثر اتزاناً. ربما، لست أيضاً على يقين.
مهما يكن من أمر نفسي. أتمنى لك عمرا ملئيا بالفرح والخير والسعادة.
وإلى لقاء…