أدب

تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء

دراسة الجيل التسعيني للناقد د. سعيد حميد كاظم تأسيسيّة مُهمَّة وحافزة

نزار وجيه فلوح | مدرس جامعي سوري

باحث وكاتب ومترجِم مهتمّ بالدراسات الأدبية والنقدية
قد لا يعرف القارئ العربي، حتّى المتابع المهتمّ، الكثير من تفاصيل المشهد الشعري العراقي المعاصر في اسمائه وأجياله ومُنجزاته الإبداعية الغنيّة. وقد جاء عمل الباحث د. سعيد حميد كاظم ليضيء جانباً مُهِمّاً من هذا المشهد الواسع، إذ خصَّص كتابه «تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء: دراسة في الجيل التسعيني» (دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2013- 242 صفحة) لدراسة نتاج شعراء هذا الجيل من بين شعراء العراق المعاصرين، بما يحمله من خصوصية ثقافية وفكرية وفنيّة.


تنوع كبير وتباين
يشير الباحث د. كاظم في مقدّمة كتابه إلى التعدُّد الكبير للتجارب الإبداعية، وتباين الآراء النقدية حولها، ثمّ يقف مليّاً عند فكرة التجييل وأثرها الإيجابي في إيجاد حركة أدبية مُمَيَّزة في العراق، توزعت على شطرين: شطر شعري وآخر نقدي، وهذا الشطران يتبادلان التأثر والتأثير على الدوام.
وتنبع أهمية الدراسة من كونها تحاول أن ترسم ماهية فكرة «التجييل» وتُحَدِّد إطارها، وتتابع أصولها ونشأتها، ومحطّات سيرها البارزة. كما تسعى إلى دراسة المُنجَز الإبداعي الشعري الذي دار في فلكها، مع استجلاء المشروع النقدي لهذا الجيل والبيان الشعري له أيضاً.
دوافع البحث
أمّا دوافع البحث، فلخَّصها الباحث في أنّ الجيل التسعيني لم يحظَ بالاهتمام البحثي والنقدي الذي حظيت به الأجيال السابقة، إذ استعرض عدداً من الدراسات السابقة التي تجاهلت النظر إلى نتاج هذا الجيل، أو مرّت به عَرَضاً، أو قدّمته ضمن الجيل السابق له، أو اقتصرت في البحث على شاعر واحد من شعراء هذا الجيل، ولم تنظر في تجربة الجيل التسعيني نظرة تتصف بالشمولية والعموم، فما تزال ساحة الشعراء التسعينيين – في رأي الباحث – أرضاً بكراً تستحق البحث والعناية والمتابعة.
فصول الكتاب
بنى د. سعيدحميد كاظم دراسته على ثلاثة فصول سُبِقَت بمقدّمة عرض فيها فكرة البحث ومسوِّغاته وأهم نقاطه وإجراءاته وصعوباته، وتلَت الفصول خاتمة مهمّة أوجز فيها أبرز ما توصّل إليه من نتائج ودلالات حول شعر الجيل التسعيني وما صاحبه من اشتغال نقدي. أمّ الفصول الثلاثة التي تألفت منها الدراسة، فهي:
1- الفصل الأول: التجييل، الأصل والصورة والمآل.
2- الفصل الثاني: بنية التجاور.
3- الفصل الثالث: بنية التجاوز.
قد لا يكفي هذا التعداد لعنوانات الفصول لتقديم فكرة مفيدة حول عمل الباحث وما قدّمه في دراسته الجادّة، ولذلك نعرض ببعض الإيجاز ما احتوت عليه فصول الكتاب.

فكرة التجييل
خصّص الباحث الفصل الأول لتفصيل القول في «التجييل» بدءاً من جذوره الأولى، وأصوله في المشهد النقدي، وصولاً إلى المحطّات النظرية والتطبيقية له عند الجيل التسعيني.وجاء هذا الفصل في ثلاثة مباحث، اختصّ الأول منها في إشكالية تعدُّد المصطلح ومدى صلاحيته من الوجهتين التنظيرية والإجرائية، وذلك من خلال مدى تبنِّي هذا المصطلَح أو رفضه، أو استخدامه بشكٍّ وحذر، أو استخدام مصطلحات مقابلة له أو بديلة عنه. وتناول المبحث الثاني قضية «التجييل» من حيث المفهوم وتنوعه وتباينه بين ناقد وآخر، فهناك التجييل العَقديّ (نسبة إلى العَقد من السنوات العشر)، والتجييل التاريخي الذي يعتمد على أحداث تاريخية وسياسية ومجتمعية مهمة ومفصلية وفاعلة، والتجييل الإبداعي الذي يعتمد القيمة الفنية والإبداعية للعمل الشعري من داخله وليس اعتماداً على عوامل ومعطيات خارج النصّ الإبداعي. أمّا المبحث الثالث في هذا الفصل، فحمل عنواناً بليغ الدلالة «الجيل التسعيني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل»، إذ خصّصه المؤلف لبحث الحاضنة التي نشأ فيها هذا الجيل، والأطر العامّة والخاصّة التي أسهمت في ولادة الجيل التسعيني، والمفاصل الحيوية في ولادة ذلك الجيل، وصولاً إلى البيان الشعري للجيل التسعيني. فهذه المحطات الثلاث (الحاضنة – الولادة – التباين) شكّلَت مُسوِّغاً حقيقيّاً للاعتراف بالشعراء التسعينيين جيلاً.
بنية التجاور
تناول د. كاظم في الفصل الثاني بنية التجاور في المشهد التسعيني، بما يعني بنية المحاورة بين الجيل التسعيني والأجيال السابقة، أو التحاور على مستوى الأداء الشعري بين النصّ التسعيني والنّصّ السابق له، فعُنِي هذا الفصل برصد البُنيات الشعرية المتناظرة أو المتكرِّرة بين الأجيال. وقد عرض الباحث مضامين هذا الفصل في مبحثين درس في الأول منهما التجاور الجيلي وأهمية التأثر والتأثير بين الأجيال الشعرية كما تبدّت في نتاج الشعراء التسعينيين، ومنهم – على سبيل المثال – عبد السّادة البصري وعلي الإمارة ومشتاق عبّاس ونصير الشيخ وحسن عبد الراضي ومنذر عبد الحرّ ونجاح العرسان ومازن المعموري… والقائمة تطول. فيما خصّص المبحث الثاني لموضوع التجاور الشعري من خلال ثلاثة محاور، تطرّق فيها إلى: النزوح الصوفي، ومن أمثلته بعض أعمال الشاعرين ولاء الصوّاف وعلاوي كشيش، والتنافذ الأجناسي الذي تجلّى في قصائد الشاعرين مازن المعموري وأحمد الشيخ علي، والتشفير الفني عند الشعراء عمّار المسعودي وصلاح السيلاوي وطالب عبد العزيز ورعد زامل.
بنية التجاوز
خُصِّص الفصل الثالث من الكتاب لدراسة موضوع بنية التجاوز من خلال مبحثين اهتمّ الأول منهما بدراسة التجاوز على مستوى الأداء الشعري، فيما تناول الثاني التجاوز في مستوى البناء الشعري. ففي المستوى الأول المتعلق بالتجاوز على مستوى الأداء الشعري، أغنى الباحث موضوعه بستة محاور مهمة عرض فيها: الفضاء الضدّي الذي تجلّى في قصائد أحمد عبد الحسين وسلمان داود محمد…، وتمجيد السؤال البارز في قصائد عمّار المسعودي وعبد الأمير جرص ونوفل أبو رغيف. والخطاب المعرفي عند مؤيد حنون وأحمد آدم وآخرين، والتشكُّل السير ذاتي في شعر سلمان داود وحسين علي يونس، ومجانية التغريب التي جاء التعبير عنها في قصائد الشاعر موفق صبحي والشاعرة فليحة حسن. والهمّ اليومي كما أبرزته نصوص الشعراء ماجد الشرع ونوفل أبو رغيف وباسم فرات وغيرهم. وهي محاور مهمّة تدعو القارئ إلى التمعن في تفاصيلها الكاشفة عن الكثير من سمات شعر الجيل التسعينيّ في العراق. فيما احتوى المبحث الثاني من هذا الفصل (التجاوز في مستوى البناء الشعري) على ثلاثة محاور درسَت: قصيدة الشِّعر (العمودية الموزونة مع تفجير ما فيها من طاقات إبداعية كامنة لم تُستَثمَر: نجاح العرسان – مشتاق عبّاس – نوفل أبو رغيف – عارف السّاعدي – قاسم السنجري)، وقصيدة الومضةالخاطفة المُرَكَّزَة التي تكاد تكون – في رأي الباحث – امتيازاً خاصّاً بجيل التسعينيّات (يمثِّلها شعراء تسعينيون منهم ماجد الشّرع وسلام البناي وريم قيس كبّة)، ثمّ القصيدة التفاعلية التي تمثل حالة من الانفتاح في عالم الإبداع الشعري، وسمتها التبادل التشكيلي مع سائر الفنون، والتفاعل النَّصّي الرقمي من خلال الشكل الجديد المتَفرِّع الذي يقوم على توظيف مُحَفِّزات التخييل الحرفي والصوري والسمعيعبر الوسيط الإلكتروني المشارِك، وقد ظهرت بعض سماتها وملامحها في النتاج الشعري والنقدي للشاعر مشتاق عبّاس.

نتائج ودلالات
عرض الباحث في خاتمة البحث أهمّ نتائج عمله، فنوّه بأهمية فكرة التجييلوإيجابياتها، إذ ساعدت – في رأيه – على الاحتكام إلى التبدُّلات الشعرية وتلاوينها المتعددة، وقد مكَّنت الباحث من الإحاطة بهذا الشطر التسعينيّ من المشهد الشعري العراقي الضَّخم والواسع من خلال تجزئته جيليّاً. وقد أدّت دراسة هذا المشهد من خلال فكرة التجييل إلى الوقوف عند الخصوصية الشعرية للجيل التسعيني ثقافيّاً وفنيّاً وجماليّاً. على أنّ الباحث يُنَبِّه على أمر مُهِمّ هو عدم الاقتصار على الإطار الزمني في تصنيف الأجيال، بمعنى أنّه ليس من الضروريّ أن يولد جيل شعري كلّ عشر سنوات، فلا بدّ للتصنيف الجيلي من أن يتكامل من خلال إحاطته بزوايا نظر إضافية تتمثل في الأبعاد الثلاثة (الزمني – الأسلوبي – الفكري). ولذلك وقفكثير من الشعراء والنُّقَّاد إلى جانب فكرة التجييل الإبداعي الذي يتجاوز البعد الزمني ليكون معياراً مناسباً لاعتماده والتعويل عليه.
وكذلك أشار الباحث إلى خصوصية ما قدّمه نتاج الجيل التسعيني من تعبير خاصّ ومتفَرِّد عن شتّى أنواع القهر والألم والحصار ممّا عاناه شعراء هذا الجيل نتيجة الظروف والأوضاع السياسية القاسية التي عصفت بالعراق وأجهدت المجتمع العراقي. وقد مجّد هؤلاء الشعراء قيمة السؤال، وعدُّوه مفتاح المعرفة الأول.
لقدأغنىالنتاج الشعري لجيل التسعينيّات المُنجَزَ الشعري العراقي المعاصِر بإضافات مهمّة من خلال تجارب مُمَيَّزة ومتنوعة الاتجاهات، تجاوزت حدود المغامرة الشعرية، واكتسبت منزلة إبداعية وفنية تؤهلها للبقاء.ولذلك يلحَظ الباحث د. سعيد حميد كاظم، الحضورَ الراهن والمستمرّ لشعراء الجيل التسعينيّ في السّاحة الأدبية، وتأثيرهم الفاعل في المشهد الأدبي الصحافي والكتابي والإعلامي.
ستتكشّف للقارئ وهو يطوي الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب دلالات العنوان الذي وضعه الباحث لدراستهبصورة أعمق؛ فقد حظيت فكرة التجييل عنده باهتمام ملحوظ، إذ تناولها على الصعيد النظري والتنظيري بين قبول بها أو رفض لها، أو ميل إلى عقلنة المُصطَلَح وتحديده موضوعيّاً. وكذلك على الصعيد التطبيقي الذي برز من خلال جهود الدرس والتحليل التي انصبّت على المدوَّنة الشعرية لشعراء الجيل التسعيني في العراق.
عمل شامل ورحلة شائقة
تكتسب دراسة د. سعيد حميد كاظم قيمتها وأهميتها من أمور عديدة، لعلّ أهمّها أنّها تقدِّم معرفة أوليّة ضرورية لِمَن لا يعرف الكثير عن المشهد الشعري العراقي المعاصر عموماً، وعن الجيل التسعيني من الشعراء خصوصاً، فهي، من هذا الجانب أشبه ما تكون بموسوعة موجزة لشعر التسعينيّات العراقي ومصاحباته النقدية، إذ اشتمل البحث على مُدَوَّنة لشعراء الجيل التسعيني ثريّة بما حملته من تعريف بهؤلاء الشعراء وأعمالهم ونصوصهم، وما واكب نتاجهم الغني من دراسات وأعمال نقدية، إذ تطول القائمة لو أراد المرء الوقوف عند أسماء بعينها لشعراء ونُقَّاد شكّلوا علامات فارقة في هذه الدراسة التي تنمّ عن جهد بحثي كبير، وعمل مخلص، ووعي نقديّ عميق تسنده رغبة جادّة في الإتقان والإحاطة والشمول.
لا شكّ في أنّ القارئ سيُسعَد بمصاحبة هذا الكتاب الذي يأخذه في رحلة شائقة إلى أرض الشعر الأولى، ليكتشف الجديد والمثير. وهذه الدراسة المتميزة تقدّم إغراء للباحثين الذين يرغبون في مواصلة الطريق لدراسة نتاج هذا الجيل وموضوعاته وظواهره الفكرية والفنية، فهي بهذا المعنى دراسة تأسيسيّة مُحَفِّزَة يمكن أن يبني عليها الباحثون دراسات جديدة حول موضوع ممتدّ وواسع ومنفتح على أبعاد لا تنتهي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى