دراسة استقصائية شاملة للتجريب الروائي النسوي للباحث الناقد د. سعيد حميد كاظم
التجريب في الرواية العراقية النسوية
بقلم: ضرغام عارف السعيد|باحث جامعي سوري ومترجِم
مهتمّ بالقضايا النقدية والفكرية، له عدة مقالات منشورة وأعمال مترجَمة
كتاب “التجريب في الرواية العراقية النسوية بعد عام 2003″للناقد د. سعيد حميد كاظم (دار تمّوز – دمشق – 2016- 466 صفحة) كتاب نقدي مهمّ، ليس بالنسبة إلى الساحة الثقافية العراقية فقط، وهي محطّ اهتمام الناقد، بل بالنسبة إلى الساحة الثقافية العربية أيضاً، لأنّ العلاقة بين السّاحتين هي علاقة تفاعل وتلاقح يغنيان معرفة القارئ بهما.والعراق أرض الشعر واللغة والنحو والفنّ، يمور بالمثقفين والمبدعين إناثاً وذكوراً. والكتاب الذي بين أيدينا هو صفحة في سجل الثقافة النقدية العراقية المعاصرة، يقدّم فيه الباحث د.سعيد حميد كاظم دراسة استقصائية شاملة للتجريب الموضوعاتي والجمالي (التقني) عند عدد من الروائيات العراقيات اللواتي أثبتن جدارتهنّ في ميدان الإبداع الروائي، وقد أثبت الناقد جدارته أيضاً في دراسة أعمالهنّ.
قد يثير عنوان الكتاب حفيظة بعض الكاتبات وغضبهن، لأن تجنيس الإبداع الأدب والفكري، ووصفه بأنه أدب نسائي يفترض ضمناً وجود أدب رجالي في مقابله، وهو أمر خارج نطاق التداول الأدبي والثقافي الذي رضي بالتسمية الأولى ورفض الثانية، إضافة إلى أنّ تجنيس الإبداع الأدبي هو نتاج فكر ذكوري استعلائي ينسب الدينامية الإبداعية إلى جنس دون آخر، ناسياً أو متناسياً أنّ الفعالية الأدبية ذات طابع إنساني غير محدد بإطار الفروق الجنسية، وذلك بدلائل وبراهين أقرّتها الدراسات الاجتماعية والنفسية، ودعمَها التراث الحكائي العربي المتمثل في ألف ليلة وليلة التي أبدعت فيها شهرزاد رواية الحكايات وسردها، متحديّةً الموت والذكورة الإقصائيّة.
وعلى الرغم من أنّ المأثور الحكائي العربي قد أنصف المرأة الساردة قليلاً، فنحن ما زلنا ننتسب إلى ثقافة ذكورية، فلا عجب، إذاً، أن يترسخ هذا المصطلح في حياتنا الثقافية المعاصرة، كما ترسّخ قبله مصطلح الفحولة الشعرية الذي كان يُتَّخَذَ معياراً تقييميّاً للدلالة على تفوق الشعراء على أقرانهم. وقد سمّى محمد بن سلام الجُمَحي أشهر كتبه باسم (طبقات فحول الشعراء) معتمداً على المعيار ذاته في تصنيف الشعراء، ونتساءل بكل بساطة: إذا كنّا نستطيع تصنيف شاعر متفوق مثل النابغة على أنّه فحل. فبمَ يمكن تصنيف شاعرة بارزة مثل الخنساء. والأمر العجيب أن اللغة العربية ذاتها قد رفضت تأنيث هذه الكلمة التي تلازم الذكورة.
لقد ناقش الناقد د. كاظم هذه المسألة في أحد فصول الكتاب، وقلّبها على جميع وجوهها، وبيَّنَ الحجج التي تمنع استخدام هذا المصطلح والحُجَج المضادّة التي يمكن أن ترسِّخَه وتُثَبِّتَه في حياتنا الثقافية، ثم ركن في النهاية إلى رأي الناقدة يمنى العيد التي كانت في البداية من أشد الرافضين له، ولكنّها رضخت فيما بعد لقوة استعماله، وأدركت أنّه لا فكاك منه.
يناقش الكتابالرواية العراقية النسوية التي خاضت غمار التجريب، بعد عام 2003 الذي يشكل علامة فارقة في تاريخ العراق المعاصر، بين زمن دكتاتورية الحزب الأوحد، وزمن التعثُّر الاجتماعي والسياسي الذي فرض – في رأي الناقد – على الأدب العراقي الروائي تجربة أساليب أداء فنية جديدة تستوعب المرحلة الطارئة بكلّ أبعادها. ولكنّ السؤال الذي يلحّ علينا: هل استنفدت الرواية العربية عموماً التقنيات التقليدية، وصارت عاجزة عن استيعاب المضامين التي يصفونها بأنّها جديدة حتى صار من اللازم الاستعانة بتقنيات جديدة؟ أم هي مجرد “موضة” أو تقليد لما يرد إلينا من الثقافة الأوربية المهيمِنة، مع الانتباه إلى أنّ المجتمع الغربي هو مجتمع دينامي سريع التحول على عكس مجتمعاتنا العربية الراكدة التي تعيش على هامش التاريخ أو ربّما خارجه تماماً.
بذل الناقد جهداً واضحاً في تقصي جزئيات بحثه، ودراسة النصوص الروائية التي صدرت عن بعض الكاتبات العراقيات المتميزات رغم قلة عددِهِنّ كما هو الشأن في معظم الأقطار العربية، وعمل على توثيق بحثه بالرجوع إلى الكثير من المصادر والمراجع النقدية والإبداعية.ويتجلى ذلك في كثرة الهوامش التي، وإن دلت على دأبه الاستقصائي وأمانته العلمية (النادرة هذه الأيام)، فإنّها قد جاءت على حساب وضوح شخصيته باحثاً وناقداً.
تتكون محتويات الكتاب من مقدمة يليها تمهيد، ومن أربعة فصول. ويتألف كلُّ فصلٍ من محاور، أقلّها عدداً الفصل الأول المكوَّن من ستة محاور، وأكثرها عدداً الفصل الأخير الذي يتكون من ثمانية محاور. ثم تأتي بعد ذلك الخاتمة متبوعة بثبت بأسماء المراجع والمصادر التي تدل غزارتها وكثرتها على سعة اطّلاع الناقد، وثقافته الواسع، وحرصه الأكاديمي والعلمي على الإحاطة والشمول.
يستعرض الناقد في الفصل الأول معنى التجريب لغةً واصطلاحاً، مستأنساً بقول الناقد محمد برادة الذي أرجع البداية الأولى للتجريب إلى إميل زولا في كتابه الشهير “الرواية التجريبية” الذي أحدث انعطافة حقيقية في التاريخ الروائي، تمثلت في نماذج قليلة من سرفانتس إلى بيكت مروراً بجويس وبروست وكافكا. ومن المعتاد أن تتأثر الرواية العربية بالتطور الذي ألمّ بالرواية الأوربية تأثراً ميكانيكيّاً كما يحصل عادة في معظم مجالات الثقافة والفنّ والأدب، ولهذا يقرّ الناقد كاظم في التفاتة مُحِقَّة أنّ التجريب ينبثق من الأشكال التقليدية للرواية بهدف تفعيل دورها وإعادة توظيفها.
ويلفت نظرنا في الفصل الثاني دراسته التطبيقية لرواية “طشاري” للروائية إنعام كجه جي التي استفادت فيها من مفهوم آينشتاين عن الزمن النسبي، ومفهوم برغسون عن الزمن النفسي، وذلك في المحور الأول الذي يحمل عنوان هلامية الزمن.وألقى ضوءاً على رواية (الأجنبية) لعالية ممدوح التي نسفت التسلسل الزمني التاريخي للأحداث، وقامت بتمزيقه وبعثرته على الأمكنة، وكأنّها تسرد الأحداث من بنية الذاكرة الخائنة.
ومن المحاور الممتعة التي تشدّ القارئ، المحور الذي يتحدث فيه عن أثر الحدث في بلورة وعي الشخصيّات من خلال رواية “سيدات زُحَل” للكاتبة لطيفة الدليمي التي اعتمدت رؤيتها التجريبية على فهرسة الأحداث تحت مجموعة من العناوين، ولهذا سُمِّي بمحور فهرسة الحدث الروائي والتجديل الحكائي. أمّا المحور الذي يحمل عنوان الرمزية والتشذير السردي الفلسفي، فيناقش فيه روايَتَي لطيفة الدليمي “حديقة حياة” و”سيدات زُحَل”، فإنني أقترح على الباحث الناقد أن يستبدل بكلمة (فلسفي) كلمةَ (تأملي)، لأنّ الفلسفة أعمق وأشمل وأبعد غوراً ممّا ورد في الأعمال الروائية المذكورة.
أمّا الفصل الثالث، فيتناول المؤلف في المحور الأول منه الفانتازيا التي تلغي المسافة بين الواقع والحلم وبين الحسِّي والخيالي. ومن الروايات التي تتخذ من الفانتازيا ثيمة لها رواية “حاموت” لوفاء عبد الرزاق التي خلقت عالماً موازياً للواقع يرتكز على جدلية الحياة والموت. وينتقل البحث من محور إلى آخر، وكلّ واحد يحمل عنواناً مغرياً بالنقاش الذي لا تتسع له هذه المقالة. حتى يصل إلى موضوعة الجنس المحاط دائماً بالكتمان والابتسامات الساخرة في مجتمع يمارس الحظر على هذا العالم السرّي رغم فورة غرائزه التي تضجّ بالشهوة. وقد تصدّت الكاتبة بلقيس حميد حسن لهذه الموضوعة في روايتها “هروب الموناليزا”، وأبرزت المرأة ضحيةً لسلطة الذكر.
يبدأ الفصل الرابع: “التجريب على مستوى التقنيات” بمحور “مسرحة الرواية” الذي يدلّ على وجود تقاطع بين جنسين أدبيين، هما المسرحية والرواية، وتوحي الصياغة اللغوية للعنوان باستفادة الفنّ الروائي من بعض تقنيات الفنّ المسرحي. وهذا ما لمسناه في بعض أجزاء رواية “حديقة حياة” للروائية لطيفة الدليمي، وخصوصاً في المقطع الذي يحمل عنوان “كلكامش وشجرة الصفصاف”. ثم تتوالى عناوين المحاور التي يشير كلٌّ منهما إلى تقنية فنية تُثري النصّ، وتوسع دائرة الرؤية كالريبورتاج الصحفي والمخطوطات والصورة السينمائية…. الخ.
إنّ الكتاب أكبر من أن يتَّسع له مقال صحفي محدود، لأنّه غنيّ بالموضوعات والأفكار والطروحات التي يحتاج كلّ واحد منها إلى مقال، والقارئ الصبور يلمس بعد الانتهاء من قراءة هذا العمل النقدي مقدار الجهد الدؤوب والكبير الذي بذله الناقد في جمع مادته وصهرها في بوتقة هذا العمل الذي يشكل إثراء حقيقيّاً للمكتبة النقدية العربية عامّة، وللنقد الروائي خاصّة.